يثير التعاطي المصري مع التطورات في المشهد السوري منذ سقوط نظام الأسد حالة من الجدل لدى الشارعين، المصري والعربي، على حد سواء، صمت غير مُقنع، وتأخر غير مُبرر، ومبالغة واضحة في المخاوف، ففي الوقت الذي تسابق فيه الجميع لفتح قنوات اتصال مع الإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، التزمت القاهرة الحياد، مكتفية باتصالات مع دول الطوق لبحث ما حدث وتداعياته على الإقليم.
حتى حين قرر النظام المصري الانخراط ولو متأخرًا من بعيد، عبر الاتصال الهاتفي الذي أجراه وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، مع نظيره في الحكومة الانتقالية السورية، أسعد حسن الشيباني، بعد 23 يومًا من سقوط النظام، جاءت الرسائل التي تضمنها الاتصال هي الأخرى مثيرة للجدل.
فبعيدًا عن التأكيد على وقوف مصر مع الشعب السوري ودعم تطلعاته المشروعة، تضمن البيان الصادر عن وزارة الخارجية المصرية ما أسماه البعض “وصاية” على الإدارة الجديدة، متمثلة في مناشدتها “أهمية أن تتبنى العملية السياسية مقاربة شاملة وجامعة لكافة القوى الوطنية السورية تعكس التنوع المجتمعي والديني والطائفي والعرقي داخل سوريا، وأن تكون سوريا مصدر استقرار بالمنطقة، مع إفساح المجال للقوى السياسية الوطنية المختلفة لأن يكون لها دور في إدارة المرحلة الانتقالية وإعادة بناء سوريا ومؤسساتها الوطنية لكي تستعيد مكانتها الإقليمية والدولية التي تستحقها. وتم الاتفاق في نهاية الاتصال على استمرار التواصل خلال الفترة القادمة”.
ما سبق البيان وما تلاه من تعاطي الجانب المصري، سلطة وإعلام، مع سوريا الجديدة، يشي بحالة من التربص بالتجربة السورية، حالة استنفار وتجييش ضد كل ما يمت لسوريا ما بعد الأسد بصلة، حتى بات الشأن السوري مقدمًا على الشأن المصري لدى الكثير من رموز الإعلام السلطوي، وتحول أعضاء الحكومة الانتقالية الجديدة إلى ضيف دائم على موائد التناول الإعلامي والسياسي وعبر منصات التواصل الاجتماعي.
وتعد مصر واحدة من أكبر الحواضن للجاليات السورية في العالم، فرغم عدم وجود إحصاء رسمي لعدد السوريين في مصر، تشير تقديرات إلى أن الدولة المصرية تحتضن ما يقارب مليون ونصف المليون سوري، بحسب بيانات المنظمة الدولية للهجرة، في حين يصل عدد السوريين المسجلين لدى “مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين” في القاهرة إلى نحو 153 ألف لاجئ فقط.
تضييق الخناق على السوريين
بعد أيام قليلة من نجاح المعارضة السورية في السيطرة على المشهد وسقوط نظام الأسد، بدأت التكهنات حول التصعيد ضد السوريين في مصر تزداد، لا سيما بعد الاحتفالات التي قام بها عدد من أبناء الجالية في بعض المناطق التي يتمركزون بها داخل الأراضي المصرية احتفاءً بنجاح ثورتهم وسقوط الطاغية وتعرض بعضهم للتوقيف من قبل السلطات المصرية.
تصاعد الأمر مع إصدار السلطات المصرية في نهايات ديسمبر/كانون الأول المنقضي، قرارًا بعدم السماح بدخول السوريين حاملي الإقامات الأوروبية والخليجية والأمريكية والكندية، وحاملي تأشيرات دول (شنغن) دون موافقة أمنية مسبقة، في خطوة بررها الإعلام المصري وقتها كونها إجراءات احترازية أمنية لا تستهدف مطلقًا السوريين في مصر.
نطاق الاستهداف اتسع مع قرار منع دخول السوريين من مختلف دول العالم، حيث أكدت سلطة الطيران المدني المصري على شركات السفر والطيران بعدم السماح بقبول الركاب السوريين القادمين للبلاد من مختلف دول العالم، عدا حاملي الإقامة المؤقتة لغير السياحة بالبلاد، متوعدة بتوقيع غرامات على الشركات المخالفة للقرار.
قرار حكيم لحماية أمننا القومى من تسلل عناصر إرهابية .. سلطة الطيران المدنى المصرية تخطر شركات الطيران العالمية بعدم السماح للركاب السوريين بدخول مصر من أى دولة فى العالم .
هذا القرار جاء بعد تجنيس آلاف الإرهابيين من دول العالم والموجودين داخل سوريا خلال الأيام الماضية .
حماية مصر…
— أحمد موسى – Ahmed Mousa (@ahmeda_mousa) January 3, 2025
وفق تلك القرارات لم يعد مسموحًا لأي سوري بدخول الأراضي المصرية، وهو ما بررته القاهرة بأنه خطوة تحافظ بها الدولة على أمنها القومي، لا سيما بعدما أثير حول تجنيس العديد من العناصر التي كانت منضوية تحت ألوية مسلحة ذات صلة بتنظيمات إرهابية، بالجنسية السورية، وهو المبرر الذي يتناقض مع تعاطي مصر مع المشهد السوري قبل سقوط النظام.
