تزداد الضغوط التي تتعرض لها حكومة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، يومًا بعد آخر، والتي تجد نفسها اليوم تحت ضغط إنتاج نهج متوازن بين رفض الفصائل المسلحة العراقية، وتحديدًا الموالية لإيران، التي تصر على الاحتفاظ بسلاحها ودورها، وضغوط الولايات المتحدة بضرورة حل الفصائل المسلحة، أو إعادة دمجها ضمن صفوف القوات الأمنية العراقية، وفي ظل مثل هذا النهج المُعقد، يحاول السوداني إشراك الجانب الإيراني في سياق إنتاج حل لهذه المُعضلة، عبر الزيارة المرتقبة له إلى طهران يوم الأربعاء المقبل.
ورغم نجاح السوداني في إنتاج نهج مُعتدل حيال التحولات الإقليمية الجديدة، وتحديدًا منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، فإن تطورات سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، جعلت العراق يعود مرة أخرى لواجهة الأحداث الإقليمية، خصوصًا مع الاشتراطات الدولية والأمريكية التي بدأت تفرض نفسها في سياق النقاش العام في العراق، وهي اشتراطات تحدث عنها مؤخرًا زعيم تيار الحكمة والقيادي في الإطار التنسيقي عمار الحكيم، الذي أشار صراحةً إلى تحذيرات أمريكية وصلت مؤخرًا إلى بغداد بإمكانية شن هجمات على العراق، في حال بقيت هذه الفصائل محتفظة بسلاحها، أو بقيت متمسكة بعلاقاتها مع إيران.
البحث عن مخرج
مما لا شك فيه أن السوداني يدرك جيدًا مخاطر انتقال الصراع إلى العراق في المرحلة المقبلة، وبالتالي فإن حديثه الأخير في مناسبة “يوم الشهيد” التي ينظمها تيار الحكمة سنويًا، عن تهديدات خارجية تحيط بالعراق، إنما أراد أن يُرسل رسائل غير مباشرة للفصائل المسلحة التي ما زالت تصر على نهج التصعيد في المنطقة، وكذلك التأكيد على أن عدم إيجاد حل لسلاح الفصائل المسلحة، سيجعل الإدارة الأمريكية ترفع الغطاء الأمني عن العراق، وتترك المجال مفتوحًا لـ”إسرائيل” لشن هجمات على العراق، والتي لوحت بها في أكثر من مناسبة.
إن الحوارات المستمرة التي يعقدها السوداني مع قيادات الإطار التنسيقي، وتحديدًا الأخيرة منها، التي شملت كل من زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم، وزعيم منظمة “بدر” هادي العامري، وقيادات أخرى، إنما يحاول من خلالها حشد إجماع قيادات الإطار التنسيقي خلفه قبل الذهاب إلى إيران، خصوصًا أنه سيناقش هناك مسألة حل الفصائل المسلحة، أو حتى إعادة النظر بوضعها ضمن محور المقاومة.
لا يخفى على أحد أن هناك خلافات مُعقدة داخل الإطار التنسيقي بشأن مستقبل الفصائل المسلحة في العراق، بين طرف يدعو لبقاء الفصائل، واعتبار أن سلاحها هو الضامن لبقاء النظام السياسي، ويقود هذا الطرف زعيم إئتلاف دولة القانون نوري المالكي ومعه قيادات الفصائل المسلحة المنضوية ضمن الإطار، في مقابل طرف آخر يدعو لحل الفصائل الثانوية، ودمج الفصائل الكبيرة ضمن المنظومة الأمنية العراقية، من أجل تجنب المزيد من التصعيد في المرحلة المقبلة، ويقود هذا الطرف السوداني والحكيم.
العقدة الكبرى
تمثل إيران العقدة الكبرى مما يجري في الساحة العراقية، إذ إن تدخلها في أدق تفاصيل الحالة العراقية جعل منها جزءًا من التعقيد الحالي، وفيما يتعلق بسلاح الفصائل المسلحة، يمكن القول إن إيران استثمرت كثيرًا بهذا السلاح، وجعلت منه اليد الطولى في استراتيجيتها الإقليمية، سواءً في سوريا في مرحلة ما قبل سقوط الأسد، أم حيال دول إقليمية أخرى كالأردن ودول الخليج، فضلًا عن الكيان الإسرائيلي والمصالح الأمريكية في المنطقة، عبر انخراط هذه الفصائل ضمن ما يعرف بمحور المقاومة.
