ترجمة وتحرير: نون بوست
في حال فاز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية لسنة 2020، فسوف تعترض طريقه مشكلة قديمة ألا وهي الحرب الأمريكية في العراق. لقد واجه هذه القضية منذ سنة 2002، عندما صوّت في مجلس الشيوخ لصالح الغزو الأمريكي للعراق، وطوال فترة خدمته كنائب للرئيس. كما يعتبر بايدن من بين المتسببين الرئيسيين في أزمة الهوية التي تطغى على الحزب الديمقراطي فيما يتعلق بالسياسة الخارجية.
إن حالة عدم اليقين بشأن كيف ومتى يجب على الولايات المتحدة الانخراط في الخارج حكمت بالفشل على سياسة إدارة أوباما في الحروب الجديدة في كل من سوريا وليبيا، وينطبق الأمر ذاته على الحروب القديمة في أفغانستان والعراق. ويستمر عدم اليقين هذا في الخطاب المشوش والمراوغ في الغالب الذي يستخدمه مختلف المرشحين الديمقراطيين في الانتخابات التمهيدية وهم يتصارعون للتعبير عن رؤية متماسكة لدور الولايات المتحدة في العالم.
يميل النقد الموجه له إلى التركيز على تصويت بايدن في مجلس الشيوخ لصالح قرار يجيز استخدام القوة العسكرية في العراق، التي لجأ إليها جورج دبليو بوش لتبرير الغزو
لقد سطع نجم بايدن من بين الحشود لسجله الطويل في الشؤون الخارجية والعراق على وجه الخصوص، حيث لعب دورا حاسما ليس في الحرب نفسها فقط وإنما في أعقابها الفوضوية التي نتج عنها ظهور تنظيم الدولة. وفي حين يتفاخر بايدن بخبرته في السياسة الخارجية باعتبارها من إحدى المميزات التي تؤهله لمنصب الرئيس، يصف خصومه ما حلّ بالعراق على أنه مثال رئيسي على سوء حوكمته.
يميل النقد الموجه له إلى التركيز على تصويت بايدن في مجلس الشيوخ لصالح قرار يجيز استخدام القوة العسكرية في العراق، التي لجأ إليها جورج دبليو بوش لتبرير الغزو. ولكن فترة قيادته لسياسة العراق خلال فترة ولاية باراك أوباما الأولى يرتبط أكثر بالوقت الراهن. إن من سيظفر بالرئاسة سنة 2020 من المحتمل أن يواجه معضلة مماثلة لتلك التي واجهها بايدن: أي وجود القوات الأمريكية الدائم، الشعب الأمريكي المنهك من الحرب، وعدو سقط ولكن لم يهزم بعد.
تبدأ هذه القصة في مطلع سنة 2009، بعد أن تولى أوباما رئاسة الولايات المتحدة ووعد بإنهاء الحرب العراقية التي لا تحظى بشعبية، حيث غادر البلاد آن ذاك 150 ألف جندي. لذلك، التفت الرئيس الذي تم تنصيبه حديثًا إلى نائب الرئيس وأمره بإعادة القوات إلى الوطن. وحيال هذا الشأن، قال أنتوني بلينكن، مستشار الأمن القومي لبايدن: “كنا نجلس في المكتب البيضاوي في يوم من الأيام ونتحدث عن [وجود القوات]، ونظر أوباما إلى بايدن قائلا “جو، أعتقد أنه يجب عليك القيام بذلك. نحتاج إلى صب جل تركيزنا على البيت الأبيض. أنت تعرف العراق أفضل من أي شخص آخر. في الواقع، لقد كان الأمر بهذه البساطة”.
