أدت حرب الإبادة على قطاع غزة إلى جملة من التحولات على المستوى الدولي، للمطالبة بوضع حد للانتهاكات الإسرائيلية، واختبار فاعلية القانون الدولي وجدوى المؤسسات والمنظمات الإنسانية في وقف الحرب، لا سيما في الاعتراف بالجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، التي وصلت حد القتل المكثف وتراكم الجثث وتحويل قطاع غزة بأكمله إلى مقابر جماعية وسط تدمير هائل للبنية العمرانية.
ومع تصدير واقع الإبادة إعلاميًا وعلى مواقع التواصل الاجتماعي للعالم، وفي ظل منع “إسرائيل” لأي من المنظمات الحقوقية والشخصيات القانونية من زيارة قطاع غزة، برزت جهود عديدة وتحركات على مستوى القانون وحقوق الإنسان في محاولة للقيام بأي جهود تحاسب “إسرائيل” على أفعال الإبادة المستمرة في القطاع.
من أهم هذه الجهود ما تقوم به المقررة الأممية الخاصة بالأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، من متابعة لواقع الإبادة وتوثيقه ورفعه للهيئات الدولية، في محاولة للفت أنظار العالم للإبادة الجماعية التي أدت إلى تناقص عدد سكان القطاع بنحو 6%، في تعرية واضحة لامتهان الكيان الصهيوني للقانون الدولي والإنساني بحجة تشريع قتل الفلسطينيين، ولتحقيق أهداف تلتقي مع طبيعته كقوة احتلال في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة.
وسبق أن طالبت ألبانيز المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات اعتقال بحق مسؤولي الاستيطان الممتد في الضفة الغربية، بالتزامن مع التحريض على الاستيطان في قطاع غزة الذي تصاعد على إثر عملية الإبادة العمرانية والبشرية التي تقوم بها قوات الاحتلال منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كما حذرت من امتداد العنف إلى الضفة الغربية، التي تشهد بالفعل جهود موسعة للاستيطان قبل شن الحرب على قطاع غزة، بينما ازدادت هذه الجهود منذ الإبادة.
حسب هيئة مقاومة الجدار والاستيطان فإن العنف الإسرائيلي في الضفة الغربية في تصاعد، وشمل مؤخرًا موجات اعتدائية خلال موسم الزيتون ومحاولة إقامة 7 بؤر استيطانية ذات طابع رعوي وزراعي، والاستيلاء على 84 دونمًا من الأراضي الفلسطينية، هدم 45 منشأة والإخطار بهدم 38 أخرى، ودراسة 15 مخططًا هيكليًا يهدف إلى التوسع في الاستيطان بالضفة الغربية والقدس.
يسلط هذا التقرير الضوء على الجهود القانونية والحقوقية للمقررة الأممية خلال حرب الإبادة على قطاع غزة، وأهمية دورها على المستوى القانوني والإنساني، والإقرار بتنصل “إسرائيل” من المحاسبة.
تقرير “تشريح الإبادة الجماعية”
منذ شن العدوان على قطاع غزة لم تتوان المقررة الأممية عن المطالبة بتعليق عضوية “إسرائيل” بالأمم المتحدة بسبب الإبادة التي تمارسها، التي تخرق القانون الدولي والإنساني.
ودعمت ألبانيز جهودها كمقررة أممية برفع تقرير “تشريح الإبادة الجماعية” لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في خطوة واضحة قصدت من ورائها لفت أنظار العالم لواقع الإبادة في القطاع على مستوى حقوقي وقانوني، وبصورة أغضبت الكيان المحتل.
واعتمدت ألبانيز على تحليل “أنماط العنف والسياسات التي تتبعها إسرائيل في هجومها على غزة”، مشيرةً إلى أن “إسرائيل” استوفت أكثر من الحد الأدنى لما يمكن اعتباره إبادة جماعية.
ولفتت ألبانيز الأنظار لخطورة ما تقوم به “إسرائيل” على مفاهيم القانون الدولي، بتشويه قوانين الحرب وتفريغها من أصولها القانونية “لإضفاء شرعية على عنف الإبادة الجماعية” ضد الجماعة الفلسطينية.
وتطرق التقرير في فحواه – الذي يعتبر مهمًا كجهود مكملة لما استعرضته جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية من ممارسات إبادية تقضي بارتكاب “إسرائيل” إبادة جماعية مستوفية الشروط في قطاع غزة – إلى “عمليات القتل الجماعي والأذى الشديد والظروف القاسية المهددة لحياة الفلسطينيين”.
