ما هي إلا رداء للفقراء، هكذا يصنفها الأغلبية، فأسعارها المتدنية مقارنة بالملابس الجديدة والمستوردة لا تُقارن، فسعر السترة المحسوبة على ملابس البالة لا تتجاوز الدولارين أمام 50 دولارًا أحيانًا للبضائع الجديدة، وخاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية بقطاع غزة، ما جعلها إحدى أكثر المدن العربية القابعة تحت خط الفقر.
وإلى جانب أسعارها الرخيصة، لجأ الآلاف لارتدائها لرؤية مختلفة وبعيدة عن تردي الوضع الاقتصادي في البلاد، حيث تفوق خامة هذه الملابس وجودة أقمشتها البضائع الجديدة التي تعد غالبية مصادرها من الصين، فمصانع الصين تُنتج ما يريده المستهلك بالجملة وحسب جودته، وفي غزة، غالبية ما يستورده التجار ذا جودة لا تتعدى تلك المتوافرة في أسواق البالة، فبالنسبة للأولى لا يملك المواطن سعر المستورد ذي الجودة المتردية أساسًا ليستطع شراء ملابس ذات جودة عالية، بينما الأخيرة تكون قد استهلكت من أثرياء أوروبيين أو إسرائيليين أو عرب، لتصل البلاد بطرق عدة.
وبعيدًا عما يراه أصحاب المزاج الآخر من مقارنة الجودة بين البالة ونظيرتها من الألبسة الجديدة، تبقى الحالة المادية في قطاع غزة سيدة الموقف، وخاصة في فترات الأعياد والمناسبات، فالغزيون جعلوا من سوق “فراس” وسط مدينة غزة، سوقًا شعبيًا للبالة فقط، يرتاده مئات الآلاف من المواطنين بشكل دوري.
المواطن رأفت سليمان 24 عامًا اعتاد بشكل أسبوعي الذهاب إلى سوق السبت في منطقة حي الزيتون بالقرب من سوق السيارات، حيث تُجرى مزادات علنية على البالة بكل قطعة يتم استخراجها من حاوية “كونتينر” مملوءة بهذه الألبسة، تبدأ أسعارها من نصف دولار حتى دولارين، فيذهب إلى منزله وبحوزته 10 قطع أسبوعيًا من ملابس اشتراها بمجموع 15 دولارًا، في حين تكلفه القطعة الواحدة من الملابس الموجودة في المعارض 50 دولارًا.
يوضح رأفت أنه لا يملك ما يسد به رمقه هو وأسرته لكي يشتري الملابس الجديدة، حيث تشكل الشؤون الاجتماعية مصدر الرزق الوحيد لهم، فيتقاضون من الشؤون 220 دولارًا كل ثلاثة شهور، أي بمعدل 70 دولارًا شهريًا، في حين أن سعر الرداء الحديث يفوق ذلك المبلغ وخاصة في فترة الأعياد، فها هو يملأ خزانته بملابس البالة المستوردة من عدة بلدان، وقد اعتمد عليها في زفاف أقاربه وفي دراسته المدرسية والجامعية، كما أن هذه الملابس يُمكن لأي مواطن فلسطيني معرفة أنها ضمن فصيلة البالة أم لا، كون جودة قماشها تختلف بدرجات عليا عن الملابس الجديدة المستوردة من الصين.
ولكن قد تحل مصيبة على هذه التجارة قريبًا، بشكلٍ رأسي قد يؤثر على المواطن الفلسطيني ذي الطبقة الفقيرة، وهي الأغلبية الساحقة في قطاع غزة، وذلك نتيجة الضرائب الجديدة التي فرضتها حكومة حماس على هذه البضائع بعد ازدهارها وانتشارها بشكل كبير، ما أدى لانخفاض عدد التجار والمستوردين لهذه البضائع، ممن يعتبرون من ملوكها، فوصل عدد التجار حاليًّا إلى 10 أشخاص من أصل 40 تاجرًا، في أقل من ستة شهور، ما يدل على كثرة هذه الضرائب، بشكل أرهق 30 فردًا من كبار تجار الملابس.
يعتبر أبو فهمي – اسم مستعار -، من كبار تجار ملابس البالة على مستوى قطاع غزة، بدءًا من الأحذية بأنواعها العالمية التي لا يوجد لها مثيل في نظيرتها من البضائع الأخرى بغزة، مرورًا إلى بدل العرائس والمديح وغيرها، ويمتلك 6 معارض لتجارة البالة، فيما ينشط عماله بعرض هذه البضائع بالمزاد العلني في الأسواق الأسبوعية كسوق “اليرموك”، وكذلك سوق السيارات وسوق الجمعة في حي الشجاعية وسوق “الشيخ زايد” شمالي القطاع الذي يُفتتح يوم الثلاثاء من كل أسبوع، فما زال هذا التاجر يقف على ساقيه بعد سلسلة الضرائب الأخيرة التي فُرضت على ملابس الفقراء.
