المسرح بشكل عام هو فن لا يعرف للحدود معنى، لكنه في حالتنا ترك موطنه الأصلي ونما وأينع في ربوع الإمبراطورية العثمانية ليحكي عنها روايات وقصص وبطولات ملحمية، وينتقد كذلك أوجه العجز فيها ليصبح بذلك صوت الشعب وأكثر أنواع الترفيه شعبية بين الناس.
اجتماعيًا، ارتبط ازدهار مسرح خيال الظل ارتباطًا وثيقًا بالحياة الدينية، فالمسرح كما يعدّه المفكرون امتداد للطقوس الدينية، وفي الإمبراطورية العثمانية كان رمضان في أحد أبعاده آنذاك يتلخص في صبر طويل على الصيام وإفطار سريع يعقبه التوجه لمشاهدة عروض المسرح كطقس ثقافي اجتماعي ثابت تتعالى خلاله أصوات الضحكات النابعة من تناغم الجمهور مع أصوات الموسيقى والأشعار المقفاة التي يرددها كلٌ من “كراكوز” و”عيواظ” أبطال المسرحية؛ وهو ما كان يلعب دورًا مهما في تثبيت الهُوية الاجتماعية عبر تجسّد المقدس في اليوميّ. ليس هذا فحسب، فَتلك العروض المسرحية هي أول ما سيتبادر إلى الذهن عند ذكر حفلات الختان، حيث كانت جزءًا لا يتجزأ من فعاليات الاحتفال.
تعددت المسميات في كل دولة حول مسرح الظل كما تعددت الروايات حول ماهية شخصياته كونها مستمدة من الواقع أم من وحي خيال المؤلف، ولكن الشيء الذي لا جدال فيه هو أن هذا الفن ذو تاريخ عريق جعل اليونسكو تعترف به جزءًا من التراث الثقافي غير المادي في عام 2009م بعد رحلة بدأت منذ أكثر من سبعة قرون.. فهيّا بنا نتعرف باستفاضة عليه وارتباطه بالحياة العثمانية:
نشأته
فمسرح الظل فنّ شعبي أدائيّ يعتمد على التفاعل البصريّ الحركي لإيصال رسائل شفاهيّة، انتقل من شرق آسيا كالهند وإندونيسيا والصين إلى العالم الإسلامي واشتهر به العصر المملوكي على وجه الخصوص.
أبطال هذا المسرح هي دمى مصنوعة من جلود الحيوانات المدبوغة بتقنية الجلود الزجاجية وملونة بألوان طبيعية متباينة
وقد شق طريقه نحو الامبراطورية العثمانية على رفات الدولة المملوكية، عندما مثّل أحد فناني مسرح الظل المملوكيين حادثة وصول السلطان العثماني “سليم الأول” إلى مصر في القرن السابع عشر وهزيمته لآخر حكام الدولة المملوكية “طومان باي” وقيامه بشنقه بالحبل الذي قُطع في المرة الأولى ثم اضطراره للمحاولة مرة أخرى لتعليقه على باب زويلة؛ فأُعجب بها السلطان العثمانيّ سليم الأول إعجابًا شديدًا، وكان لهذا الإعجاب أثره على انتقال هذا الفن إلى الأراضي العثمانية لاحقًا.
وأبطال هذا المسرح هي دمى مصنوعة من جلود الحيوانات المدبوغة بتقنية الجلود الزجاجية وملونة بألوان طبيعية متباينة، وتتراوح أطوالها بين ثلاثين إلى خمسين سنتيمترًا، وأثناء العرض أمام الجمهور يقوم المؤدي بتحريكها من خلال عصا خلف ستار من القماش الأبيض، مسلط عليه قدر من الضوء، مما يجعل ظلها يبرز للمشاهدين.
ويتمّ تناول الموضوعات في مسرح خيال الظل عبر تسليط الضوء على العناصر مضحكة حصرًا، إلا أن تلك العناصر في حقيقة الأمر تكون مزدوجة المعاني وغنية بالمبالغة واللعب بالكلمات، مع موسيقى خلفية ملهمة وملائمة للعرض، وهو في ذلك خاضع للارتجال المبني على موهبة المؤدي وبيئة الأداء، رغم تصنيفه الرسمي كمسرح قائم على النصّ.