وشددت ألبانيز على أن الإبادة الجماعية جزء “لا ينفصل عن الاستعمار الاستيطاني” الذي يشكل جوهر العقلية الإسرائيلية التي تنكر حق الشعب الفلسطيني في الوجود وتشرع محوه، خصوصًا أن إنشاء الدولة الصهيونية في فلسطين انطلق من طبيعة هذا الفكر الإبادي، تبعه ممارسات لفظية وعملية على أرض الواقع لغت الصفة الإنسانية عن الشعب الفلسطيني، واعتبرت أن غزة أرض يجب إعادة استعمارها واستيطانها خصوصًا بعد فك الارتباط عن القطاع عام 2005 الذي لم يُرضِ المستوطنيين الإسرائليين.
ونوهت ألبانيز إلى أن “إسرائيل” ارتكبت 3 أفعال على الأقل مما نصت عليه اتفاقية الإبادة الجماعية كأفعال محظورة وشمل ذلك: قتل أفراد المجموعة، والتسبب في إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد المجموعة، وإخضاع المجموعة عمدًا لظروف معيشية يراد بها إهلاكها الجسدي كليًا أو جزئيًا، وأشارت إلى أن ذلك يلتقي مع نية ارتكاب الإبادة الجماعية التي تحضر كثيرًا في خطابات المسؤولين الإسرائيليين.
موقف “إسرائيل”
منعت “إسرائيل” المقررة الأممية من زيارة قطاع غزة مرتين على التوالي رغم أن ذلك يقع ضمن مسؤولياتها، إذ عكف الكيان المحتل على عرقلة جهود المؤسسات الأممية والحقوقية منذ الشروع بالعدوان على القطاع، كما طالبت “إسرائيل” بإقالتها بسبب تعليقاتها على واقع الإبادة في القطاع، فيما أعرب ممثلو الكيان في الأمم المتحدة عن رفضهم الكامل للتقرير.
وتواجه ألبانيز حملات تحريضية ضدها بسبب نشاطها المكثف ضد أعمال الإبادة التي تقوم بها “إسرائيل”، التي تتهمها بمعادة السامية.
ومنذ مباشرتها بإعداد التقرير واجهت ألبانيز هجمات وتلقت تهديدات بسبب مساعيها لتوثيق الجرائم الإسرائيلية، إلا أن ذلك لم يثنها، في إشارة واضحة إلى فشل “إسرائيل” في تحقيق رغباتها بتكميم الأفواه الناطقة باسم الفلسطينيين على مستوى دولي.
وشملت جهودها المكثفة مطالبة العالم بمواجهة “إسرائيل” وأفعالها الوحشية، مع الأخذ بعين الاعتبار أنها ليست فوق القانون، وإنما ما يجب أن يقوم به العالم هو حماية القانون الدولي والإنساني، وعدم السماح باتخاذه وسيلة لتبرير أفعال العنف التي تقوم بها “إسرائيل” في قطاع غزة.
كما لا تخلو تصريحاتها من الإحالة للنكبة عام 1948، بالإشارة إلى أن الشعب الفلسطيني ضحية عقلية الاحتلال الإسرائيلي، مشيرة إلى الحاجة “لمزيد من البحث لنقرر إذا ما كان ما حدث في عام 1948 إبادة جماعية”.
التأثير العالمي
أعربت “إسرائيل” في تعليقها على تقرير “تشريح الإبادة الجماعية” عن غضبها ورفض ما جاء فيه، كما لا تخفي “إسرائيل” جهودها المستمرة في التنديد بما تقوم به المقررة الأممية، إلا أن هذا الغضب رافقه خوف بدا واضحًا لما حققه التقرير من إعجاب على مستوى العالم بالمجهود الذي وضعته ألبانيز في تفصيل الإبادة وصورها، وبلغة بليغة أخذت القانون بعين الاعتبار في وصف الواقع المرير الذي يعيشه الفلسطينيين، والذي نم عن عمل دؤوب لصالح القضية الفلسطينية والفلسطينيين.
وتمثل أهمية ما قدمته ألبانيز على مستوى عالمي في مواجهته البروباغندا الإسرائيلية ودحضها بالحقائق المنعكسة على أرض الواقع، والمتمثلة بالمجازر المستمرة التي تؤدي إلى القتل المكثف دون ارتباط ذلك بتحقيق أي إنجاز عسكري، ذلك أن قتل المدنيين بهذا العدد لا يمكن أن يكون مرتبطًا بأي خطر على “إسرائيل” وإنما يخدم مسيرتها بالتطهير العرقي.
إن ما تقوم به ألبانيز ضروريًا في بناء خطاب مناهض للأكاذيب التي يدلي بها الكيان الصهيوني في المحطات الإعلامية ويروج من خلالها لخططه الرامية لإعادة احتلال القطاع، فيما تمثل جهود المقررة الأممية خطوة مهمة للتأكيد على أن ما يقوم به الاحتلال يتجه للمساعي الرامية لإبادة الشعب الفلسطيني وإلغائه على أساس استعماري عنصري، وهو ما يعد ضروريًا للتأكيد على خطورة ذلك من منظور حقوقي وقانوني، وضرورة التحرك لإفشال خطط “إسرائيل” الاحتلالية.