في خطوة ليست مفاجئة أعلن المجلس العسكري الانتقالي في السودان موافقته المبدأية على المقترح الجديد الذي قدمته إثيوبيا بشأن الفترة الانتقالية التي كانت مثار جدل بين المجلس والمعارضة، مشيرًا أنه يمكن أن يشكل قاعدة لاستئناف المفاوضات مع الحركة الاحتجاجية الشعبية التي تطالبه بتسليم السلطة إلى المدنيين.
الموافقة على تلك المقترحات تأتي بعد ثلاثة أيام فقط من رفض المجلس للوساطة الإثيوبية بدعوى وجود أخطاء إجرائية فيما يتعلق بالمبادرات الحاليّة، والمطالبة بمبادرة مشتركة بين الاتحاد الإفريقي وإثيوبيا، فعلى لسان نائب رئيس المجلس العسكري قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي بات صاحب الكلمة الأكثر تأثيرًا في الآونة الأخيرة، قال إنه يرفض الإملاءات “وأن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، حينما اجتمع بأعضاء المجلس، لم يوضح أن لديه مقترحات، إنما تحدث عن مساعٍ لإعادة التفاوض”.
تأتي هذه الخطوة قبل يوم واحد فقط من المليونية التي دعت إليها قوى الحرية والتغيير المقرر لها غدًا الأحد الـ30 من يونيو الحاليّ، في إطار التصعيد الثوري المعلن عنه، لتكون وقودًا لموجة ثورة ثالثة تسقط المجلس الحاليّ، لتكمل الموجتين السابقتين اللتين أسقطتا الرئيس السابق عمر البشير ثم وزير دفاعه عوض بن عوف.
مقترحات جديدة
يتضمن المقترح الذي تقدم به الوسيط الإثيوبي تشكيل هيئة انتقالية من ثمانية مدنيين وسبعة عسكريين تحكم البلاد لمدة ثلاث سنوات، وسيكون “تحالف الحرية والتغيير” ممثلاً على الأرجح بسبعة من أصل المدنيين الثمانية، في حين أنّ الشخصية الثامنة سيختارها الطرفان معًا.
أما فيما يتعلق بهوية من يرأس الهيئة الانتقالية، فيذهب المقترح إلى أن ذلك سيكون مناصفة بين العسكر والمدنيين، ففي النصف النصف الأول من الفترة الانتقالية أي خلال الـ18 شهرًا الأولى، يكون على رأس المجلس شخصية عسكرية، على أن يحلّ مكانه أحد المدنيين في النصف الثاني.
ويختلف المقترح الجديد عن المقترحات السابقة، خاصة فيما يتعلق بالحصص المقررة في المجلس التشريعي “البرلمان” التي كانت تنص على أن حصة “تحالف الحرية والتغيير” ستبلغ نسبتها 67%، هذا بخلاف الجدل الذي أثير بشأن رئاسة المجلس السيادي ونسبة كل طرف في عضويته.
المتحدث باسم المجلس العسكري شمس الدين الكباشي وصف المقترح في مجمله بأنه صالح للتفاوض للوصول إلى اتفاق نهائي يفضي إلى تشكيل مؤسسات الحكم الانتقالي، ومن المفترض أن تحدّد المفاوضات بين قوى المعارضة والمجلس طبيعة الفترة الانتقالية.
وفي حال قبول الوثيقة الجديدة والتوقيع عليها من الطرفين، سيسعيان مباشرة إلى “استئناف المفاوضات” ووضع اللمسات الأخيرة على “المسائل المعلقة، خصوصًا تشكيل المجلس التشريعي”، ومن ثم تبدأ الإجراءات الفعلية لإسدال الستار على هذه الأزمة الممتدة منذ رحيل البشير.
يأتي هذا التصعيد بعدما بات من المؤكد أن سياسة النفس الطويل التي يسلكها المجلس العسكري لكسب المزيد من الوقت تهدف في المقام الأول إلى الانفراد بالسلطة
موجة ثورية ثالثة
تزامنًا مع قبول العسكر للمقترح الإثيوبي الجديد، فقد دعت قوى المعارضة لتظاهرات حاشدة في الخرطوم وفي أرجاء البلاد في 30 من يونيو/حزيران/ يونيو ضد المجلس الانتقالي، تنديدًا بما وصفوه “المماطلة” التي تهدف إلى إجهاض الحراك الثوري والالتفاف على مطالب الثوار وعلى رأسها تسليم الحكم لسلطة مدنية.
