من قلب حي الزمالك بوسط القاهرة، ذاك الحي الأرستقراطي الشهير، خرج للأضواء، ذلك الفتى الوسيم، ذو الشعر الأشقر، ورغم تفوقه العلمي ونبوغه منذ الصغر إلا أن عشقه للفن كان أكبر، فجمع بين الحسنيين، العلم والفن، فلقب بـ “الطبيب الفنان” صاحب القلب النقي المحب للخير.
محمد عزت أحمد شفيق أبو عوف، أو كما يعرفه المصريون “عزت أبو عوف” الفنان الذي غادر الحياة، فجر اليوم، في هدوء الكبار، بعد صراع دام طويلًا مع المرض، عن عمر ناهز الـ 71 عامًا، أثرى خلالها المكتبة الفنية بالعديد من الأعمال الفنية الخالدة، التي وإن قلّت في عددها إلا أنها ستخلد اسمه بين عمالقة الفن في المحروسة.
ترعرع في بيت فني ذواق للموسيقى، فوالده ” أحمد أبو عوف” كان عميدًا لمعهد الموسيقى العربية، ومن ثم كانت التربة خصبة تمامًا، ليس لخروج فنان واحد فقط، بل لأسرة بأكملها، وبينما كانت تسيطر النظرة الذكورية على المجتمع آنذاك، خرج من هذا البيت فرقة فنية كاملة، يتزعمها عزت برفقة شقيقاته الأربع.
الموسيقى.. العشق الأول
وُلد أبو عوف في 21 أغسطس 1948، كانت أمنية والده رغم ميوله الفنية أن يراه طبيبًا، رغم ما أبداه الطفل منذ صغره من عشقه للفن والموسيقي، إلا أنه استجاب لرغبة والده، فالتحق بكلية الطب جامعة الأزهر، متخصصًا في أمراض النساء والتوليد، ومارس المهنة قرابة 15 عامًا كاملة.
لم يكن والده ببعيد عن ميول ابنه الفنية، فهو صاحب نظرية ”العبوا مزيكا، بس ادرسوا حاجة تانية“، وهو ما جعله يتجه لتكوين فرقة ”les petites chats“ أو ”لوبوتيشا“ مع بعض أصدقائه لتقديم الموسيقى الغربية، وهو في الـ19 من عمره، واشتهرت الفرقة حتى أصبحت من أهم الفرق المصرية لتحاكي فرقة ”الهيبز“ المعروفة.
حياة الطب العملية رغم قسوتها لم تثنيه عن حلمه الذي ظل يداعب خياله مرارًا وتكرارًا، فالتحق بمعهد الكونسرفتوار لتعليم الموسيقى، رافق كبار الموسيقيين في هذا الوقت، على رأسهما العمرين، عمر خورشيد وعمر خيرت وغيرهما من عمالة العزف على الآلات الموسيقية في الوقت الحاضر.
الفرقة كان لها حضور كبير في مختلف البلدان العربية، فجابت أقطار العالم العربي ونجحت في إنتاج 8 ألبومات كاملة، كانت بوابتها نحو الجماهيرية والشهرة، الأمر الذي دفعها نحو اختراق العديد من المجالات الفنية الأخرى منها مجال الموسيقى التصويرية، إذ قدمت موسيقى مسلسل ”حكاية ميزو“ لسمير غانم، ولحّن اسكتشًا مسرحيًّا في عرض ”الدخول بالملابس الرسمية“ لأبو بكر عز وسهير البابلي.
قضى والده فترة من حياته ضمن تنظيم جماعة الإخوان المسلمين، حسب ما أفصح عنه «عزت» في حواره لمجلة «سيدتي» عام 2012، وهو ما لم يعلن عنه في أي مناسبة سابقة
بعد ذلك اتجه أبو عوف للتمثيل وشارك في بطولة عشرات الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، منها: العائلة، هوانم جاردن سيتي، نصف ربيع الآخر، زيزينيا، عمارة يعقوبيان، عباس الأبيض، أنا قلبي دليلي، قضية نسب، الدالي، أماكن في القلب، شيخ العرب همام، قضية صفية، الأب الروحي، ظل الرئيس، وغيرها.
جدير بالذكر أن أصول والد أبو عوف تعود إلى مدينة بني مزار بمحافظة المنيا (صعيد مصر)، والتي تربى فيها متمًا تعليمه بها كذلك حتى قدم إلى القاهرة في أربعينيات القرن الماضي، وكان وقتها ضابطًا صغيرًا في الجيش المصري، حسب ما رواه للإعلامية الراحلة سامية الإتربي ببرنامج «حكاوي القهاوي».
تعلق الوالد بشارع محمد علي بمجرد مجيئه، لضمه الكثير من الفرق الموسيقية والتي كانت تُسمى في تلك الفترة بـ«التُخَت»، كما واظب على حضور جلسة الفنان الراحل سيد درويش حتى استقى منه التراث الغنائي وفق قوله، إلى أن اشترى لنفسه آلة العود.
قضى والده فترة من حياته ضمن تنظيم جماعة الإخوان المسلمين، حسب ما أفصح عنه «عزت» في حواره لمجلة «سيدتي» عام 2012، وهو ما لم يعلن عنه في أي مناسبة سابقة، مبررًا كتمانه: «لم تكن هناك مناسبة آنذاك، ولكن كل المقرّبين مني على علم بأن والدي كان من الإخوان المسلمين».
