اتخذ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خطوة عملية في تنفيذ مبادرة التوسط بين السودان والإمارات، بإرسال مبعوثه نائب وزير الخارجية برهان الدين دوران إلى مدينة بورتسودان، التي أصبحت بمثابة عاصمة مؤقتة بعد التدمير الواسع الذي لحق بالخرطوم جراء النزاع.
وأبدى الرئيس أردوغان، خلال اتصال هاتفي أجراه مع رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان في 13 ديسمبر/كانون الأول الفائت، استعداده لنزع فتيل الأزمة بين السودان والإمارات الخاصة بتمويل الأخيرة لقوات الدعم السريع وتزويدها بالعتاد العسكري عبر تشاد.
وقدم السودان شكوى ضد الإمارات أمام مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، حيث عملت بريطانيا على عرقلة مناقشتها وفقًا لوزارة الخارجية، كما مارست ضغوطًا على الدبلوماسيين الأفارقة لتجنب انتقاد أبو ظبي فيما يتعلق بتمويل قوات الدعم السريع، بحسب تقرير نشرته صحيفة “الغارديان” في 24 يونيو/حزيران 2024.
ووصل مبعوث أردوغان إلى بورتسودان يوم السبت 4 يناير/كانون الثاني الحالي، بعد أسبوع من ترحيب الإمارات بمبادرة تركيا، دون أن تتوانى عن شن هجوم على الجيش، حيث اعتبرت عدم مشاركته في مفاوضات جنيف تجاهلًا صارخًا لمعاناة الشعب السوداني وعدم الرغبة في التعاون بمحادثات السلام لإنهاء الأزمة وتحقيق السلام الدائم.
لماذا ينبغي على السودانيين دعم المبادرة التركية و… https://t.co/mxCSIXcrYM pic.twitter.com/g4wGizgQPs
— SudaneseOnline (@sudaneseonline1) January 5, 2025
تفكير خارج الصندوق
ورحب البرهان، خلال لقائه مع برهان الدين دوران، الذي حضره وزير الخارجية علي يوسف وسفير تركيا لدى السودان، بمبادرة أردوغان وطلب من مبعوثه نقل هذا الترحيب إلى الرئيس التركي، وإلى وزير الخارجية الذي يتولى تفاصيل إدارة هذه المبادرة.
ولا بد من الإشارة، قبل الخوض في المعلومات المتاحة عن المبادرة، إلى أن وزير الخارجية هاكان فيدان يدرك جيدًا الوضع الإقليمي والدولي وتعقيداته وتقاطع المصالح، بحكم أنه رئيس استخبارات تركيا وكاتم أسرار الرئيس أردوغان والدولة.
ويحتمل أن فيدان فكر بطريقة مغايرة بعد بحثه ضرورة وقف تصاعد العنف في السودان مع نظيره الأمريكي أنتوني بلينكن في 12 أغسطس/آب 2024، وأوعز إلى الرئيس أردوغان فكرة طرح مبادرة تصالح الخرطوم وأبو ظبي مستفيدًا من زخم نجاح تركيا في إنهاء الخلاف بين الصومال وإثيوبيا.
تضمنت المبادرة استخدام الإمارات آليات ضغط لضمان امتثال قوات الدعم السريع لوقف إطلاق النار والانسحاب من المواقع المهمة، بما في ذلك القصر الرئاسي ومطار الخرطوم الدولي
وتنفرد مبادرة تركيا بكونها أول طرح يخاطب مشاغل الجيش والحكومة السودانية، التي تقول إن إنهاء النزاع يتطلب وقف تدفق الأسلحة من الإمارات إلى قوات الدعم السريع، وذلك خلافًا للمبادرات الأخرى التي قُدمت لحل الصراع المسلح بطريقة سلمية.
وقال مبعوث أردوغان، في تصريح صحفي عقب لقاء البرهان، إن بلاده تبذل جهودًا مقدرة من أجل تحقيق السلام والاستقرار في السودان، مشددًا على أن مدخل تركيا لإنهاء الحرب واضح ويرجع الفضل في ذلك للعلاقات المتميزة بين البلدين.
وتابع: “ما تقوم به تركيا هو عملية تتطلب تضافر الجهود ومن ثم العمل على جمع الفاعلين الإقليميين والتغلب على الصعوبات في قضية إنهاء الصراع بالسودان”.
النفوذ و مكانة #اردوغان القوية ستجعل من #المبادرة_التركية محل احترام و تقدير، و ستتعامل معاها الأطراف الداخلية و الخارجية بجدية كونها هي التي ستخترق الإشكالات المطروحة منذ فترة للوصل الي تفاوض (مباشر/غير مباشر).