في السنوات التي تلت الغزو، سافر بايدن كثيرًا إلى العراق لبناء علاقات مع اللاعبين الرئيسيين في الحرب
كانت خطورة تلك المهمة جلية لرجل لعب دورًا في شن الحرب منذ البداية. انضم 76 من أعضاء مجلس الشيوخ، بمن فيهم 28 ديموقراطيًا، إلى بايدن في الاقتراع المشؤوم لسنة 2002، لكنه تحمل المسؤولية خاصة كرئيس للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ. (ادعى في ذلك الوقت أن التفويض سيوقف الحرب عن طريق دفع صدام حسين إلى السماح لمفتشي الأسلحة بدخول البلاد، وقال في وقت لاحق إن بوش أساء استخدامها).
في السنوات التي تلت الغزو، سافر بايدن كثيرًا إلى العراق لبناء علاقات مع اللاعبين الرئيسيين في الحرب. وتكفل بايدن بالمهمة، حيث ترأس الاجتماعات وأشرف على المفاوضات. وبحلول نهاية سنة 2011، كانت الحرب قد انتهت، والقوات الأمريكية قد غادرت. وفي هذا الصدد، قال بلينكن: “إنه الرجل الذي أشرف على تخفيض عدد القوات الأمريكية. في الواقع، فيما يتعلق بالجانب السياسي انخفض عدد القوات من 150 ألف من إلى الصفر تقريبًا”.
لكن كل شيء تم بشكل خاطئ. فرحيل القوات الأمريكية خلق فراغا في الحكومة العراقية، وطغى على قوات الأمن رئيس وزراء استبدادي وطائفي. علاوة على ذلك، تحولت القاعدة، التي ما زالت على قيد الحياة، إلى تنظيم الدولة، واستولت على 40 في المائة من العراق في صائفة 2014.
إن “الخلافة” المتطرفة التي أعلنها تنظيم الدولة في جميع أنحاء العراق وسوريا – من مدينة الموصل العراقية – مهّدت الطريق لعصر جديد من الاضطرابات الإقليمية والإرهاب العالمي. لذلك، سرعان ما عادت القوات الأمريكية إلى العراق، حيث تتواجد إلى اليوم.
بالنسبة لمؤيديه، يسترشد بايدن في تفكيره في السياسة الخارجية بخط أخلاقي قائم على الواقعية المكتسبة بصعوبة
لسائل أن يسأل؛ من هذا كله كم من الأخطاء يجب أن تُلقى على عاتق بايدن؟ في الحقيقة، يبقى هذا السؤال موضع نقاش بين أولئك الذين عملوا معه على المستويات العليا في الحكومة الأمريكية. إنه يركز على ما إذا كانت مساعيه لإصلاح أخطاء غزو سنة 2003 قد أعمت عينيه عن مخاطر الخطأ الأمريكي الكبير التالي في البلاد.
بالنسبة لمؤيديه، يسترشد بايدن في تفكيره في السياسة الخارجية بخط أخلاقي قائم على الواقعية المكتسبة بصعوبة. وفي هذا الشأن، قال بلينكن، الذي عمل معه في مجلس الشيوخ وكان مستشاره للأمن القومي من سنة 2009 إلى سنة 2013: “إنه يعلم أنه لا يمكننا ببساطة الدخول والتغيير وإصلاح كل شيء. ولكن إذا تنازلنا عن مسؤولية المحاولة بطريقة ذكية للآخرين فهذا لن يكون ما عهدنا أنفسنا عليه. إنه يبدأ من منطلق مثالي للغاية بشأن معظم هذه القضايا، لكن هذه المثالية تضعفها التجربة والواقع”.
في بعض الأحيان، استطاع بايدن الارتقاء إلى مستوى هذه الصورة. لقد كان صوتًا شديد اللهجة ضد الفصل العنصري في جنوب إفريقيا ودعم التدخل العسكري في البلقان، وتوسيع الناتو، والسيطرة على الأسلحة الاستراتيجية. كما حاول وفشل في دفع أوباما إلى تقليص حجم الحرب الأمريكية في أفغانستان إلى حد كبير، بحجة التركيز الضيق على مكافحة الإرهاب.
