في محاولة لعلها الأخيرة لإنعاش الاتفاق النووي مع إيران، عاد الأوروبيون المرتابون من نسف اتفاق بذلوا من أجله الكثير من الجهد، بعد أن أبرموا ما اعتبروها “صفقة رابحة” منذ أكثر من 4 سنوات، وفي العاصمة النمساوية فيينا، جالس المبعوثون الأوروبيون الإيرانيين المهدِدين بالتخفف من التزامات الاتفاق النووي، الذي لم يحصدوا منه فضيلة أو منفعة، كما جالسهم أيضًا روسيا والصين، الشريكتان الراغبتان في حفظ الاتفاق من الانهيار.
اجتماع الفرصة الأخيرة
اجتمع المسؤولون الكبار من إيران وبقية الأطراف الموقعة على الاتفاق النووي بهدف محاولة إنقاذه، لكن في ظل محدودية قدرة القوى الغربية على حماية الاقتصاد الإيراني من العقوبات الأمريكية، فمن غير الواضح ما الذي يمكنهم فعله لتوفير الدعم الاقتصادي الكبير الذي تريده طهران.
هذا الاجتماع قدمه الجانب الإيراني باعتباره الفرصة الأخيرة لإنقاذ الاتفاق التاريخي، وهو تحذير نقله المتحدث باسم وزارة الخارجية عباس موسوي
عُقد هذا الاجتماع وسط قلق متزايد من احتمال انهيار الصفقة، بعد عام من انسحاب الولايات المتحدة من جانب واحد من الاتفاق الذي يحد من نشاط إيران النووي في مقابل التخفيف من العقوبات، وبعد الانسحاب، أعادت الولايات المتحدة فرض العقوبات على إيران، ودعت إلى تخفيض صادرات النفط الإيراني إلى الصفر كجزء من حملة “الضغط القصوى” ضد طهران، التي قلصت بشكل كبير صادرات النفط الإيرانية.
بدا الاجتماع إيجابيًا على نطاق واسع، لكن القوى العالمية المجتمعة لم ترسل وفودًا رفيعة المستوى إلى المحادثات، ففي حين أرسلت إيران نائب وزير الخارجية عباس عراقجي، لم ترسل الأطراف الأخرى وزراء خارجية كبار للحضور، وبالتالي فإن الكرة في ملعب الأطراف الأخرى.
هذا الاجتماع قدمه الجانب الإيراني باعتباره الفرصة الأخيرة لإنقاذ الاتفاق التاريخي، وهو تحذير نقله المتحدث باسم وزارة الخارجية عباس موسوي، حين قال في تصريحات نقلتها وكالة فارس الإيرانية للأنباء إن الاجتماع كان فرصة لرؤية كيف يمكن لأولئك الذين ما زالوا أطرافًا في اتفاق 2015 “الوفاء بالتزاماتهم تجاه إيران، وإلا سيتخلى الإيرانيون عن الاتفاق”.
وفي المحادثات، حاولت القوى الأوروبية الثلاثة – فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة – تهدئة الشكوك الإيرانية بأن أوروبا تتمسك بجانبها باتفاق عام 2015 من خلال المضي قدمًا في الآلية المخطط لها منذ فترة طويلة لتسهيل التجارة بين إيران وأوروبا دون أن تتعرض للعقوبات الأمريكية.
وفي حين حذرت إيران من أنها لن تقبل أي حلول “ظاهرية” فيما يتعلق بالعقوبات الأمريكية، ذكر موسوي أنه على الرغم من دعم بقية الأطراف الموقعة على الاتفاق النووي، وهي بريطانيا والصين وفرنسا وألمانيا وروسيا، لموقف إيران في عدة بيانات، فقد فشلت في اتخاذ أي خطوة تذكر.
آلية “إنستكس” لا تشمل النفط الإيراني
بعد محادثاث مع مسؤولين إيرانيين وصينيين وروس في فيينا، قال الاتحاد الأوروبي إن الاتفاق النووي الإيراني لا يزال عنصرًا رئيسًا في الحد من خطر الانتشار النووي عالميًا، وأضاف أن الآلية الأوروبية الخاصة بالتعامل مع طهران باتت جاهزة للعمل، في محاولة لحماية جزء من الاقتصاد الإيراني على الأقل من العقوبات الأمريكية.