المبادرة تحتوي علي عِدة مراحل ، و أهمها هو التوقيت في حالة الاحباط…
— أحمد بن عمر (@Benomer11) January 5, 2025
خطوات منتظرة
ولم تتحدث تركيا أو السودان عن تفاصيل المبادرة، لكن بعض المعلومات سُرِّبت إلى صحفيين مقربين من دوائر صنع القرار في بورتسودان، من بينهم رئيس تحرير صحيفة “مصادر” عبد الماجد عبد الحميد ورئيس تحرير صحيفة “التيار” عثمان ميرغني.
وقال عبد الحميد إن مبعوث أردوغان سَلَّم القيادة السودانية مبادرة مكتوبة تضمنت رفع الإمارات يدها ووقف دعمها لمليشيا الدعم السريع، وسحب الخرطوم شكواها ضد أبو ظبي في المحافل الدولية.
وأوضح أن المبادرة التركية اقترحت وقف الخطاب العدائي بين السودان والإمارات كمدخل لحُسن النية، حيث وصل العداء بين البلدين إلى وصف مندوب الإمارات في الأمم المتحدة نظيره السوداني بأنه “مُمثّل للجيش“، بعد تأكيد الحارث إدريس على أن بلاده تمتلك أدلة تثبت تورط أبو ظبي في إمدادها “الدعم السريع” بالأسلحة.
يحتمل أن تكون مباحثات البرهان وبرهان الدين دوران قد تطرقت إلى ضرورة اعتراف الإمارات بشرعية المؤسسات الحالية، وفي مقدمتها مجلس السيادة والجيش، وتصنيف قوات الدعم السريع بأنها مليشيا
وأفاد عثمان ميرغني بأن نائب وزير الخارجية التركي قدم 3 مقترحات، يتعلق الأول بالثقة، حيث يُصدر البَلدان بيانات تُعتبر إشهارًا رسميًا لبدء الحوار، شريطة أن تكون بعبارات مقبولة لا تجنح لأي استفزاز، يليه عقد لقاء مباشر على مستوى القمة بين البلدان الثلاثة في أنقرة يتضمن ترتيبات إعلان إعادة التمثيل الدبلوماسي بين الخرطوم وأبو ظبي إلى سابق عهده.
ويختص المقترح الثالث بمساعدة السودان على وقف الحرب، حيث تطلب الإمارات من قادة الدعم السريع إبداء حسن النية بوقف شامل لإطلاق النار وفك الحصار المفروض على الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور غربي البلاد منذ أبريل/نيسان 2024، وذلك قبل بداية جولة تفاوض في جدة برعاية مجموعة متحدون.
وقال عثمان ميرغني إن المقترح الثالث شمل استخدام الإمارات آليات ضغط لضمان امتثال قوات الدعم السريع لوقف إطلاق النار والانسحاب من المواقع المهمة، بما في ذلك القصر الرئاسي ومطار الخرطوم الدولي.
شروط مسبقة
ويرجح أن المسؤولين السودانيين طرحوا على مبعوث الرئيس أردوغان ضرورة أن تشمل المبادرة تعويضات مالية عن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية جراء النزاع، والمساهمة في إعادة الإعمار، لا سيما أن عضو مجلس السيادة ومساعد قائد الجيش، ياسر العطا، ووزير الخارجية تحدثا عن ذلك صراحة.
يستبعد أن يعرقل أي طرف متحالف مع الجيش حاليًا المبادرة التركية، في ظل التقدم العسكري وتضييق الخناق على قوات الدعم السريع، ما يدفع الإمارات للقبول بأي تسوية
ويحتمل أن تكون مباحثات البرهان ودوران قد تطرقت إلى ضرورة اعتراف الإمارات بشرعية المؤسسات الحالية، وفي مقدمتها مجلس السيادة والجيش، وتصنيف “الدعم السريع” بأنها مليشيا وإبعاد قادتها وقادة القوى المدنية عن أراضيها.
ولا شك أن عدم تدخل الإمارات في شؤون السودان الداخلية، بما في ذلك دعمها لإنهاء النزاع بطرق سلمية تضمن عدم وجود الدعم السريع في الشأن العام، ودعم العملية السياسية وتسليم السلطة إلى المدنيين، كان حاضرًا ضمن شروط البرهان وحكومته في المبادرة التركية.