عندما طلبت من تي جيه داكلو، السكرتير الصحفي لحملة بايدن، التعليق على هذه القصة أجابني في رسالة بريد إلكتروني بأنه “يمكن أن يتحدى أي قائد على الساحة العالمية ويحترمه. ويتخذ قرارات في قضايا تمتد من تغيير المناخ وصولا إلى الصين وروسيا. سيعمل بايدن على إصلاح علاقاتنا مع حلفائنا والوقوف في وجه الرجال الأقوياء والعصابات على الساحة العالمية وحشد العالم لمواجهة هذه التحديات”.
أضاف صعود تنظيم الدولة في العراق عشرات الآلاف من القتلى المدنيين إلى الإجمالي المذهل بالفعل من حرب العراق
مع ذلك، فإن منتقدي بايدن يتهمونه بأنه، في أكثر الأحيان، يخطئ. لذلك، كتب روبرت جيتس، الذي شغل منصب وزير الدفاع في عهد جورج دبليو بوش وأوباما، في مذكراته لسنة 2014: “إنه رجل يتحلى بالنزاهة. ومع ذلك، أعتقد أنه كان مخطئًا في كل قضية رئيسية تتعلق بالسياسة الخارجية والأمن القومي طوال العقود الأربعة الماضية”.
لقد أضاف صعود تنظيم الدولة في العراق عشرات الآلاف من القتلى المدنيين إلى الإجمالي المذهل بالفعل من حرب العراق. وعندما اشتعلت الحرب على الحدود السورية في صائفة سنة 2014، تدرب الجيش العراقي بتكلفة باهظة من قبل الأميركيين، ولكن معظمهم تركوا قواعدهم في حين استولى تنظيم الدولة على أسلحتهم الأمريكية وعرباتهم من طراز هامفي.
في غضون أيام، كان تنظيم الدولة على أبواب بغداد. بعد ذلك بفترة وجيزة، كنت الراكب الوحيد على متن رحلة تجارية من بغداد إلى إسطنبول. عندما اتصلت بسفير عراقي سابق لأخبره أنه في صباح اليوم التالي سأكون في العاصمة العراقية، أجابني: “إذا ما كانت لا تزال هناك”. لقد كان الإحساس بالتقدم الضائع والخسارة العقيمة للكثير من الأرواح الأميركية والعراقية واضحا.
لقد كتب علي خديري، الذي عمل في العراق كمسؤول أمريكي واضطلع بمجموعة متنوعة من الأدوار طوال فترة الحرب طويلة الأمد، في أحد مقالاته التي نشرت في صحيفة “واشنطن بوست” في ذلك الصيف عن هذا الموضوع. لقد كان يعرف بالضبط من المسؤول عن الكارثة التي تتكشف: نوري المالكي، رئيس الوزراء آنذاك، والمسؤولون الأمريكيون، بقيادة بايدن، الذين ساندوه.
تمكن المالكي من قمع الميليشيات الشيعية وحقق الجيش الأمريكي نجاحًا كبيرًا في الحرب في أعقاب زيادة عدد القوات سنة 2007، التي عارضها بايدن، من خلال تحويل المقاتلين السنة المحليين ضد تنظيم القاعدة وإضعافه بشكل كبير
كان الخديري من أوائل المؤيدين للمالكي، الشيعي المسلم المتشدد الذي عاد من المنفى بعد إطاحة بالولايات المتحدة بنظام صدام حسين الذي كان يقود السنة. لقد كان المالكي خيارًا مفاجئًا، ففي سنة 2006 كان المسؤولون الأمريكيون يبحثون عن رئيس وزراء جديد لتحقيق الاستقرار في العراق الذي كان يغرق في حرب أهلية.
