لا شكّ أن خسارة بلدية إسطنبول ليست مثل خسارة أي بلدية أخرى، وكذلك فإن خسارة البلدية مرتان وبفارق كبير لها ما بعدها، فالـ800 ألف صوت التي حققها مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو كفارق في الأصوات خلال شهرين تمثل 2% من مجمل الأصوات في تركيا وهي نسبة مهمة جدًا لو نظرنا إلى فوز تحالف الجمهور في الاستفتاء على التعديلات الدستورية والانتخابات الرئاسية الأخيرة حيث كانت النسبة 51% أو 52%، وبالتالي فإن 2% تعد مؤشرًا لصالح المعارضة، ولكن من حسن حظ حزب العدالة والتنمية أنه لا يوجد انتخابات عامة قريبة.
وعلى الرغم من أن أقرب موعد للانتخابات العامة هو 2023 ولكن هناك خيار الانتخابات المبكرة، وإن كان خيارًا صعبًا على المعارضة لأنه يتطلب أغلبية برلمانية وهو ما لا يمكن أن يحدث دون رغبة حزب العدالة والتنمية، حيث تحتاج المعارضة لو اتفقت إلى أكثر من 50 نائبًا من حزب العدالة والتنمية للموافقة على إجراء انتخابات مبكرة وهو أمر يبدو صعبًا حتى لو خرج عدد من النواب من حزب العدالة فإن رقم 50 نائبًا ليس رقمًا سهلاً.
على صعيد دائرة الصف الداخلي للحزب فإن المسؤولين المباشرين عن النتائج الحاليّة مثل مسؤول لجنة الانتخابات في الحزب ورئيس الحزب في إسطنبول سيتعرضون لانتقادات تحمل المسؤولية عن النتيجة
وفيما نفت المعارضة أنها تريد خيار الانتخابات المبكرة إلا أنها سوف تعمل على تهيئة الأجواء دون أي تضييع للوقت للانتخابات القادمة مرتكزة على عدد من المطالب أهمها إلغاء النظام الرئاسي والعودة للنظام البرلماني، لكن المعارضة أمامها تحديات كبيرة، فهي تحتاج خلال الأربع سنوات القادمة إلى الحفاظ على وحدة موقفها، فخروج أحد الأحزاب الثلاث عن التوافق يعني عدم قدرة هذه الأحزاب على التقدم على حزب العدالة والحركة القومية.
وقد استطاع حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات الأخيرة أن يحافظ على الجمع بين حزب الشعوب الديمقراطية والحزب الجيد وأحدهما قومي تركي والآخر قومي كردي وسيكون المحافظة على هذا التوازن تحديًا لحزب الشعب الجمهوري، ولهذا فإن حزب العدالة والتنمية سيكون سعيدًا وربما يسعى إلى محاولة خلخلة هذا التحالف أو التوافق لأنه لو لم يحصل أكرم إمام أوغلو على دعم أنصار حزب الشعوب الكردي لفاز حزب العدالة والتنمية ببلدية إسطنبول من المرة الأولى في 31 من مارس.
أما الخيارات الأخرى التي يجب أن يقوم بها حزب العدالة والتنمية فهي في أكثر من دائرة وهي دائرة الصف الداخلي للحزب ودائرة الحكومة ودائرة التحالف مع الحركة القومية.