وفي بيان يوم الجمعة، قال دبلوماسي بارز في الاتحاد الأوروبي إن ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة أقاموا “قناة مدفوعات أوروبية” لإجراء المعاملات وتسهيل التجارة مع إيران، وتهدف إلى التحايل على العقوبات الأمريكية المفروضة على الجمهورية الإسلامية.
تطلب إيران التعامل بهذه الآلية مع مبيعات النفط الكبيرة، وهي مصدر الدخل الرئيسي بالنسبة لإيران
وفي إشارة إلى الاسم الرسمي للقناة المالية الجديدة، قال الاتحاد الأوروبي إن فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة أبلغوا المشاركين أن “إنستيكس” INSTEX)) أصبحت جاهزة ومتاحة لجميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وتباشر الآن أولى معاملاتها.
لكن لم تُفعل “إنستيكس” حتى الآن، فهذه الآلية ستكون قادرة على التعامل مع أحجام صغيرة من السلع، وستركز في البداية – بحسب مؤسسيها – على القطاعات الأكثر أهمية بالنسبة للسكان الإيرانيين مثل الأدوية والأجهزة الطبية والسلع الغذائية الزراعية، وهو شكل من أشكال التجارة يقول البيت الأبيض إنه لا يخضع لنظام العقوبات، وهذا من شأنه تجنب الصدام مع الولايات المتحدة.
كما كان من المقرر أيضًا أن يقدم الاتحاد الأوروبي حدًا ائتمانيًا متواضعًا قدره 3 ملايين يورو (2.7 مليون جنيه إسترليني) لبدء هذه الآلية كإشارة إلى حسن النية، لكن في المقابل، تطلب إيران التعامل بهذه الآلية مع مبيعات النفط الكبيرة، وهي مصدر الدخل الرئيسي بالنسبة لإيران.
الدبلوماسي الإيراني عباس عراقجي يتحدث إلى الصحافة في نهاية الاجتماع في فيينا
وفي هذا الشأن، قال عراقجي يوم الجمعة: “إنستيكس ستحتاج إلى التوسع لتغطية مجموعة أكبر من البضائع لإرضاء إيران”، وأضاف: “لكي تكون هذه الآلية التجارية مفيدة لإيران، يتعين على الأوروبيين شراء النفط أو النظر في خطوط ائتمان لهذه الآلية”.
وفي حال كانت هذه الخطوة مجرد آلية ظاهرية، فإن إيران لن تقبل ذلك قطعًا، كما يقول موسوي، ويؤكد قوله ما كشفته بيانات نشرتها صحيفة “فونكه” الألمانية أن التجارة بين إيران وألمانيا تداعت بفعل تأثير العقوبات الأمريكية، مما يدعم يقين إيران أن أوروبا تعجز عن الحفاظ على الاتفاق النووي الذي وقعت عليه.
لكن الوضع بشأن ما إذا كان إعلان الدعم والجزء الأول من المعاملات سيكون كافيًا لإبقاء إيران ملتزمة بالاتفاق النووي لعام 2015، لا يزال موضع تساؤل، خاصة بعد إعلان طهران أن هذا التقدم لم يكن “كافيًا” لمنع طهران من تقليص الامتثال للاتفاق.
“خطوة إلى الأمام لكنها ليست كافية“
بعد أن انفضوا عن طاولات التفاوض، قال المجتمعون إن هناك تقدمًا حصل لإنقاذ الاتفاق النووي، ليرد الإيرانيون بأنه تقدم بسقوف منخفضة دون توقعات طهران، فإيران ذاهبة إلى استئناف تخصيب اليورانيوم، وشرط تراجعها رهين ببيع نفطها بذات الوتيرة قبل انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي.
“خطوة إلى الأمام لكنها ليست كافية ولا تلبي توقعات إيران”، هكذا وصفت إيران على لسان مبعوثها إلى محادثات الاتفاق النووي في فيينا عباس عراقجي نتيجة اجتماع حاسم في العاصمة النمساوية لمناقشة سبل إنقاذ الاتفاق النووي، مضيفًا “التقدم المحرَز اليوم ما زال غير كافٍ لإيقاف عمليتنا، ولكن سيتم اتخاذ القرار في طهران”.