في النهاية، تمكن المالكي من قمع الميليشيات الشيعية وحقق الجيش الأمريكي نجاحًا كبيرًا في الحرب في أعقاب زيادة عدد القوات سنة 2007، التي عارضها بايدن، من خلال تحويل المقاتلين السنة المحليين ضد تنظيم القاعدة وإضعافه بشكل كبير. وبحلول الوقت الذي تولى فيه أوباما وبايدن منصبه، كان بعض المسؤولين الأمريكيين المخضرمين، مثل الخديري، قلقين من المالكي. كانت لهجته أكثر طائفية وتآمرية وبدأ بتطهير منافسيه السياسيين، وشرع في محاولة استيعاب المقاتلين والسياسيين السنة.
من جانب آخر، أخبرني جيفري فيلتمان، الذي كان يرأس مكتب شؤون الشرق الأدنى بوزارة الخارجية الأميركية: “لقد كان يعاني من جنون العظمة. لم يؤمن بسيادة القانون. رأى الأعداء في كل مكان. أراد إنشاء هياكل موازية. وأعتقد أن هذا كان واضحًا بالفعل بحلول سنة 2010 خاصة بالنظر للطريقة التي كانت تسير بها الأمور”.
بدا أن الانتخابات البرلمانية في أوائل سنة 2010 توفر مخرجًا. لقد فاز حزب معتدل يدعمه السنة والشيعة بطريقة مفاجئة، وإن كان فوزا ضئيلاً. وبسبب الهامش الضيق، لا يمكن أن يشكل المالكي ولا خصمه حكومة. اعتقد خضري أنه على واشنطن أن تضع التأثير الكبير الذي ما زالت تمارسه خلف منافس المالكي. وبدلاً من ذلك، قال إن بايدن ساند المالكي، ووصفه بأنه قائد فعال قدم الاستقرار: “أنا فقط أتذكر أنني قلت إن ما يحدث كارثي. أخبرني خديري أن هؤلاء الرجال كانوا يعرضون عليه أشياء لم تكن موجودة هناك. لكنهم لن يتركوا المالكي. والباقي هو التاريخ”.
كان وجود رئيس وزراء مناسب أمرا حاسما حتى تتمكن الولايات المتحدة من الانسحاب من البلاد وحسم مسألة ما إذا كانت الولايات المتحدة ستترك مجموعة من القوات والمستشارين لمواصلة الضغط على القاعدة ولمساعدة الحكومة العراقية على الصمود في وجه هذه الجماعات
جمع المالكي، وهو سياسي محنك، مقاعد كافية لاستئناف منصبه كرئيس للوزراء في أواخر سنة 2010. أخبرني بريت مكغورك، وهو مسؤول أمريكي سابق يتمتع بخبرة واسعة فيما يتعلق بالمشهد السياسي العراقي والمفاوضات، أنه لا يستهوي السرد القائل إن بايدن مسؤول عن المالكي. وقال إن مكغورك وآخرين عملوا على إيجاد بدائل، لكن لم يكن لدى أي من منافسي المالكي فرصة واقعية لجمع المزيد من المقاعد.
بينما كانوا ينتظرون كسب دعم المسؤولين أميركيين، قال مكغورك: “لقد عمل المالكي جاهدا منذ اليوم الأول وحصل على مقعد بعد مقعد. كما حقق التوازن عندما حصل على دعم الكتلة الكردية العراقية المؤثرة”. كما أخبرني بلينكن، الذي كان مشاركًا أيضًا في المفاوضات: “في الأساس، كان المالكي أكثر السياسيين مرونةً، وأكثرهم فعالية، والرجل الأخير الذي بقي صامدا”.