وقد وصلت ذروة تألق مسرح خيال الظل في عصر الدولة العثمانية عندما شكل مع الذوق الوطني المحلّي في البيئة التركية وجهاتِ نظر مختلفة للحياة الترفيهية آنذاك، كما لم يقتصر دوره على كونه وسيلة للترفيه إنما كان أداة لتنمية الوعي الاجتماعي والثقافي لدى الشعب وذلك لكون موضوعاته مستمدة من مشاهد الحياة اليومية وناقدة لها في نفس الوقت.
تقوم هذه المسرحية على شخصيتين رئيسيتين هما “كراكوز” و”عيواظ” اللتين يعكسان التناقض الناتج عن اختلاف البيئة الثقافية والاجتماعية التي نشأ فيها كلٌ منهما
وكثيرًا ما كانت وظيفة مسرح الظل هي التعليم والتلقين والتوجيه الأخلاقي لتأكيد الذات الاجتماعية للنشء عبر تسليط الضوء على الأخلاق الأصيلة العادات والتقاليد الإيجابية المحمودة في المجتمع، وفي أحيان أخرى كتمثّل لتلاؤم وظيفته مع البيئة المحلية كانت وظيفة مسرح الظل تاريخية توثيقية، بما يمكن تسميته “تتريك المسرح” عبر تقديم نبذات تاريخية وصور ذهنية عن الثقافة العثمانية في تلك الفترة بشكل مفصل في اللغة والملابس والتعليم والقيم والثقافة للشعب التركي العثماني. ولم يغفل أيضًا تقديم صور لاختلاف السمات والهُويات الثقافية لدى كل فرد من خلال شخصيات العرض المحورية.
الشخصيات
وتقوم هذه المسرحية على شخصيتين رئيسيتين هما “كراكوز” و”عيواظ” اللتين يعكسان التناقض الناتج عن اختلاف البيئة الثقافية والاجتماعية التي نشأ فيها كلٌ منهما، حيث أن كراكوز، البطل الأول للمسرحية، مثال لفئة العامة من المجتمع الذين لم يحصلوا على نصيبهم من التعليم إلا أنه مع ذلك يتسم بالشجاعة وسرعة الاستثارة والغضب، وكرهه للكذب والنفاق، وحديثه بلغة الشعب فلا يفهم عبارات المثقفين ويعطيها معنى مغايرًا عن أصلها ومن هنا تتولد الفكاهة والنكات، أما عيواظ، البطل الآخر للمسرحية، فإن شخصيته مناقضة تمامًا لشخصية كراكوز، حيث يتمتع بهيئة منمقة تتناسب مع طبقة المثقفين الذين يمثلهم، وقدر من المعلومات والمرونة اللغوية تسهل عليه الدخول في أنماط مختلفة من الحوار، كما يفهم في الموسيقى والأدب وله القدرة على القيام بالمفاوضات كرجل أعمال ذكي.
لم يكتف هذا الفن بتمثيل التناقض بين شخصيات المجتمع فحسب بل قدم أيضًا من خلف الستار جميعَ من عاشوا في اسطنبول حينها من أرمن ويهود وروم وعرب مبرزًا بذلك دورهم في المجتمع.
هيكل المسرحية
وتتكون المسرحية أثناء عرضها من أربع فقرات أساسية:
في الفقرة الأولى تكون المقدمة، ويؤكد فيها “عيواظ” بلغة فلسفية، أن المسرحية هي أداة تعليمية ومرآة غير حرفية لما يدور في الواقع. وخلال هذه الفقرة تعرض صورٌ جذابة لا علاقة مباشرة لها بمضمون المسرحية، كسفينة أو عروس البحر أو قطة أو شجرة؛ وذلك من أجل لفت انتباه الجمهور للتركيز مع المسرحية.
أما الفقرة الثانية فهي فقرة الحوار، وهي واحدة من أهم الفقرات لأنها تركز على السمات و التناقضات في شخصية كلٍ من كراكوز وعيواظ، ويدور الحوار فيها على شكل شعرٍ مقفى مصحوبًا أحيانًا بالموسيقى، والفقرة الثالثة هي الفصل، أصل المسرحية، يتم فيها سرد الموضوع المراد إيصاله وفي نهاية هذا الفصل تنفصل كل الشخصيات الثانوية عن المسرحية ويتبقى فقط الشخصيات المحورية.
