كشفت مليشيا الدعم السريع المتمردة عن خطط لتشكيل حكومة موازية للسلطة القائمة في السودان، بزعم الإشراف على المناطق الخاضعة لسيطرتها وتقديم الخدمات للأهالي القابعين فيها، الأمر الذي يثير مخاوف متزايدة من تهديد وحدة البلاد، أسوة بتجربة انفصال جنوب السودان عام 2011.
ويأتي الإعلان بعد 21 شهرًا من القتال العنيف بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع، الذي أودى بحياة عشرات الآلاف وأجبر أكثر من 11 مليون شخص على النزوح القسري، بالإضافة إلى إلحاق أضرار جسيمة بالبنية التحتية للبلاد، طبقًا لتقارير أممية.
ويمثل التطور الأخير تحولًا جوهريًا في الصراع المستمر منذ أبريل/نيسان 2023، حيث تسيطر مليشيا الدعم السريع على مساحات واسعة من السودان، بما في ذلك أجزاء واسعة من العاصمة الخرطوم وإقليم دارفور معقلها الرئيسي الذي تعادل مساحته فرنسا.
عن الحكومة الموازية
طبقًا للإعلان الذي نشرته رويترز، فإن الحكومة المزمعة ستضم ثلاث شخصيات بارزة من أعضاء مجلس السيادة السابقين وهم: محمد التعايشي والهادي إدريس والطاهر حجر، ما يعكس محاولة المليشيا لتعزيز نفوذها السياسي والإداري في مواجهة الحكومة السودانية المتمركزة في بورتسودان.
ويتمتع الثلاثي (التعايشي، إدريس، حجر) بتاريخ سياسي كبير، حيث كانوا جزءًا من الحكومة الانتقالية بقيادة المدنيين، بعد الإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير في عام 2019، فيما هم اليوم أعضاء بارزون في أكبر تحالف مدني مناوئ للحرب “تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية – تقدم”.
وقال الهادي إدريس في تصريحات صحفية إن تشكيل الحكومة الموازية يهدف إلى نزع الشرعية عن حكومة بورتسودان، وقطع الطريق أمام عودة أنصار الرئيس المعزول الذين “يختطفون الجيش”، على حد وصفه.
ودافع قادة الميليشيا عن تشكيل حكومة موازية، حيث أكد مستشار الدعم السريع، إبراهيم مخير، في تصريحات صحفية دعمهم الكامل لحكومة جديدة عاصمتها الخرطوم، وقال: “ستجد منّا – الحكومة الموازية – كل الدعم والحماية”.
وعلى الصعيد الدولي، سارعت أطراف عديدة للتعبير عن مخاوفها من تأثير هذه الخطوة على جهود السلام في السودان، حيث يرى المبعوث الأمريكي الخاص للسودان، توم بيرييلو، أن تشكيل حكومة جديدة تحت سيطرة مليشيا الدعم السريع يمثل خطوة للوراء في مساعي تحقيق السلام الشامل.
من جهة أخرى، دعت بعض الدول المجاورة إلى ضبط النفس ومواصلة الحوار لحل النزاع بشكل سلمي، مشددة على أهمية الحفاظ على وحدة السودان واستقراره.
وترى الناشطة السياسية، بدور وقيع الله، أن تشكيل حكومة موازية للسلطة القائمة في بورتسودان، أصبح ضرورة ملحّة، أملتها ما وصفته بتخلي حكومة الأمر الواقع عن مسؤولياتها تجاه سكان المناطق المتضررة.
وأوضحت في حديثها لـ”نون بوست” أن الحكومة المزمع تشكيلها تهدف إلى تنظيم الإدارة في المناطق الخاضعة لسيطرة ميليشيا الدعم السريع، وتوفير الخدمات للأهالي الذين يعانون من تداعيات الصراع والفراغ الإداري على حدٍ سواء.
وأضافت وقيع الله: “من المؤكد أن الحكومة الجديدة ستخفف معاناة المواطنين في المناطق المتأثرة بالصراع عبر تحسين إدارة الموارد المحلية وتوفير الخدمات الأساسية”.
مخاوف مشروعة
يعبر منتقدون عن مخاوفهم من أن إعلان الحكومة الموازية قد يؤدي إلى استعار الحرب وتشظي السودان، في سيناريو شبيه بالتجربة الليبية، حيث قاد الصراع بين الخصوم السياسيين إلى تقاسم السلطة وتشكيل حكومتين في دولة واحدة أو تقسيم جغرافيا مشتركة إلى كيانين منفصلين.