لقد فهم بايدن الحاجة إلى تصحيح هذا الأمر. وكان وجود رئيس وزراء مناسب أمرا حاسما حتى تتمكن الولايات المتحدة من الانسحاب من البلاد وحسم مسألة ما إذا كانت الولايات المتحدة ستترك مجموعة من القوات والمستشارين لمواصلة الضغط على القاعدة ولمساعدة الحكومة العراقية على الصمود في وجه هذه الجماعات. ومن جهته، شجع بايدن النقاش الذي دار بين المسؤولين الأمريكيين حول المالكي، لكنه أوضح موقفه من الموضوع. وحيال هذا الشأن، قال فيلتمان: “لقد كان هناك فرضية تقول إن المالكي هو ذلك الشيطان الذي نعرفه وفرضية أخرى، كنت جزءا منها، تؤكد أن المالكي يمتلك البعض من سمات الرئيس ريتشارد نيكسون”.
كشف روبرت فورد، الذي كان يشغل منصب نائب سفير الولايات المتحدة في العراق ما بين 2008 و2010، عن وجهة نظره بشكل أكثر صراحة
لقد سافر فيلتمان إلى العراق مع بايدن خلال الأزمة. وأخبرني بأن “بايدن ذهب إلى هناك للالتقاء بأهم السياسيين العراقيين. وبغض النظر عن رغباته الشخصية، لم يحاول بايدن قلب الموازين هناك، بل كان يحاول إقناعهم بالاتحاد والتكاتف”. لكن مع وجود الكثير من الأمور على المحك، هل كان ينبغي على بايدن أن يقلب الموازين ضد المالكي؟
قال فيلتمان، الذي تقاعد من منصب رفيع في الأمم المتحدة السنة الماضية ويعمل الآن كأستاذ زائر في معهد بروكينغز، إنه كان ينبغي على الولايات المتحدة أن تتخذ موقفا أكثر صرامة حيال الأوضاع في العراق، حتى من خلال اتخاذ موقف مناهض للمالكي، ومن ثم تدفع بالقيم غير الطائفية والديمقراطية التي أمضت فترة طويلة تعمل على غرسها في العراق. وأضاف “كان ينبغي أن نكون صريحين أكثر في مثل هذه القضايا “.
لقد كشف روبرت فورد، الذي كان يشغل منصب نائب سفير الولايات المتحدة في العراق ما بين 2008 و2010، عن وجهة نظره بشكل أكثر صراحة. وأخبرني أن “العراقيين كانوا مدركين أن الأمريكيين يرغبون أن يظل المالكي على رأس السلطة، ومن الغريب أيضا أنهم كانوا يدركون أن الإيرانيين يرغبون بالشيء نفسه. وبمجرد اتخاذ القرار، تتحرك جميع أجهزة الدولة، بدءا من السفارة مرورا بوكالة المخابرات المركزية وصولا إلى الجيش، ويكون جميعهم على استعداد للعمل في هذا الاتجاه”.
ينبع موقف بايدن، جزئيا، من حاجة واشنطن الملحة إلى تسوية المسألة المتعلقة بترك القوات والمستشارين الأمريكيين في العراق بعد الانسحاب الرسمي للولايات المتحدة. وأكد لي فورد أنهم “أرادوا فقط حل هذه المسألة بطريقة أو بأخرى، ولم يتمكنوا من التفاوض نظرا لعدم وجود حكومة هناك. وأعتقد أن هذه النقطة كانت من بين المشاكل الداخلية في إدارة أوباما”.
أصرت إدارة أوباما على أن أي تواصل لتواجد القوات الأمريكية سيتطلب موافقة البرلمان العراقي، وسيحمي ذلك الجنود الأمريكيين من القانون العراقي، وهو أمر يعتقد الكثير من المراقبين أنه من المستحيل أن يحدث
بمجرد عودته إلى السلطة، اتخذ المالكي موقفا صارما في المفاوضات التي عقدت بشأن تواصل التواجد الأمريكي على الأراضي العراقية. ومثلما قالت باربرا ليف، دبلوماسية أمريكية سابقة في العراق، “لقد بدأ المالكي يتوقع نهاية تواجد القوات الأمريكية هناك وتلاشي الأشخاص الذين يملون عليه ما يجب القيام به”.