تكتفي الصين برفض العقوبات على إيران دون أن تملك جرأة خرقه باستيراد النفط الإيراني، فيما تتوجس روسيا من نسف الاتفاق ودخول المنطقة أطوار صراع لن يهدأ
وبعد ساعات من المحادثات الدبلوماسية مع دبلوماسيين من بريطانيا والصين وفرنسا وروسيا، قال كبير المفاوضين الإيرانيين في الملف النووي، في تصريحات صحفية: “كان الاجتماع إيجابيًا وبنَّاءً، لكنه لا يزال غير كافٍ، فهناك فجوة بشأن ما تطالب به إيران، مؤكدًا “إيران ستستمر في تخفيض التزاماتها بالاتفاق النووي ما لم يتم تلبية توقعاتها”، لكنه قال أيضًا إن اجتماعًا على المستوى الوزاري سيعقد قريبًا، مما قد يعطي أوروبا فرصة أخرى لإنقاذ الصفقة من الانهيار الوشيك.
وكانت إيران قد حددت للأوروبيين مهلة شهرين تنقضي في الـ7 من الشهر المقبل للوفاء بالتزاماتها تجاه إيران بحسب الاتفاق، وهددت بالانسحاب من الالتزامات الرئيسية في خطة العمل المشتركة (الاتفاق النووي)، بعد ذلك، تمثل الأمر الأكثر أهمية في تهديد طهران برفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى نسبة تتجاوز الحد الأقصى البالغ 3.67% المنصوص عليه الاتفاق، وعلَّلت موقفها بعدم وفاء الدول الأوروبية بالتزاماتها إزاء إيران بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق، ما يعني أنها تترك خيار زيادة تخصيب اليورانيوم مفتوحًا، كما يقول نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف.
وتطالب إيران الأطراف الأوروبية بإيجاد ترتيبات مالية لتفادي العقوبات الأمريكية التي خنقت اقتصادها وقلَّصت عائداتها النفطية، لكن الولايات المتحدة ما فتئت تشدد من هذه العقوبات على إيران حتى تصبح دولة طبيعية، على حد وصف المبعوث الأمريكي الخاص بإيران براين هوك الذي خيَّر الشركات العالمية بين التعامل مع إيران والاتجار مع الولايات المتحدة.
تهدد طهران برفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى نسبة تتجاوز الحد الأقصى
هوك، جاء إلى لندن للتشاور مع المسوؤلين من المنظمة الدولية للملاحة (IMO)، بالتزامن مع محادثت فيينا، حثَّ الرجل هذه الهيئة التابعة للأمم المتحدة على دعم خطته لقوة حماية بحرية أقرتها الأمم المتحدة، على غرار قوة الأمم المتحدة لمكافحة القرصنة قبالة سواحل الصومال.
وعقب اجتماعه مع الأمين العام للمنظمة البحرية الدولية كيتاك ليم، قال هواك للصحفيين، إنه قدَّم مذكرة عقب الاجتماع تتضمن معلومات استخبارية أمريكية تثبت مسؤولية إيران مباشرة عن استهداف ناقلات نفط في الفجيرة وخليج عُمان الأسبوع الماضي، وشدد على أن “أي تهديد تتعرض له القوات الأمريكية في المنطقة سيرد عليه بالقوة العسكرية”.
ويسوِّق هوك لفكرة أن إيران لا تكتفي بفكرة تعريض الملاحة البحرية في الممررات المائية البحرية للخطر، بل تقوم أيضًا بدور مؤذ ومزعزع لاستقرار المنطقة، وهو بذلك يريد إقناع الدول الأوروبية المتشككة لدفعها باتجاه الموقف الأمريكي من مسألة العقوبات.
هل يتخلى الأوروبيون عن إيران؟
تصاعد القلق بشأن مواجهة محتملة في المنطقة بشكل حاد الأسبوع الماضي عندما أسقطت إيران طائرة أمريكية دون طيار، التي قالت طهران إنها كانت في مجالها الجوي، لكن الولايات المتحدة قالت إنها سقطت في المجال الجوي الدولي، وأمر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بهجمات انتقامية على إيران لكنه ألغاها لاحقًا، قائلاً إنها لن تكون متناسبة.
كان هذا هو الأحدث في سلسلة من الأحداث التصاعدية في منطقة الخليج في الأسابيع الأخيرة، بما في ذلك الهجمات المزعومة على الناقلات التي ألقت الولايات المتحدة باللوم فيها على إيران، رغم نفي طهران.