وتمتد الترجيحات كذلك إلى كون الخطوة ذات تأثير مباشر على سير العمليات العسكرية، إذ ستعزز من مساعي مليشيا الدعم السريع للحصول على دعم داخلي وخارجي، ما يهدد بتصعيد القتال بشكل خطير، الأمر الذي قد يضطر الحكومة السودانية لاتخاذ خطوات مضادة لتحصين شرعيتها، ما يعني صب مزيد من الزيت على نار الحرب.
وفي السياق، قال القيادي في تحالف الكتلة الديمقراطية، المساند للجيش، مزمل صديق، إن مليشيا الدعم السريع، وبعد فشلها في مخطط ابتلاع الدولة في 15 أبريل/نيسان 2023، وعجزها عن بسط سيطرتها على إقليم دارفور لإعلان حكومة موازية من غرب السودان، تسعى عبر إعلان حكومة من الخرطوم لاستجداء الدعم الخارجي، وشرعنة تمردها العسكري، والتغطية على انتهاكاتها ضد المدنيين العزل في المناطق المتضررة، في محاولة لإضفاء شرعية على تحركاتها وإعادة ترتيب أوراقها السياسية والعسكرية.
ولم يخف صديق في حديثه مع “نون بوست” مخاوفه من أن تقود تحركات المليشيا، المدعومة قبليًا من الداخل، والمدعومة إقليميًا من قوى خارجية تسعى لاستغلال ثروات السودان وموانئه، إلى انفصالات جديدة بعد تجربة 2011 المريرة على حد وصفه.
وخسر السودان ثلث مساحته الخضراء تقريبًا، وثلثي إنتاجه النفطي، بانفصال الجنوب عقب تصويت ما يزيد على 98% من سكان الإقليم لخيار الانفصال في استفتاء شعبي لتقرير المصير، نهض على اكتاف اتفاقية نيفاشا 2005.
وبشأن إمكانية الانفصال، اعتبرت بدور وقيع الله أن الحديث عن المطالبة بالانفصال لم يصدر عن “الدعم السريع”، وإنما هو ادعاء يروج له من وصفتهم بالقابعين في بورتسودان، وأضافت أن هؤلاء يسعون لتسويق فكرة الانفصال لقوى الهامش تارةً، وإشعال الفتن القبلية تارةً أخرى، وصولًا إلى اتخاذ إجراءات عملية تعزز هذا التوجه، مثل عملية تبديل العملة، وعقد امتحانات الشهادة السودانية في مناطق سيطرتهم فقط، دون مراعاة للأهالي في بقية أنحاء البلاد.
صراعات داخلية
قبل إعلانها الرسمي، كشفت مقترحات تشكيل الحكومة الموازية عن تصدعات عميقة داخل مليشيا الدعم السريع نفسها، حيث طالب يوسف عزت، مستشار قائد المليشيا السابق، بقصر المشاركة في الحكومة على العناصر التي تعلن ولاءها العلني للمليشيا أو التي شاركت في القتال ضمن صفوفها.
وفي ظل الصراعات الإثنية والتركيبة القبلية التي تحرك المليشيا، يُرجح أن يؤدي هذا التوجه إلى تفاقم الانقسامات الحالية، وربما تصعيدها إلى مستويات خطيرة، كما يجري بين العناصر الحاملين للسلاح في الميدان بصورة راتبة.
وفي المنحى ذاته، فإن الشروخ لن تقتصر على المليشيا، ومن المتوقع أن تمتد إلى تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)، التي ترفع شعار “لا للحرب” ومع ذلك يصفها قادة الجيش بأنها الذراع السياسية للمليشيا.
ورغم أن التحالف سبق وطرح فكرة تشكيل حكومة منفى، ثم أجل البت فيها جراء المعارضة الواسعة من قوي مؤثرة به، فإن مشاركة أعضاء بارزين مثل محمد حسن التعايشي والهادي إدريس والطاهر حجر في التحركات الأخيرة قد تعطي إشارة خضراء إلى شخصيات وكيانات جديدة لتنضم إلى الحكومة المزمعة، في تطور قد يؤدي إلى انقسامات حادة داخل التحالف، وربما يعيد تموضع بعض القوى بعيدًا عن الحياد السياسي، ويزج بها في صلب المعركة العسكرية الدائرة.
في النهاية، يبقى تشكيل هذه الحكومة خطوة تحمل في طياتها الكثير من الغموض والتحديات. إذا ما أُحسنت إدارتها وتم توجيهها لخدمة المواطنين وتحقيق الاستقرار، فقد تمثل بارقة أمل في ظل النزاع الدامي الذي يعيشه السودان. أما إذا استُخدمت لتعزيز الانقسامات والسيطرة العسكرية، فقد تكون عاملًا إضافيًا في تفاقم الأزمة، ووصولها إلى سيناريو التقسيم.