في غضون ذلك، أصرت إدارة أوباما على أن أي تواصل لتواجد القوات الأمريكية سيتطلب موافقة البرلمان العراقي، وسيحمي ذلك الجنود الأمريكيين من القانون العراقي، وهو أمر يعتقد الكثير من المراقبين أنه من المستحيل أن يحدث. وتجدر الإشارة إلى أن القوات الأمريكية عادت سنة 2014 لمحاربة جماعات تنظيم الدولة دون الحصول على موافقة البرلمان العراقي. ومن جهته، أفاد مكغورك بأنه “لم يكن هناك أحد من المسؤولين الذين يشغلون مناصب مهمة في واشنطن يدعم أي حل آخر غير هذا الحل الذي من المستحيل أن يحظى بموافقة الحكومة العراقية”.
بحلول سنة 2011، انسحبت القوات الأمريكية بشكل كلي من العراق. وعندما انفجرت ثورات الربيع العربي خلال كانون الثاني/ يناير 2011، لم تعد إدارة أوباما تولي اهتماما بالشأن العراقي. وقد روى فيلتمان كيف كان يذهب إلى البيت الأبيض حاملا “مجموعة من الملفات، لأنك ستنتقل من اجتماع حول اليمن إلى اجتماع حول البحرين إلى اجتماع حول مصر ومن ثم اجتماع حول تونس واجتماع حول ليبيا مرورا إلى اجتماع حول سوريا. لقد بدا الأمر وكأننا نتعامل مع إدارة أزمات من دقيقة إلى أخرى ومن اجتماع إلى آخر. وكنا حين نجتمع بشأن بلد، تحدث تغيرات في بلد آخر نحن بصدد التخطيط لعقد اجتماع حوله لاحقا”.
خلال شهر أغسطس/ آب من سنة 2011، أعلن أوباما أنه ينبغي على الرئيس السوري بشار الأسد التنحي. من جهتها، قدمت الولايات المتحدة دعما سياسيا ومساعدات مدنية واسعة النطاق وأسلحة إلى المعارضة
في خضم هذه الفوضى، أصبح افتقار إدارة أوباما إلى رؤية شاملة متماسكة بشأن انخراط الولايات المتحدة في هذه الأزمات أمرا واضحا بشكل صارخ. ومع تصاعد الاحتجاجات في القاهرة، دفعت الإدارة الجيش المصري إلى الإطاحة بحليفها، حسني مبارك. وبعد مرور سنتين، شن الجيش نفسه ثورة مضادة وانقلابا وأقام دكتاتورية أكثر وحشية في البلاد. وقد راقبت الإدارة الأمريكية من بعيد عمليات اعتقال المتظاهرين في البحرين، ومن ثم دعمت، بحماس شديد، الحملة العسكرية التي قادتها السعودية في اليمن.
كما قادت الإدارة تدخلا عسكريا ساعد على الإطاحة بمعمر القذافي في ليبيا، ثم فشلت في إعادة إقامة أي شكل من أشكال النظام هناك نظرا لأن البلاد دخلت في حرب أهلية. على أي حال، لقد كان الوضع في ليبيا خطيرا مثلما هو الحال في سوريا، ويمكن ربطه بشكل كبير بالوضع غير المستقر الذي خلفته أمريكا في العراق.
خلال شهر أغسطس/ آب من سنة 2011، أعلن أوباما أنه ينبغي على الرئيس السوري بشار الأسد التنحي. من جهتها، قدمت الولايات المتحدة دعما سياسيا ومساعدات مدنية واسعة النطاق وأسلحة إلى المعارضة. وتأكدت أيضا من أن دعمها لن يؤدي إلى ترجيح كفتهم في الصراع. وقد أدت هذه السياسة إلى إطالة أمد الحرب الأهلية التي أدت إلى أسوأ أزمة إنسانية في التاريخ الحديث.
