في ركن قصي وبعيد عن ضوضاء وعربدة زبائن ورواد مقهى “مختار” المعروف في حي “التضامن” الشعبي الجاثم على أطراف العاصمة التونسية، يجلس توفيق إلى طاولته المعتادة لسنوات وأمامه قهوة سوداء مرة الطعم وبجانبها علبة سجائر “صفا” محلية الصنع رخيصة الثمن، ينفث في الأجواء دخان ما تبقى من أعقاب آخرها، فتخرج من صدره خشخشة وزفرة، ترسم غيمة قاتمة تلخص حاله وأحواله.
المهنة أستاذ تعليم ثانوي مع إيقاف التنفيذ، والحالة الاجتماعية أعزب إلى الممات إذا لم تتغير طبعًا الأقدار وتتيسر الأمور، وتنتشله رسالة التعيين من فكي البطالة والفاقة.
قبل حديثه لـ”نون بوست”، تردد صاحب الـ38 عامًا كثيرًا قائلاً إن الكلام أضحى دون جدوى أو منفعة ترجى منه، مضيفًا “لـ16 سنة متتالية ونحن نلوك ذات القصة، ونطرق أبواب المسؤولين الموصدة ونسمع نفس الإجابات، نُجري الاختبارات بصفة دورية ونشارك في الكاباس وهي مناظرة عمومية في تونس عبر اختبارات كتابية وشفوية تنظمها وزارة التربية سنويًا لانتداب أساتذة للمدارس الإعدادية والمعاهد الثانوية”.
شدد محمد الهمامي (37 عامًا) متخرج منذ 2008 اختصاص حقوق، على أن خيارات الدولة الاقتصادية الفاشلة وارتهانها لصندوق النقد الدولي ساهمت في تردي أوضاع نخب تونس المستقبلية وكوادرها
ويرى السواد الأعظم من خريجي الجامعات بتونس، أن مناظرة الكاباس (أُرسيت سنة 1998 في عهد الوزير رضا فرشيو) باب يشرع المحسوبية ويفتح الطريق أمام المسؤولين للعيش من الرشاوى أو كما يُسميها التونسيون “الجعالة”.
يسترسل مخاطبنا كلامه بصوت مرتفع أحيانًا يغلب عليه التوتر، كمن أقلقه النبش في الماضي القريب المؤلم: “نحن سكان الأحياء الشعبية نعيش الظلم والجور على أكثر من صعيد، الأول تهميش متعمد من الدولة، فنحن منسيون حين تُقسم التنمية وتجزل العطايا لباقي المدن والمناطق وخاصة منها السياحية أو تلك التي ينتسب إليها الساسة ومن في الحكم، وحاضرون بقوة في صفحات الجرائم بالصحف والخطط الأمنية لوزارة الداخلية، وفي الحملات الدعائية للانتخابات”.
من جانبه، شدد محمد الهمامي (37 عامًا) متخرج منذ 2008 اختصاص حقوق، على أن خيارات الدولة الاقتصادية الفاشلة وارتهانها لصندوق النقد الدولي ساهمت في تردي أوضاع نخب تونس المستقبلية وكوادرها، من خلال تهميش الأحياء الشعبية باعتبارها مصادر للطاقات البشرية وعدم إدماجها في منظومة التنمية، إضافة إلى تفشي ظاهرة الولاءات والمحسوبية (المعارف)، متابعًا القول: “أصبحت المؤسسات العمومية الصناعية منها والخدمية مزارع عائلية حيث يقتصر التشغيل على أبناء الإطارات ومديري تلك المؤسسات (سكك الحديد والصناديق الاجتماعية).
وأوضح الهمامي أن أزمة التشغيل تعمقت بعد ثورة 14 يناير خاصة بين عامي 2011 و2013، بإثقال كاهل الوظيفة العمومية بانتدابات عشوائية تدخل تحت خانة الترضيات، وهم المشمولون بالعفو التشريعي العام وجرحى وأهالي شهداء الثورة.
بدورها تروي منية الباجي فصولًا مشابهة لشهادة سابقيها من معاناة الشباب مع سوق الشغل في تونس، وتوضح أن بطالة خريجي الجامعات في حيها أصبحت شرًا لا بد منه
وعن تأثير البيئة الاجتماعية في سوق الشغل، أكد الشاب أنه كان ضحية لسمعة الحي الذي يقطنه في كثير من المناسبات، وأكثرها خطرًا كانت حرمانه من الوظيفة العمومية (القطاع العام) بسبب التشابه في الأسماء مع أحد الأشخاص ممن لديهم سوابق عدلية ومن المفتشين عنهم.