يقول أبو فهمي لـ”نون بوست”: “الضرائب الأخيرة التي فرضتها حكومة غزة على ملابس البالة باتت تشكل أزمة حقيقية على التاجر والمشتري معًا، فبعد أن كانت الحكومة تُجبي ضرائب افتراضية على كل طن من هذه الملابس بقيمة 200 شيكل، ضاعفت هذا العدد، ليصبح المبلغ المدفوع كاملاً 400 شيكل، ما يعادل 120 دولارًا أمريكيًا على كل طن من هذه الملابس، ولا يشمل ذلك ضرائب السلطة الفلسطينية”.
ويتابع أبو فهمي: “نعوض نحن كتجار هذه الخسائر الناتجة عن الضرائب من خلال رفع أسعار قطع الملابس، لكن الإشكالية هنا أن أكثر المتضررين هو المواطن الفقير الذي لا يستطيع الصمود أمام الأسعار المرتفعة، ما قلل من نسبة الزبائن نوعًا ما، فضلاً عن ذلك فقد انكسر تجار آخرون وأغلقوا كل الملفات المتعلقة بهذه التجارة”.
وعن كيفية جلب هذه الملابس من السوق الخارجية، يوضح أبو فهمي قائلاً “التجار والأفراد يعرضون منتجاتهم من قمصان وسراويل أو أحذية أو غيرها علينا كتجار فلسطينيين عبر الإنترنت بشتى الوسائل، سواء عبر مواقع التواصل الاجتماعي أم عبر متاجر إلكترونية متخصصة بهذه التجارة، وبعد الاتفاق على سعر المنتج و جودته، نشحنه من دولة المصدر إلى ميناء مدينة أسدود الفلسطينية التي تقع تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، وبعد ذلك يشحن الجانب الإسرائيلي هذه البضائع إلى مدينة غزة عبر بوابة حاجز “كرم أبو سالم” الذي تسيطر عليه حاليًّا حركة حماس، وذلك بعد التأكد من خلوها من أي منتجات مهربة أو عسكرية”.
ما مستقبل سوق البالة بغزة في ظل هذه الظروف؟
بحسب ما يوضح المختص في الشأن الاقتصادي الدكتور سمير أبو مدللة في حديث خاص لـ”نون بوست” فإن سكان قطاع غزة البالغ عددهم مليوني نسمة، بلغت نسبة الأفراد القابعين منهم تحت خط الفقر 53%، أي أن أكثر من نصف سكان القطاع يعيشون في ظروف اقتصادية متردية، وتصل معدلات البطالة إلى 67%، وقرابة 50 ألف أسرة تعيش بلا مأوى، فمن الطبيعي جدًا انتشار هذه التجارة في قطاع غزة، بل وفتح أسواق لها.
يبين أبو مدللة أن ملابس البالة انتشرت في قطاع غزة بشكل كثيف خاصة بعد تقليص رواتب موظفي السلطة الفلسطينية عام 2013 فما بعده، مرورًا بسياسة حكومة غزة، من جباية الضرائب على الكثير من المنتجات الغذائية والحياتية، وكان آخرها فرض ضرائب على ملابس الفقراء فوق الضرائب التي تجبيها السلطة الفلسطينية أيضًا.
وأوضح الدكتور سمير أبو مدللة أن الوضع الاقتصادي المتردي في غزة يعد المواطن ضحيته الأولى دائمًا خاصة بعدما أفاد البنك الدولي في دراساته الأخيرة، أنه يوجد فرد من كل اثنين في قطاع غزة لا يستطيع سد رمقه، فيما تعاني 70% من الأسر الفلسطينية في قطاع غزة من انعدام الأمن الغذائي، وهنا أصبح المواطن الفلسطيني يلجأ إلى البدائل في كل شيء، سواء في طعامه أم طرق المواصلات التي يتبعها وحتى في ملبسه أيضًا، ومن غير المعقول ملاحقة الفقراء في بدائلهم التي لجأوا لها عنوة.
ويضيف أبو مدللة “سوق البالة قد يتأثر جراء هذه الضرائب، ولكن ليس كثيرًا في هذه الظروف ما دامت هذه الملابس رخيصة مقارنة بالملابس الجديدة، فقد يزيد سعر كل قطعة دولارًا أو دولارين، ولكن هذا ليس جيدًا لعشرات الآلاف من المواطنين في غزة الذين يعيشون على أقل من دولار يوميًا، في ظل ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب 70% وهي النسبة الأعلى في العالم”.