قد يتذرع البعض بحجة أن مصر ليست الدولة الوحيدة التي اتخذت مثل تلك القرارات خلال الآونة الأخيرة، فهناك دول أخرى خطت الموقف ذاته لاعتبارات أمنية، لكن المثير للجدل والريبة في نفس الوقت أن مثل تلك القرارات لم تتخذها السلطة المصرية حين كانت سوريا مرتعًا للعديد من الميليشيات المسلحة، وحين كانت غارقة في وحل الطائفية، ومخضبة بدماء شبيحة الأسد، لكنها أُتخذت بعدما هدأت تلك العواصف وبدأت سوريا الجديدة في استشراف ملامح المستقبل الهادئ الخالي من الطاغية ونظامه والفاتح ذراعيه للجميع لبناء دولة موحدة.
التضييق على السوريين لم يقتصر على من هم خارج الأراضي المصرية فقط، بل شمل كذلك المقيمين بداخلها، حيث الهرولة نحو دفع السوريين المتواجدين في مصر إلى مغادرة البلاد والسفر لوطنهم، وذلك عبر عرقلة تجديد الإقامات ووضع المعيقات أمام تقنين الأوضاع وتجميد طلبات اللجوء، وبموازاة ذلك أعلنت السفارة السورية في القاهرة عن تيسيرات جديدة لراغبي العودة لسوريا من أعضاء الجالية المقيمين بمصر، من بينها منح تذاكر مرور مجانية للعودة إلى الأراضي السورية، بحجة تعذر إصدارات جوازات السفر حاليًا.
تصيد الأخطاء
لم يُركز إعلام دولة ما مع مجريات الأحداث في سوريا منذ 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي كما يركز الإعلام المصري الذي سخر كل إمكانياته لمراقبة الوضع ثانية بثانية، حتى باتت تفاصيل المشهد السوري بأدق جزئياتها أكثر انتشارًا على منصات التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية المصرية من مثيلاتها على الساحة المصرية رغم زخم الأحداث التي تملأ جنباتها.
ووضع الإعلام الموالي للنظام المصري وحسابات الرموز الإعلامية والسياسية على منصات السوشيال ميديا كل حركة أو سكنة للإدارة السورية الجديدة تحت مجهر التضخيم والتكبير، فتحول الأمر إلى ما يشبه “التصيد” للأخطاء العفوية في كثير من سياقها، وهو ما تبرهنه العديد من المؤشرات منها:
– التركيز على عدم مصافحة أحمد الشرع لوزيرة الخارجية الألمانية في أثناء زيارتها لدمشق، وتصوير الأمر كأنه جلل عظيم يهدد أمن ومستقبل سوريا الجديدة، متجاهلين دوافع وتفاصيل وتداعيات الزيارة ذاتها، فضلًا عن أنها ليست المرة الأولى التي يمتنع فيها الضيف عن مصافحة المضيف لاعتبارات دينية وعقدية.
– تسليط الضوء على ما أثير حول إلغاء أو تعديل بعض الأجزاء في المناهج الدراسية السورية، وتصوير الأمر كأنه سحق للحضارة السورية وتجاهل لتاريخها الممتد عبر قرون طويلة.
– إثارة الشكوك حول تعيينات اللون الواحد التي أجرتها الإدارة السورية الجديدة على مستوى المحافظين والوزارات، ورغم أن هذا شأن داخلي بحت، فضلًا عن تبرير ذلك كإجراء مؤقت لضمان التناسق وتجنب فتح المجال أمام الدولة العميقة لإفساد انتصارات الثورة، إلا أن القراءات المصرية لتلك التعيينات غُلفت بالتخويف والترهيب من ديكتاتورية جديدة.
بدء أسلمة المناهج الدراسيه في سوريا وفقا لشريعة داعش الجولاني . هذه جريمة في حق الشعب السوري ، ومحاوله لتغيير الهوية الوطنيه السوريه . تم إلغاء مادة التربيه الوطنيه بحجة التمجيد في نظام الأسد . كتاب التربيه الوطنيه يتحدث عن تاريخ سوريا . هذا الموقف يكشف عن عدائهم لكل ماهو وطني .…
— مصطفى بكري (@BakryMP) January 2, 2025
– اجتزاء التصريحات الرسمية حول الكيان الإسرائيلي، كما حدث مع محافظ دمشق الجديد، ماهر مروان، في محاولة لتصوير وجود علاقة ما بين الإدارة الجديدة ودولة الاحتلال، واستمالة المحتل لتلك الإدارة التي غضت الطرف عن توغل جيش الاحتلال داخل الأراضي السورية دون أي رد فعل حاسم.
– التركز على الوقفات الاحتجاجية في بعض المناطق والتي تنادي بمطالب فئوية الهدف منها فرض حالة الفوضى واللا استقرار في المشهد السوري.