تدرك إيران أن العراق هو الجبهة الإقليمية الوحيدة التي بقيت تمتلكها في المنطقة، بعد احتواء قوة “حزب الله” اللبناني، وانهيار نظام الأسد في سوريا، وعزل الحوثيين في اليمن، وما يميز الساحة العراقية، إلى جانب أهميتها الاقتصادية والأمنية، أنها ذات أهمية أمنية أيضًا، بحكم قربها من تركيا وسوريا والكيان الإسرائيلي، وكذلك نقط تركز المصالح والوجود الأمريكي في الشرق الأوسط، وما يزيد من أهمية هذا الإدراك الإيراني، أن كل المزايا التي توفرها الساحة العراقية لها، لا معنى لها دون احتفاظ الفصائل المسلحة بسلاحها.
وفي هذا السياق فإنه من غير المتوقع أن نشهد تحولًا كبيرًا في الموقف الإيراني حيال موضوع نزع سلاح الفصائل المسلحة في العراق، وأنها قد تصر على الاستمرار بالنهج السابق الذي اتخذته، عبر حديثها المستمر عن أن الفصائل المسلحة وسلاحها وأدوارها في العراق لا علاقة لها بإيران وأدوارها في المنطقة، وهو نهج قد يفرض مزيدًا من التعقيد على جهود حكومة السوداني في إنتاج مسار يجنب العراق مزيدًا من الضغوط الأمريكية والدولية.
وما يعكس مثل هذا التصور هو وصول قائد قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني، إلى بغداد مساء يوم الأحد الموافق 6 يناير/كانون الثاني الجاري، حسب ما ذكرت وسائل إعلامية، في محاولة لاستباق زيارة السوداني إلى طهران، من أجل التأثير على الأجندة التي سيناقشها السوداني في زيارته المرتقبة، وكذلك ضبط ردود فعل الفصائل المسلحة فيما لو كانت هناك مواقف إيرانية لا تعكس تصورها مما يجري، خصوصًا فيما يتعلق بسلاحها وأدوارها في المرحلة المقبلة.
يمكن القول إن الإصرار الإيراني على الاحتفاظ بسلاح الفصائل المسلحة، قد يأتي مدفوعًا بشكل آخر بسبب قرب قدوم إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للبيت الأبيض، إذ إن نظرة بسيطة للخلفيات السياسية للأسماء المرشحة لتولي مناصب رفيعة في الإدارة الأمريكية المقبلة، تشير بما لا يقبل الشك إلى أنها تحمل نهجًا معاديًا لإيران، وبالتالي فإن إيران قد تجد أن الضرورة تستدعي الاحتفاظ بسلاح الفصائل المسلحة في العراق، من أجل إجبار الولايات المتحدة على عدم التصعيد معها، نظرًا للدور الذي سبق أن لعبته الفصائل المسلحة في العراق خلال الولاية السابقة لترامب، عندما نجحت الفصائل وعبر الهجمات التي شنتها على القواعد والمقرات الأمريكية في العراق، في إنتاج تصعيد منضبط بين طهران وواشنطن.
موقف أمريكي متصاعد
أظهرت الولايات المتحدة سلوكًا متصاعدًا حيال العراق منذ الأيام الأولى لسقوط نظام الأسد، بدأ من زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن وقائد القيادة المركزية الأمريكية مايكل كوريل إلى بغداد، ومطالبتهم للسوداني بعدم السماح بأي سلوك مزعزع للاستقرار في سوريا انطلاقًا من الأراضي العراقية، إلى رسائل تحذير أخيرة وصلت للحكومة العراقية، بضرورة خلق مسافة أمان بين بغداد وطهران، وترافق مع رسائل التحذير هذه، تحركات عسكرية أمريكية واسعة على طول الحدود العراقية السورية، عبر نقل السلاح والجنود والمعدات، فضلًا عن انسحاب الفصائل المسلحة من العديد من المواقع التي تسيطر عليها، وتحديدًا في منطقة القائم.
هذا الواقع يشير بما لا يقبل الشك إلى خشية أمريكية من تدهور الأوضاع في هذه المنطقة الجغرافية، وكذلك إلى رؤية استراتيجية أمريكية تهدف إلى تأمين الحدود العراقية السورية التي تشهد فراغًا أمنيًا واضحًا يمكن استغلاله من الفصائل المسلحة العراقية الموالية لإيران، وكذلك عناصر تنظيم داعش، وبالتالي فإن مثل هذه التعزيزات قد تعكس تفاهم بين إدارة جو بايدن وإدارة دونالد ترامب، خصوصًا مع نية إدارة بايدن توجيه ضربة للحوثيين في اليمن، وكذلك لترتيب الوضع في سوريا بعيدًا عن أي مفاجآت قد تعقد من الدور الأمريكي المقبل في سوريا والمنطقة بشكل عام.