من جهته، قال بلينكن، الذي أصبح نائبا لوزير الخارجية، إن تجربة الولايات المتحدة، ليس في حرب العراق فقط، بل في ليبيا أيضا هي التي أثقلت كاهل إدارة أوباما. وحيال هذا الشأن، قال لي بلينكن: “أعتقد أن أي شخص كان مسؤولا عن سياستنا المتبعة في سوريا ينبغي أن ينظر إلى نفسه في المرآة ويقول إننا فشلنا. لم نتعامل مع حاجتنا للتمييز بين النهج الخاطئ الذي كانت تتبعه الإدارة الأمريكية والمتمثل في نشر القوات الأمريكية في الشرق الأوسط على نطاق واسع ومفتوح، وبين المعنى الحقيقي للجهود التي تهدف إلى ضبط النفس هناك”.
مع تفاقم الحرب في سوريا، تحركت فلول القاعدة عبر الحدود العراقية وأعادوا تنظيم صفوفهم وأطلقوا على أنفسهم اسم تنظيم الدولة، وسيطروا على الأراضي وعززوا من قوتهم
من جهة أُخرى، أفاد فورد، الذي كان سفيرا للولايات المتحدة في سوريا ما بين سنة 2011 و2014، ويعمل الآن أستاذا زائرا في معهد الشرق الأوسط وجامعة ييل: “اعتقدت في كثير من الأحيان أن السوريين يدفعون ثمن الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة في العراق. ويتمثل السؤال بالنسبة للحزب الديمقراطي في مدى رغبتك في مساعدة المجتمعات الأخرى بشكل فعال على التطور بشكل ديمقراطي، أو هل ترغب فقط في اتخاذ موقف ما؟ وفي حال كنت تريد أن تكون فعالا، فكيف ذلك؟
مع تفاقم الحرب في سوريا، تحركت فلول القاعدة عبر الحدود العراقية وأعادوا تنظيم صفوفهم وأطلقوا على أنفسهم اسم تنظيم الدولة، وسيطروا على الأراضي وعززوا من قوتهم. وفي أواخر سنة 2013، كانوا يعززون قوتهم في معاقلهم السابقة المتواجدة في العراق، ولكن بحلول الوقت الذي أقنع فيه بلينكن وغيره القادة العراقيين والأمريكيين بأن القوات الأمريكية يجب عليها العودة إلى العراق لمواجهة المسلحين هناك، كان الأوان قد فات. وقد أكد لي بلينكن “لقد خسرنا السباق. أعتقد أن الانتقادات التي وجهت إلينا بأننا لم نول اهتماما لهذه المشكلة ظالمة. فمن الإنصاف القول إننا لم نكن فعالين في التعامل مع هذه المشكلة قبل وقوعها”.
بعد هذا الخطأ، بذلت الولايات المتحدة جهودا حثيثة للتعويض عن خطأين كان لبايدن يد فيهما، وهو الغزو الأمريكي للعراق والانسحاب الأمريكي غير المخطط له. ويظهر بايدن هنا أيضا كطرف فاعل. وقد أخبرني مكغورك، المسؤول الأمريكي المخضرم، أنه خلال صيف سنة 2014، عندما كانت جماعات تنظيم الدولة في أوج قوتها “كان هناك شعور سائد في واشنطن بأنه قد يكون من المستحيل تغيير هذه الحقائق”.