الدعوة التي أطلقتها العديد من القوى المنظمة للاحتجاجات تعد الأكبر من نوعها بعد الإطاحة بالبشير، والأكثر تأثيرًا منذ حملة القمع الأمنية لاعتصام المحتجين أمام مقر الجيش في الخرطوم في الـ3 من يونيو/حزيران التي خلّفت عشرات القتلى ومئات الجرحى في صفوف المتظاهرين.
يأتي هذا التصعيد بعدما بات من المؤكد أن سياسة النفس الطويل التي يسلكها المجلس العسكري لكسب المزيد من الوقت تهدف في المقام الأول إلى الانفراد بالسلطة وإجهاض المسار التفاوضي مع قوى الحرية والتغيير، صانعة الثورة، والذهاب بعيدًا لتشكيل حكومته، تلك الحكومة التي تشير بعض المصادر إلى أن أسماءها جاهزة وفي انتظار إعلانها خلال أيام.
رئيس الوزراء الإثيوبي وعبد الفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري السوداني
وفي المقابل حذرت منظمة العفو الدولية من استخدام المجلس العسكري العنف ضد المتظاهرين، مطالبة السلطات السودانية بضمان سلامة المحتجين وعدم التعرض لهم طالما كانت مسيراتهم في إطار السلمية.
الأمين العام للمنظمة كومي نايدو، في بيان أمس الجمعة قال: “يجب ألا يتكرر هذا الاستخدام الرهيب غير المبرر للقوة القاتلة وغير الضرورية، ضد المتظاهرين المسالمين مثلما شوهد في 3 من يونيو/حزيران هذا الأحد، أو أن يحدث مرة أخرى على الإطلاق”، هذا فيما تحذر فصائل ثورية من تكرار سيناريوهات الفض السابقة.
وكانت “قوى إعلان الحرية والتغيير” اتهمت قوات “الدعم السريع” (تابعة للجيش) بارتكاب انتهاكات، أبرزها فض اعتصام الخرطوم في 3 من يونيو/ حزيران الحاليّ، الذي أسفر عن سقوط 128 قتيلاً حسب اللجنة المركزية لأطباء السودان (تابعة للمعارضة)، بينما قدرت آخر حصيلة لوزارة الصحة عدد القتلى بـ61.
شكوك ومخاوف
رغم حالة التفاؤل التي سادت أوساط البعض بعد موافقة المجلس على المقترح الإثيوبي متراجعًا عن قراره برفض هذه الوساطة، فإن حالة أخرى من الشك بدأت تساور آخرين، خاصة بعدما لمسوه من التفاف واضح للعسكر على ما تم الاتفاق عليه سابقًا، وتراجعهم عن العديد من الوعود التي قطعوها على أنفسهم عقب توليهم المسؤولية.
“بات من المؤكد أن المجلس لن يترك السلطة لمدنيين كما تعهد من قبل، هو فقط يريد أن يكسب ود الاتحاد الإفريقي والمجتمع الدولي عبر قبوله الوساطة الإثيوبية”، بهذه الكلمات علق الناشط السوداني عبد القادر سعد على خطوة المجلس الانتقالي وإعادة استئناف المفاوضات مع قوى الثورة مرة أخرى.
بات مطلوبًا من الضابط الإسرائيلي آري بن ميناشي، تلميع صورة الجنرال القادم من مستنقع الإبادة والانتهاكات الجماعية في دارفور إلى الوجه الإصلاحي الأبرز لقيادة السودان خلال الفترة القادمة
سعد لـ”نون بوست” أشار إلى أن هذه الخطوة لا تعدو كونها حلقة في سلسلة المماطلة التي ينتهجها المجلس لدغدغة مشاعر الثوار وإجهاض حلم مدنية الدولة عبر كسب المزيد من الوقت في ظل استمرار الدعم الذي يتلقاه من المحور المناهض للثورات بقيادة السعودية، وهو الدعم الذي يرسخ أركانه يومًا تلو الآخر.
الناشط السوداني كشف أن حالة من عدم التفاؤل تسود قطاع كبير من الثوار رغم الموافقة على المقترح الجديد، فكثير منهم يرى أنها مغازلة للاتحاد الإفريقي قبل يوم واحد فقط من انتهاء مدة تسليم السلطة لمدنيين التي من المقرر أن تنتهي غدًا، هذا في الوقت الذي تزداد فيه الضغوط الأمريكية على المجلس.