خيارات إيران لا تبدو باليسر المضنون، فشركاؤها في الاتفاق قليلو الحيلة أمام رغبة أمريكية في سوق طهران جبرًا إلى التفاوض، ونزوع لا يخفى للعب على حبال تصعيد تقصر وتطول
وبين تهديد بمزيد من التصعيد والتلويح بفرض التهدئة على أكثر من جبهة، يمثل الملف الإيراني إحدى جبهات الخلاف الحاليّ بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، فبينما تعمل إدارة الرئيس ترامب على فرض المزيد من العقوبات على إيران، تشعر حكومات الاتحاد الأوروبي بقلق متزايد إزاء تأثير تلك العقوبات على المصالح الأوروبية، وتقول إنها تبحث عن أدوات لتقريب الهوة بين واشنطن وطهران، وهو موقف يؤيده خصوم ترامب في الكونغرس الأمريكي.
إدارة الرئيس دونالد ترامب تؤكد أنها لا تريد خوض الحرب ضد إيران، ولكنها تسعى من خلال العقوبات إلى إرغام الإيرانيين على العودة إلى التفاوض بشأن اتفاقية جديدة معهم تحل محل الاتفاقية التي وقعها الرئيس السابق باراك أوباما، وتعرب العديد من الأوساط داخل الكونغرس وخارجه أيضًا عن دعمها للرئيس ترامب.
في هذا الصدد، يحاول الأوروبيون، ومعهم الصين وروسيا، اجتراح حلول تقنع الإيرانيين المزاوجين بين أُهبة الحرب ونبرة المهادنة، لكنها حلول – في نظر طهران – قاصرة ما دامت تتلافى الصدام مع واشنطن.
لا يملك الأوروبيون آلية ناجعة تجنب إيران وطأة العقوبات الأمريكية الثقيلة على اقتصادها، لكن في الوقت نفسه يطالبونها بالالتزام به كُرهًا، بينما تكتفي الصين برفض العقوبات على إيران دون أن تملك جرأة خرقه باستيراد النفط الإيراني، فيما تتوجس روسيا من نسف الاتفاق ودخول المنطقة أطوار صراع لن يهدأ، وتدعو عبر مبعوثها إلى المباحثات سيرغي ريابكوف إلى التعاون معًا من أجل إنقاذ الاتفاق والابتعاد عن سياسة العقوبات الأمريكية.
أمَّا فرنسا، فقد قال رئيسها إيمانويل ماكرون، يوم الخميس الماضي، إنه سيحاول إقناع نظيره الأمريكي دونالد ترامب بتعليق بعض العقوبات على إيران لإفساح المجال أمام المفاوضات بهدف نزع فتيل الأزمة، وهو موقف ناقض سعي ترامب إلى حشد تأييد بين الحلفاء المشاركين في قمة العشرين بأوساكا اليابانية لصالح بلاده.
السيناريو الأسوأ، وفي حال تنفيذ إيران تهديداتها بعدم الالتزام بالاتفاق، فهو اضطرار القوى الأوروبية إلى الانضمام على مضض للولايات المتحدة في فرض العقوبات وإنهاء الصفقة الموقعة في 2015
أمَّا واشنطن الراغبة في المضي بنهج العقوبات لعلها تدفع طهران للتفاوض بشروطها هي على اتفاق آخر يتعدى حدود أطماعها النووية إلى سلوكها في المنطقة، تحذر الجميع من تحدي عقوباتها والتجاسر على القرار الأمريكي، بينما خيارات إيران لا تبدو باليسر المضنون، فشركاؤها في الاتفاق قليلو الحيلة أمام رغبة أمريكية في سوق طهران جبرًا إلى التفاوض، ونزوع لا يخفى للعب على حبال تصعيد تقصر وتطول.
أمَّا السيناريو الأسوأ، وفي حال تنفيذ إيران تهديداتها بعدم الالتزام بالاتفاق، فهو اضطرار القوى الأوروبية إلى الانضمام على مضض للولايات المتحدة في فرض العقوبات وإنهاء الصفقة الموقعة عام 2015، الأمر الذي قد يعود برد عسكري في الوقت الذي تحاول إيران فيه إيجاد وسائل لإجبار الغرب على التخفيف عن اقتصادها.
في المجمل، من غير المرجح أن يكون التقدم في المحادثات كافيًا لإبقاء الإيرانيين ضمن الحدود المنصوص عليها في الاتفاق، وما سيحدث بعد ذلك هو أن تقرر القيادة الإيرانية، في الأيام القليلة المقبلة إلى أي مدى سيمضي الإيرانيون قدمًا في تقليص التزامهم بنصوص الاتفاق.