وبعد تعهد الإمارات للولايات المتحدة بعدم إمداد قوات الدعم السريع بالأسلحة في المستقبل، سيركز السودان على ضرورة تجفيف مصادر تمويل “الدعم السريع”، لا سيما الذهب الذي يُنتج من مناجم سنغو والردوم بولاية جنوب دارفور، حيث يذهب المعدن الأصفر من هذه المناجم إلى أسواق أبو ظبي.
فرص نجاح أكبر
ورغم أن المبادرة تمتلك كل مقومات النجاح، قدمت أنقرة حوافز إضافية إلى السودان الذي أوشك اقتصاده على الانهيار بسبب تطاول أمد النزاع، شملت تعهدات بافتتاح فرع للبنك الزراعي التركي في بورتسودان لتعزيز العلاقات التجارية المشتركة، وإنشاء مقر لوكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا).
وبلغ حجم التبادل التجاري بين السودان وتركيا 625 مليون دولار في 2022، قبل أن يتراجع إلى نحو 200 مليون دولار في النصف الأول من العام السابق، فيما تبلغ الاستثمارات التركية نحو 500 مليون دولار.
وتحدث نائب وزير الخارجية التركي عن تقديم وكالات الغوث الحكومية وغير الحكومية مساعدات إنسانية لتخفيف المعاناة عن الشعب السوداني، بما في ذلك وصول 3 بواخر إلى بورتسودان تحمل 8 آلاف طن من الإغاثة، واستمرار عمل المستشفى التركي في نيالا بولاية جنوب دارفور.
أكبر معيار لنجاح مبادرة أردوغان أنها تتعلق بالعلاقات بين السودان والإمارات ووقف تمويل استمرار النزاع، وليس الشأن الداخلي الذي تزيد مواضيعه المعقدة الخلافات
وتحتاج الحكومة السودانية بشدة إلى المساعدات لإطعام ملايين الجوعى ووقف ضغوط المنظمات الإنسانية، خاصة بعد إعلان حدوث مجاعة في 5 مناطق وسط توقعات بوقوعها في 5 مناطق أخرى، فيما تواجه 17 منطقة خطر المجاعة. وقد وصف البرهان تقرير إعلان المجاعة بأنه “افتراء قُصد منه التدخل السوداني”.
“الإغاثة الإنسانية” التركية: أرسلنا 161 حاوية محملة بمساعدات إنسانية إلى #السودان خلال عام 2024، ليستفيد منها أكثر 2.3 مليون شخص
https://t.co/OTCHvMKeqW pic.twitter.com/s25hmMHben
— Anadolu العربية (@aa_arabic) January 5, 2025
وقال عثمان ميرغني إن تركيا، ولضخ أكبر قدر ممكن من التفاؤل في مبادرة أردوغان، تعهدت بتقديم مساعدات إنسانية وتنموية للسودان، بعضها أُعلن عنها مثل افتتاح فرع البنك الزراعي، وأخرى ستُعلن لاحقًا، إضافة إلى شحنات من القمح التي ستصل تباعًا خلال الأيام المقبلة، وإعادة تأهيل مطار الخرطوم على وجه السرعة لاستقبال حركة الطيران العادي بمجرد إعلان وقف إطلاق النار.
وأضاف: “رغم كل هذه الأجواء الإيجابية التي سادت بعد زيارة نائب وزير الخارجية التركي لبورتسودان، فإن المحك في نجاح مبادرة أردوغان لا يزال مرتبطًا بحسم الأمر داخليًا في السودان، في ظل صدى خطاب ياسر العطا قبل أيام، والذي حوى عبارات يُفهم منها محاولة تعويق هذه المبادرة وإفشالها قبل أن تبدأ”.
ومستبعد تمامًا أن يعرقل أي طرف متحالف مع الجيش حاليًا المبادرة التركية، في ظل التقدم العسكري وتضييق الخناق على قوات الدعم السريع، ما يدفع الإمارات للقبول بأي تسوية، لكنها قطعًا لن تتخلى عن طموحها في الوصول إلى أراضي السودان الزراعية وموانئه البحرية على ساحل البحر الأحمر.
وأكبر معيار لنجاح مبادرة تركيا المتوقع أنها تتعلق بالعلاقات بين السودان والإمارات ووقف تمويل استمرار النزاع، وليس الشأن الداخلي المتعلق بترتيبات وقف إطلاق النار والمستقبل السياسي. حيث إن هذه الموضوعات تزيد من الخلافات، وتزيد نار الحرب ولا تطفئها في ظل الغضب الشعبي الواسع على “الدعم السريع”.