على صعيد دائرة الصف الداخلي للحزب فإن المسؤولين المباشرين عن النتائج الحاليّة مثل مسؤول لجنة الانتخابات في الحزب ورئيس الحزب في إسطنبول سيتعرضون لانتقادات تحمل المسؤولية عن النتيجة وبالتالي فإنهم عرضة للتغيير، وكذلك حال سياسة وخطاب الحزب خلال الحملة، فقد كان واضحًا أنه قد شابها بعض الارتباك، ولهذا فإنها هي الأخرى بحاجة لإعادة ضبط، لكن الأهم من هذا كله هو احتمالات تجاوب نسبة من الكوادر أو نواب البرلمان لدعوات الحزب الجديد الذي يدور أن وزير الاقتصاد الأسبق علي باباجان سيعلنه قريبًا، وهو ما سيضع الحزب أمام تحد كبير جدًا وما زالت هذه العملية قيد التفاعل وما يرشح عنها هو تسريبات تظهر في الصحافة بين الفينة والأخرى وسيكون كل شيء واضحًا مع إعلان الحزب الجديد وسنرى ما النسبة التي يمكن أن تنتقل من حزب العدالة إلى هذا الحزب الوليد وسيكون السؤال الأهم: هل ستكون هذه النسبة خاصة عدد النواب مؤثرةً على إمكانية اجراء انتخابات مبكرة في البلاد؟
بدا واضحًا أن حزب العدالة والتنمية لم يستفد كثيرًا من أصوات حزب الحركة القومية بل على العكس تشير التقديرات أن هذه الأصوات ذهبت للمرشح المنافس أكرم إمام أوغلو
أما الدائرة الثانية الأقرب للحزب فهي دائرة الحكومة والوزراء، حيث كانت هناك انتقادات من عدد من المواطنين وفقًا لتقرير بي بي سي لبعض الوزراء وخاصة وزير المالية وكان هناك توقعات بأن يجري الرئيس أردوغان تغييرات على التشكيلة الوزارية، لكنه خرج ليؤكد أن التغييرات الوزارية تتم عند الحاجة وليس بناءً على الطلب، لكن تشير التقديرات أن هناك تغييرًا وزاريًا قادمًا ولكن يحتاج شيئًا من الوقت كما أنه لا بد أن يكون منسجمًا مع المراجعة التي ستطرأ على سياسة وخطاب وتحالفات الحزب للمرحلة القادمة.
يقودنا هذا للدائرة الثالثة وهي دائرة التحالف مع حزب الحركة القومية، فقد بدا واضحًا أن حزب العدالة والتنمية لم يستفد كثيرًا من أصوات حزب الحركة القومية بل على العكس تشير التقديرات أن هذه الأصوات ذهبت للمرشح المنافس أكرم إمام أوغلو، وقد فسر البعض ذلك ببعض التطورات مثل السماح لعبد الله أوجلان بإرسال رسالة من السجن وهو أمر لم يتسامح معه ناخب الحركة القومية، فيما عزا البعض ذلك إلى أن قواعد الحزب لم تعد تلتزم بسياسة قيادة الحزب وتحالفاتها.
وعلى كل حال فإن أمام توحد 3 أحزاب معارضة هي الشعب الجمهوري والجيد والشعوب الديمقراطية لم يعد التحالف مع الحركة القومية وحده خيارًا كافيًا لحزب العدالة والتنمية لتأمين الفوز في الانتخابات القادمة ولهذا يحتاج حزب العدالة لتوسيع هذه الدائرة بالتحالف مع مكونات أخرى أو التفاهم مع أحد المكونات المعارضة أو قسم منها لخلخلة التحالف المضاد له الذي يبدو أن الاستفتاء على التعديلات الدستورية كان بمثابة مرحلة استفادت منها المعارضة للتجمع ضد حزب العدالة والتنمية.
لن تكتفي قوى المعارضة بما حققته وسوف تعمل بكل قوتها على تعظيم فوزها ومراكمة المزيد من النقاط وصولًا للمنافسة القادمة ولذلك ستكون السياسة الداخلية في تركيا في حالة ديناميكية عالية
يحتاج حزب العدالة والتنمية إلى العمل في الدوائر الثلاثة بمسار متواز والاعتماد على نقاط صلبة فيها وليس على توقعات، فقد أثبتت الانتخابات الأخيرة أن عملية إقناع الناخب ليست سهلة ولا بد من أمور ملموسة، حيث يريد الناخب التغيير الإيجابي ولا يريد الاستقطاب ويحتاج للتركيز على مشاكله الأساسية.
يزيد من صعوبة الأمر أن قوى المعارضة لن تكتفي بما حققته وسوف تعمل بكل قوتها على تعظيم فوزها ومراكمة المزيد من النقاط وصولاً للمنافسة القادمة ولذلك ستكون السياسة الداخلية في تركيا في حالة ديناميكية عالية وقد كان حزب العدالة والتنمية يتمنى أن تكون النتيجة أفضل من النتائج الأخيرة ليتفرغ للسياسة الخارجية بشكل أفضل.