ظلت مسرحية الظل تُقدم في كل أنحاء تركيا في القصور والسرايات والمقاهي والحدائق منذ القرن السابع عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر
الفقرة الرابعة وهي النهاية، ويعتذر فيها كراكوز وعيواظ للجمهور عن النكات التي أطلقوها وسوء الفهم الممكن، ويتم فيها الإعلان عن موضوع المسرحية التالية لتحفيز الجمهور على البقاء في المسرح.
شعبيته
حظيَ هذا الفن على شهرة واسعة في كل أرجاء تركيا وخاصة بإسطنبول فأطلق اسم، كراكوز، على العديد من أسماء الشوارع والمساجد والحمامات والأجنحة، ولم يقتصر أثره على اسطنبول؛ إذ يقول أحد أواخر فناني تحريك دمى الظل التركية “مراد دوغان”:”مدينة غازي عنتاب التركية لم يقل تأثرها بمسرح خيال الظل عن تأثر إسطنبول، حيث أن كثيرًا من ممارسيه كانوا يأتون من الولايات الداخلية إلى المدينة لتنظيم العروض المسرحية بها، حتى أن ساحة كراكوز وسط المدينة استمدت اسمها من شخصيات المسرحية”.
تدهوره
ظلت مسرحية الظل تُقدم في كل أنحاء تركيا في القصور والسرايات والمقاهي والحدائق منذ القرن السابع عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر، لكن مع تراجع الدولة العثمانية فقد الفنانون القدرة على استكمال عروضهم، وزادت حملات الانتقاد الموجهة إليهم كما تم إعلان حظر النقد السياسي.
ومع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كانت فترةً من الحروب، فلم تُتح لفناني الكراكور الفرصة لإقامة الحفلات وهجر كثير منهم هذا الفن.
حاولت وزارة الثقافة التركية التي أنشئت بعد عام 1970م إحياء هذا الفن مرة أخرى والحفاظ عليه، وبذل الفنانون جهودًا عظيمة لاحيائه ومن ذلك، إقامة عروض مجانية شهريًا.
وفي 1932م خلال العهد الجمهوري، حظى هؤلاء الفنانون بفرصة أخرى لإعادة عرض أعمالهم الفنية في “دُور الشعب”، ولكن سرعان ما أُغلقت هذه الدور عام 1952م، ودخل فنانو الكراكوز فترة أخرى من الاضطراب، ليواصلوا عملهم بشكل فردي محدود.
إحياء الفن من جديد
حاولت وزارة الثقافة التركية التي أنشئت بعد عام 1970م إحياء هذا الفن مرة أخرى والحفاظ عليه، وبذل الفنانون جهودًا عظيمة لاحيائه ومن ذلك، إقامة عروض مجانية شهريًا.
والآن في ظل التطور التكنولوچي الذي نعيشه والاهتمام الذي توليه الجمهورية التركية الحديثة للحفاظ على إرثها الثقافي نجد أن مجموعة من الطلاب والمعلمين في مدرسة “حرّييَت” الثانوية التقنية الواقعة في مدينة بورصة قد أعلنوا الشهر الماضي عن إتمامهم مشروع دمج التكنولوچيا بمسرح الظل، ليقدموا بذلك مسرحية بدون عصا أو فنان يحركها خلف الستار.
وجاء اهتمامهم بمسرح خيال الظل لما يحمله من قيم ثقافية مرتبطة بالثقافة التركية لايعرفها الأجيال الجديدة فيقول أحد المعلمين الذين عملوا على المشروع :” لقد استغرق مننا 3 شهور لننتج دمية خشبية، أطلق عليها الظل التكنولوچي، تستطيع العمل بنفسها دون تدخل، كما استخدمنا إضاءة مصابيح قوية تسمى “Power Led” للوصول إلى درجات إضاءة مناسبة للعرض، وجاء إيمانًا منا بوجوب تعريف الجيل الجديد بتراث الحضارة العثمانية”.
كما يقول أحد الطلاب الذين شاركوا في المشروع: “الفكرة نبعت أثناء جلوسنا ومشاهدتنا لإحدى مشاهد الكراكوز، وعندما طرحنا الفكرة حول إمكانية تطويرنا لهذا المسرح لقينا استحسان ودعم الجميع، كما أننا نعمل الآن على دمج شخصيات أخرى من التاريخ التركي مع التكنولوچيا.“
وقد جاء كل هذا الاهتمام بشخصيات مسرح خيال الظل بعد إدراج اليونسكو، العام الماضي، هذا الفن ضمن قائمة الفنون التي تحتاج إلى حماية عاجلة وتجديد مستمر.