– تهميش المرأة، حيث تلقى الإعلام الموالي للنظام المصري أخبار تشكيلة الإدارة الجديدة التي خلت من أي عنصر نسائي بداية الأمر، قبل إثرائها ببعض الوجوه لاحقًا، بشكل هجومي، معتبرًا أن ذلك مؤشرًا على تشدد السلطة الجديدة وانتهاكها لحقوق المرأة، والتحذير من مستقبل المرأة في ظل تلك السلطة.
حملة تشويه ممنهجة
بالتوازي مع فرض العراقيل أمام السوريين في الداخل والخارج، تبنى الإعلام المصري الرسمي والموالي – الذي لا يتحدث ولا يصمت من تلقاء نفسه دون أوامر عليا – حملة شيطنة واسعة النطاق، شملت كل رموز الإدارة السورية الجديدة، حيث التشكيك في وطنيتهم تارة، وإلصاق تهم الإرهاب بهم تارة أخرى، واتهامهم بتنفيذ مخططات وأجندات أجنبية تارة ثالثة، والادعاء بعلاقات حميمية مع دولة الاحتلال رابعًا، وقبل هذا وكله تخويف السوريين وترهيبهم من السلطة الجديدة.
وخصص الموالون للنظام من إعلاميين وبرلمانيين وساسة، على رأسهم الكاتب والنائب مصطفى بكري والإعلامي أحمد موسى، برامجهم التلفزيونية وحساباتهم على منصات التواصل الاجتماعي للهجوم على الحكومة الانتقالية السورية وتوجيه السباب والإهانات والاتهامات ليل نهار، في مشهد مثير للسخرية قبل الجدل، فهم أكثر تناولًا للشأن السوري من المصري، بل أكثر ضراوة وحماسة في انتقاد الإدارة الجديدة من شبيحة نظام الأسد المخلوع.
وتحول الهجوم على سوريا الجديدة إلى ورد يومي لدى الكثير من أنصار النظام المصري، لتغيب الأحداث على الساحة المصرية عن التناول الإعلامي بشكل ملحوظ رغم زخمها في الآونة الأخيرة بالكثير من الخطوات والإجراءات التي يفترض إشعال الأجواء وإثارة الجدل المجتمعي في الظروف الطبيعية، كتمرير قانوني المسؤولية الطبية، والإجراءات الجنائية، المحاطين بعشرات التساؤلات والانتقادات.
تغييرات بتأكد المعلوم عن الارهابيين بالضرورة
– كراهية واحتقار للمرأة وبالتالي لا اعتراف ببطولات لها او اي ملكات
– كراهية شديدة للوطن واعتباره حفنة من تراب عفن علي حد مقولة المرشد الاخوانجي العرة مهدي عاكف وبالتالي حذف كل حرف له علاقة بالاستشهاد من اجل الدفاع عن تراب الوطن او… https://t.co/I8davLzAJF
— محمود بدر (@ma7mod_badr) January 2, 2025
معروف دعم النظام المصري لنظيره البائد في سوريا، منذ بداية الثورة – عدا عام حكم محمد مرسي – وحتى الإطاحة به في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، كذلك معروف مقاربات النظام إزاء الثورة السورية وحالة القلق والرعب من نجاح تلك التجربة وما قد يمكن أن يتمخض عنها إقليميًا، ورغم تطمينات الإدارة الجديدة، فإن ما حدث والذي كان بمثابة الصدمة، سيظل كابوسًا يؤرق مضاجع كل الأنظمة الديكتاتورية التي تخشى من ذات المصير.
بات واضحًا أن الشرع ليس هدفًا في حد ذاته للإعلام المصري والنخبة الموالية للنظام، كذلك الإدارة الجديدة بأكملها، فالهدف هو إجهاض التجربة السورية قبل اكتمال نجاحها، وتشويه فكرها الثوري، والطعن في خلفيتها التحررية المسلحة، في محاولة للترهيب من مآلاتها على المنطقة والأنظمة الشبيهة بنظام الأسد، إذ إن اكتمال بدرها يعني باختصار منح الربيع العربي متنفسًا وأملًا جديدًا بعدما كاد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهو ما لا تقبل به الأنظمة العربية مهما كان الثمن فادحًا حسبما جاء على لسان مدير قناة “سكاي نيوز عربية”، نديم قطيش.
المخاوف المصرية مما حدث في سوريا وتداعياته الإقليمية قد تكون مفهومة، لكن إزالة تلك المخاوف لا يكون بالعزلة والحياد السلبي وتبني خطاب إعلامي وسياسي مشيطن ومعادٍ للثورة والسوريين، إنما عبر البرغماتية السياسية المدروسة، وبالانخراط أكثر في المشهد والتعاطي مع الإدارة الجديدة – كما فعل الآخرون بما فيهم المعادون للثورة – والتعاون معها لضبط المشهد وفق بوصلة الاستقرار والأمن الإقليمي وبما يضمن وحدة الأراضي السورية، في ظل ما تمثله سوريا من امتداد لعمق الأمن القومي المصري.