تشغيل هش
بدورها تروي منية الباجي فصولًا مشابهة لشهادة سابقيها من معاناة الشباب مع سوق الشغل في تونس، وتوضح أن بطالة خريجي الجامعات في حيها أصبحت شرًا لا بد منه، كل تجرع منه بمقدار معين، مضيفةً أنها حاصلة على الأستاذية في علم الاجتماع منذ 2004، ولم تترك بابًا إلا طرقته وأملاً في نفسها إلا وأحيته، اشتغلت حاضنة أطفال براتب لا يتعدى الـ200 دينار أي ما يقارب 70 دولارًا، وهو رقم غير كاف لتغطية جميع احتياجاتها، إضافة إلى المعاناة اليومية المتمثلة في استغلال القائمين على تلك المؤسسات وانتهازهم الوضعية المزرية للمتخرجين، وإجبارهم على العمل لساعات طويلة قد تصل إلى 12 ساعة.
تُضيف محدثتنا: “موظفو مكتب التشغيل بالجهة حفظوا ملامح وجهي، لتكرر زياراتي إما لتحيين معطياتي الشخصية أو بحثًا عن عمل ولا يهم إن كان بعيدًا عن تخصصي“، مضيفةً أن البحث المتواصل عن عمل يحفظ كرامتها طوال السنوات الأخيرة، أضناها ودفعها لخيار طالما استبعدته من قائمة أولوياتها (الزواج).
أما محمد بن الهادي المتخرج من كلية الهندسة الغذائية فيرى أن الشهرة السلبية التي اكتسبها الحي الذي يقطنه ساهمت في بطالة الكثيرين، مشيرًا إلى أن المؤسسات والمصانع قبل ثورة 14 يناير كانوا يتجنبون تشغيلهم حتى وإن كان لديهم شهادات جامعية عليا ويتمتعون بالكفاءة المنشودة، مؤكدا أن الوضع لئن تغير بعد الثورة بشكل ملحوظ إلا أن السلطات لم تتخذ خطوات ملموسة في سبيل دعم تلك الفئات وإيلائها الأولوية في التشغيل أو التنمية.
يعد حي التضامن الذي يقع على بعد بضعة كيلومترات من قلب العاصمة ويتبع محافظة “أريانة”، ثاني أكبر حي شعبي في إفريقيا ورابع حي على المستوى العالمي
مضيفًا أن تدهور الوضع الاقتصادي للبلاد في السنوات الأخيرة ومغادرة بعض المصانع الأجنبية إلى المغرب، واعتماد منوال تنموي يقوم على القطاعات منخفضة المهارة (يد عاملة رخيصة) لا توفر فرص عمل حقيقية لخريجي الجامعات، زاد في نسب البطالة، موضحًا أن الحلول المقترحة من وزارة التشغيل والآليات التي وضعتها للتشجيع على بعث مشاريع خاصة، هي مجرد مسكنات تحاول من خلالها الحكومة تخفيف حدة التوتر والضغط المفروض عليها.
التضامن.. الكتلة والانفجار
يعد حي التضامن الذي يقع على بعد بضعة كيلومترات من قلب العاصمة ويتبع محافظة “أريانة”، ثاني أكبر حي شعبي في إفريقيا ورابع حي على المستوى العالمي، وتأسس في الـ50 من القرن الماضي ويُطلق عليه “الصين الشعبية” نظرًا لكثافته السكانية الكبيرة، وقبل تقسيمه ترابيًا إلى منطقتين بلديتين (التضامن والمنيهلة) في 2016 كان يسكنه قرابة 200 ألف نسمة (2014)، ويقطنه الآن نحو 100 ألف ساكن، ومن أشهر شوارعه المعروفة 105 و106، وأنشئ الحي نتيجة لموجات هجرة داخلية (فقراء وفلاحون صغار وعاطلون) أغلبهم قدموا آنذاك من محافظات الشمال الغربي (سليانة وباجة وجندوبة والكاف).
وتقدر نسبة البطالة في الحي المتاخم للعاصمة تونس بأكثر من 60%، فيما تبلغ نسبة الفقر 70% حيث لا يتجاوز الدخل الشهري لآلاف العائلات المئتي دينار، في حين بلغت 27.88 % لدى أصحاب الشهادات العليا (2014).