عزت وشقيقاته الأربع
المايسترو مكتشف المواهب
عُرف عن أبو عوف الذي لقب فيما بعد بـ “المايسترو” حبه لمساعدة الأخرين، ومد يد العون للمواهب الشابة، ودعمها لتوصيل صوتها للجماهير، فكان صاحب الفضل في اكتشاف العديد من الوجوه الشابة والفنية خلال فترة الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي.
ولم يكن فيلم “إسماعيلية رايح جاي” الذي تم إنتاجه عام 1997 من إخراج كريم ضياء الدين سوى تجسيد حقيقي لمسيرة الرجل الاستكشافية، إذ تدور أحداث الفيلم حول الشاب البسيط محمد فؤاد الذي خرج برفقة شقيقه وأصدقائه لحضور حفل لفرقة “فور إم” في نادي الشمس، الفتى كان يعتقد أن لديه موهبة في الغناء، فدفعه أصدقائه لإعتراض سيارة عزت أبو عوف قائد الفريق الذي كان من أشهر فرق الموسيقى بالقاهرة وقتها، “أبو عوف” ساعد الفتى بدون حسابات.
اللافت للنظر أن هذه الواقعة قد حدثت بالفعل على أرض الواقع قبل 15 عاما تقريبًا من إنتاج الفيلم، وكان أبو عوف هو بوابة دخول المطرب محمد فؤاد عالم الغناء والموسيقى، إذ عرفه على بعض الفرق وقدمه للملحنيين والمنتجين، فكان سببًا رئيسيًا في جماهيرية الفنان الذي لم يترك مناسبة إلا ويذكر فيها تلك الواقعة ممتنًا بالجميل للفنان الراحل.
مع زوجته
ضد تظاهرات 30 يونيو
كان أبو عوف متسقًا مع نفسه منذ البداية، فهو الذي أقر أهداف الشباب السامية في القيام بثورة 25 يناير المجيدة وإن كان لديه العديد من التحفظات عليه ذكرها فيما بعض بشأن طريقة إدارتها والمرحلة التي وصلت إليها البلاد عقبها في ظل القفز عليها من أنصار الثورة المضادة والمنتفعين.
وبينما كانت الغالبية تعزف على وتر التجييش لتظاهرات 30 يونيو كان للرجل رأي أخر، رأي أقل ما يوصف عنه أنه احترام للقانون والدستور، فكان صاحب نظرية ترك الرئيس الراحل محمد مرسي إكمال مدته الرئاسية الأولى، ثم يتم اختيار غيره عبر صناديق الاقتراع وبالطرق الشرعية.
تدهورت الحالة الصحية لأبو عوف بعد وفاة زوجته فاطمة الزهراء، حيث كانت تحتل مكانة كبيرة في قلبه وحياته، إذ تعرض لحالة من الانهيار العصبي، دخل على إثرها في أزمة نفسية سيئة، أضطر بسببها في إجراء بعض العلميات الجراحية
أبو عوف في كلمة وجهها للمصريين قبيل التظاهرات بأيام بسيطة في برنامج “القاهرة اليوم” قال : ثورة يناير أعظم حدث في التاريخ.. بلاش 30 يونيو.. ليه.. اتعلموا من اليهود.. اليهود فضلوا من أيام عبد الناصر يرسموا على موضوع سد النهضة وبدأوا فيه بعد خمسين سنة.. فاضل 3 سنين.. استنى الثلاث سنين دول عشان الشرعية تبقى معاكم.. لأنهم بصراحة معاهم الشرعية.. لو دخلنا في بعض هتكون في خناقة ودم”، وحين قاطعته المذيعة شافكي المنيري بسؤال : 3 سنين” أجاب أبو عوف : مش أحسن لما يبقوا 30 سنة.. لو حدث ونزلت الناس في 30 يونيو الثلاث سنوات هيبقوا 30 سنة”.
وفاة زوجته.. الحدث الأكثر ألما
تدهورت الحالة الصحية لأبو عوف بعد وفاة زوجته فاطمة الزهراء، حيث كانت تحتل مكانة كبيرة في قلبه وحياته، إذ تعرض لحالة من الانهيار العصبي، دخل على إثرها في أزمة نفسية سيئة، أضطر بسببها في إجراء بعض العلميات الجراحية، ثم أُصيب بفيروس في أذنه الوسطى، وأجرى جراحة قلب مفتوح عام 2015.
”لولا أني أعمل في الفن الذي أحبه لكنت دخلت مستشفى المجانين، وأنا لكوني طبيب نساء وولادة، فأرى أن الطب فن وأن الفن طب، وهناك ارتباط وثيق بينهما، وأنا صاحب مزاج، وأحب ما أفعل بشدة“.. هكذا علق الفنان الراحل على حالته النفسية عقب وفاة زوجته.
إلا أن المقاومة لم تدم طويلًا، ففي الثاني من يونيو / تموز الماضي، تعرض الفنان لأزمة صحية حادة، دخل على إثرها المستشفى حتى وافته المنية صباح اليوم، وسط صدمة كبيرة من جمهوره ومحبيه، خاصة وأنه كان يتمتع بروح جميلة وتربطه علاقات طيبة مع الجميع.
نقيب الممثلن، الفنان أشرف زكي، نعاه بقوله “إن مصر اليوم فقدت أحد رموز وقامات الفن الكبيرة، بوفاة الفنان عزت أبو عوف، الذي قدم للفن العديد من الأعمال التي لن ينساها محبيه، مضيفًا “ليس بوسعنا قول إلا ما يرضي الله، البقاء لله وحده، خسرنا فنانًا عظيمًا، وعلى المستوى الإنساني شخص خلوق ونقي”.