حميدتي مع ولي العهد السعودي
وأوضح أن الإجراءات التي اتخذها المجلس وبعض قياداته خلال الأيام القليلة الماضية لا تنبئ عن رغبة في التخلي عن السلطة أبدًا، بل على العكس من ذلك تهدف إلى ترسيخ أركانه والتعبيد له على كرسي الحكم لفترة طويلة، وهو ما يفند ادعاءاته بين الحين والآخر بعدم وجود أي أطماع لديه في السلطة.
ويعزز حديث سعد ما كشفته صحيفة “غلوب أند ميل” الكندية بتوقيع حميدتي نائب رئيس المجلس، بصفته ممثلاً عن النظام السوداني، عقدًا مع شركة ضغط كندية، يديرها الضابط الإسرائيلي السابق آري بن ميناشي، للترويج له وتلميع صورته مقابل 6 ملايين دولار.
وينص العقد الموقع في الـ7 من مايو الماضي أن الشركة تتعهد ببذل قصارى جهدها “لضمان تغطية إعلامية دولية وسودانية مواتية (لرؤيا المجلس العسكري)”، إضافة إلى تحسين صورة حميدتي وفريقه العسكريّ، ولتأمين الاعتراف بالمجلس العسكري كقيادة شرعية انتقالية لجمهورية السودان، بالإضافة لتوفير معدات عسكرية ومحاولة ترتيب لقاء مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وكذلك مع مسؤولين روس بارزين ومسؤولين من دول أخرى.
إن كان المجلس الانتقالي يسعى حقيقة إلى تسليم السلطة لمدنيين وأنه ليس طامعًا في الحكم كما يعزف بين الحين والآخر، فلماذا استحضر شركة علاقات عامة إسرائيلية لتحسين صورته وتبييض تحركاته في محاولة للحصول على الدعم الدولي؟
اللافت للنظر أن سجل الشركة والملفات التي تديرها يثير الكثير من التساؤلات، على رأسها ملف الجنرال الليبي خليفة حفتر، وهو ما يضع الكثير من علامات الاستفهام عن الدور الإماراتي السعودي وعلاقته بهذه الشركة، خاصة أنهما يعدان حميدتي على وجه الخصوص ليكون رجلهما في السودان.
وعليه بات مطلوبًا من الضابط الإسرائيلي آري بن ميناشي، تلميع صورة الجنرال القادم من مستنقع الإبادة والانتهاكات الجماعية في دارفور إلى الوجه الإصلاحي الأبرز لقيادة السودان خلال الفترة القادمة، ولعل الخطوة الأولى في تنفيذ هذا العقد تكشفت في حضور سيناتور سابق في الكونغرس، الأسبوع الماضي، إلى جانب حميدتي في لقاء جماهيري دعا في خطابه إلى عدم “التدخّل” في السودان، وأن السودانيين قادرون على حكم أنفسهم، في رسالة تحمل معاني عدم الضغط على الجنرال السوداني أمريكيًا وأوروبيًا.
ومن ثم يبقى السؤال: إن كان المجلس الانتقالي يسعى حقيقة إلى تسليم السلطة لمدنيين وأنه ليس طامعًا في الحكم كما يعزف بين الحين والآخر، فلماذا استحضر شركة علاقات عامة إسرائيلية لتحسين صورته وتبييض تحركاته في محاولة للحصول على الدعم الدولي؟ سؤال وإن كانت إجابته معروفة سلفًا إلا أنه بات يمثل هاجسًا يؤرق مضاجع الثوار الحالمين بمستقبل أفضل، ينعمون فيه بمدنية في الحكم وعدالة في توزيع الثروات.
وفي المجمل وإن كان العسكر يتفنون في سبل المماطلة لكسب المزيد من الوقت فإن الثوار وعلى مدار السبعة أشهر الماضية نجحوا في إثبات هويتهم وفرض كلمتهم ميدانيًا حتى الآن، مؤكدين استمرار حراكهم وتعزيزه بالعديد من الوسائل المشروعة قانونًا، وتبقى الساعات القادمة ترمومترًا جديدًا لقدرة المعارضة على الصمود وممارسة الضغط على المجلس الانتقالي في حرب بات من الواضح أن فصولها لن تنتهي في القريب.