، قالت أستاذة علم النفس الاجتماعي فتحية السعيدي لـ”نون بوست”، إن طبقات المجتمع جميعها تأثرت بتزايد البطالة في صفوف خريجي الجامعات، وأن سوق الشغل مر بمتغيرات عديدة منذ الاستقلال إلى الآن
إلى ذلك، ورغم أن الحي “مأزوم” لعب دورًا محوريًا في نقل وهج الثورة، وساهم بقاعدته الشعبية العريضة من السكان بشكل حاسم مع أحياء أخرى كـ”الكرم” في الإطاحة بنظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي عندما وصلت المظاهرات الشعبية إلى أطراف العاصمة في الأيام القليلة التي سبقت 14 من يناير/كانون الثاني 2011، يوم فرار بن علي من تونس، فإن مظاهر التنمية ومشاريع البنى التحتية غابت عن المنطقة في سنوات ما بعد النظام السابق، ما ساهم في تردي الأوضاع وانتشار الجريمة بأنواعها وتجارة المخدرات، إضافة إلى ارتفاع منسوب الشعور بالإحباط والحرمان لدى الشباب الذي اختار أغلبه الهجرة السرية “الحرقة” على البقاء تحت وطأة الفقر والخصاصة.
سياسة الدولة
من جانبها، قالت أستاذة علم النفس الاجتماعي فتحية السعيدي لـ”نون بوست”، إن طبقات المجتمع جميعها تأثرت بتزايد البطالة في صفوف خريجي الجامعات، وأن سوق الشغل مر بمتغيرات عديدة منذ الاستقلال إلى الآن، ففي ذلك الوقت كانت البلاد التونسية في مرحلة البناء وبحاجة ماسة إلى كل الكوادر ومن جميع الاختصاصات دون استثناء، فإن انتقال البلاد شيئًا فشيئًا من نظام الدولة الراعية (welfare state) تتدخل لحماية مواطنيها، اقتصاديًا واجتماعيًا، وتضع في أولوياتها الطبقة الهشة وهي العمال والفقراء، والشرائح الأقل قدرة وتمكينًا في المجتمع، والمتقاعدون وكبار السن دون سند، إلى دولة (regulatory state) يقتصر دورها على مراقبة القوانين والمؤسسات، وتخضع لاقتصاد السوق، جعلها تتخلى تدريجيًا عن مسؤولياتها الاجتماعية، مضيفة أن آليات التشغيل المقترحة حديثًا من الدولة لا ترقى لتطلعات الشباب، ويمكن اعتبارها في كثير من الأحيان منح بطالة وليست تأهيلًا يسهل عملية الإدماج في سوق الشغل.
حالة الركود الاقتصادي في قطاع الأعمال، إضافة إلى زيادة أعداد خريجي الجامعات، وغياب إستراتيجيات شاملة الأبعاد تُقدم حلولًا جذرية لتقليص نسب البطالة في مرحلة أولى ومن ثم استئصالها، زد على ذلك حالة عدم الاستقرار السياسي، قد تجعل من البطالة قنابل موقوتة تُهدد السلم الاجتماعي.
وأكدت السعيدي أن البطالة في تونس ظاهرة شملت الفقير والغني، سكان الحاضرة كما الأرياف، إلا أن الفرق الوحيد يكمن في مقدرة الميسورين على دفع أبنائهم إلى التوجه للعمل للحساب الخاص، فيما يعجز شباب الأحياء الفقيرة على دخول عالم الاستثمار والأعمال، وهنا يكمن إحساسهم بالضيم.
رغم التراجع الطفيف للبطالة في صفوف حاملي الشهادات العليا لسنة 2019، لتصل إلى 255.4 ألف (28.2%) نهاية مارس/آذار من هذا العام، مقابل 261.1 ألف (29.3) في الثلاثي الرابع من 2018، فإن حالة الركود الاقتصادي في قطاع الأعمال، إضافة إلى زيادة أعداد خريجي الجامعات، وغياب إستراتيجيات شاملة الأبعاد تُقدم حلولًا جذرية لتقليص نسب البطالة في مرحلة أولى ومن ثم استئصالها، زد على ذلك حالة عدم الاستقرار السياسي، قد تجعل من البطالة قنابل موقوتة تُهدد السلم الاجتماعي.