عندما أصبح المالكي خارج السلطة، كانت القوات المحلية في العراق محتشدة حول الحكومة الجديدة عندما أطلقت الولايات المتحدة حملة عسكرية دولية لمحاربة تنظيم الدولة
علاوة على ذلك، قال مكغورك، الذي أصبح المبعوث الرئاسي للحرب ضد تنظيم “الدولة”، لأوباما إن الأمر سيستغرق 100 يوم لإرساء وضع سياسي جديد في العراق يمكن أن يضع حجر أساس لحملة جادة ضد تنظيم الدولة. وتتمثل الخطوة الأولى من جدول الأعمال هذا في التخلص من المالكي واستبداله بشخص يمكن للعراقيين والمجتمع الدولي أن يحتموا به. وقد اتجه مكغورك إلى أحد السياسيين الأمريكيين المقربين له طلبا للمساعدة. وأضاف مكغورك “لقد كان بايدن مسؤولا عن الأوضاع في [العراق] طوال هذه الفترة. وكنت أتحدث معه كل بضعة أيام، وقد كان على تواصل دائم بالزعماء العراقيين”.
عندما أصبح المالكي خارج السلطة، كانت القوات المحلية في العراق محتشدة حول الحكومة الجديدة عندما أطلقت الولايات المتحدة حملة عسكرية دولية لمحاربة تنظيم الدولة. وقد أخبرني مكغورك أن بايدن شارك في جهود المساعدة على التفاوض بين مختلف الأطراف الفاعلة ودعم الاستراتيجية المعروفة باسم “بواسطة… ومعها…، وعبرها”، التي بموجبها كلفت الولايات المتحدة الجنود المحليين بمعظم عمليات القتال واستخدمت قواتها الخاصة ومخابراتها فضلا عن قوتها الجوية كعامل مساعد.
لقد كانت هذه الحملة تشوبها بعض العيوب، فغالبا ما كان الدعم المقدم للقوات المحلية بطيئا، وأدى التركيز الشديد على الغارات الجوية إلى وقوع عدد لا يحصى من الضحايا المدنيين. ولم تتخلى جماعات تنظيم الدولة عن آخر الأراضي التي كانت تسيطر عليها إلا خلال شهر آذار/ مارس 2019. ومع ذلك، يمكن أن توفر هذه الاستراتيجية أولى بذور الرؤى الديمقراطية للتدخل العسكري الأمريكي في المستقبل والمتمثلة في استخدام القوة دون اللجوء إلى عمليات غزو والتركيز على بناء التحالفات والدبلوماسية وتبني الفكرة التي تروج للولايات المتحدة على أنها لا تزال تمتلك دورا قياديا على الساحة العالمية.
لا تزال القوات الأمريكية منتشرة، في حين لا يزال حلفاء الولايات المتحدة يعيشون أوضاعا غير مستقرة
عندما طلبت منه ملخصا حول رؤية بايدن للسياسة الخارجية، كان رد بلينكن يحمل أصداء لهذه الأفكار. وقد أخبرني أن بايدن يقر بأن الولايات المتحدة “يجب ألا تكون شرطي العالم. لكن الشيء الذي يؤمن به أيضا هو أن العالم لا يمكن أن ينظم نفسه، وإذا لم نقم نحن بذلك، سيقوم بهذه المهمة أي شخص آخر بطريقة لن تعزز مصالحنا وقيمنا أو لن توكل هذه المهمة إلى أي طرف آخر، وستندلع حينها الفوضى. لذلك لا يمكننا التنازل عن مسؤوليتنا في قيادة العالم، لأن ذلك في النهاية يصب في مصلحتنا الذاتية”.
في الواقع، يحاول المرشحون الديمقراطيون مواجهة هذا التوتر حاليا. وقد يجرى الاختبار مرة أخرى في الشرق الأوسط، حيث تظل جماعات تنظيم الدولة تشكل تهديدا، ولا تزال القوات الأمريكية منتشرة، في حين لا يزال حلفاء الولايات المتحدة يعيشون أوضاعا غير مستقرة. وفي حال فاز بايدن في الانتخابات، سيظل السؤال الذي يعود إلى حوالي عقدين من الزمن مطروحا والذي يتمثل في مدى قدرة بايدن على فهم الأوضاع هناك بشكل صحيح؟
المصدر: الأتلانتيك