يقول المصريون في إحدى أمثالهم التراثية الشهيرة “الخواجة لما يفلس يدور على دفاتره القديمة”، وهذا ما ينطبق حرفيًا على ما تقوم به الحكومة المصرية الحالية في تعاطيها مع الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تطوق عنق البلد منذ سنوات، نتيجة السياسات الخاطئة والبرامج الفاشلة التي تبنتها خلال العشرية الأخيرة وزجت بالملايين من الشعب المصري إلى مستنقعات الفقر فيما أغرقت الدولة المصرية في بئر سحيق من الديون والأعباء المالية.
قبل عشرة أيام تقريبًا اجتمع رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، مع عدد من المستثمرين ورجال الأعمال لمناقشة أرائهم ومقترحاتهم للخروج من عنق الزجاجة الاقتصادية، وهي خطوة محمودة طالما طالب بها الخبراء مرارًا وتكرارًا، لكن اللافت هنا أن معظم الحضور كانوا من رموز عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، على رأسهم رجل الأعمال المليارديري هشام طلعت مصطفى، رئيس مجموعة طلعت مصطفى العقارية الشهيرة، والقيادي بالحزب الوطني المنحل ورئيس مصنع حديد عز، رجل الأعمال أحمد عز، والخبير المالي المخضرم حسن هيكل (نجل الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل) أحد أبرز قادة المجموعة المالية “هيرميس” والمسؤول عن بنوك الاستثمار بها.
استعانة نظام السيسي بالأعمدة الرئيسية لعهد مبارك ممن أفسدوا الاقتصاد وحولوه إلى “وسية” لخدمة مصالحهم الضيقة، أثارت الكثير من التساؤلات لدى رجل الشارع والخبراء على حد سواء، فبعد تجميد دام لأكثر من 13 عامًا، هاهم يُستعدون بالأمر المباشر للعودة للمشهد الاقتصادي بكل أريحية مطلقة، متجاهلين سجلهم المشين، حيث اتهامات الفساد والقتل التي تلاحقهم أينما ذهبوا.. فلماذا عادوا اليوم؟ وهل ينجحوا في إنقاذ النظام الحالي من ورطته الاقتصادية التي أغاصت أقدام الدولة في وحل القيود والسلاسل المكبلة من الديون والعجز لسنوات طويلة قادمة؟
استدعاء من رحم الفساد
بالنظر إلى أسماء من حضروا الاجتماع مع رئيس الحكومة يُلاحظ أن جميعهم أو رموزهم على الأقل عليها عشرات علامات الاستفهام بسبب تورطها في قضايا جنائية وفساد مالي وإداري، خلال العهد البائد، بل إن بعضها مُنح فرص استثمارية وتسهيلات إجرائية لم تُمنح لغيره من رجال الأعمال الأخرين الذين اُضطروا إما إلى تجميد استثماراتهم أو نقلها خارج البلاد أو تغيير النشاط في ظل تضييق الخناق عليهم عبر سياسة “الحلب” التي اتبعتها الحكومة مع المستثمرين مما أدى إلى “تطفيشهم”.
يأت على رأس القائمة رجل الأعمال الشهير، عضو الحزب الوطني المنحل، رئيس مجلس إدارة مجموعة “طلعت مصطفى” العملاقة، هشام طلعت مصطفى، المتهم الرئيسي في قتل الفنانة اللبنانية سوزان تميم، والمحكوم عليه بعقوبة السجن 15 عامًا، قضى منها 6 سنوات فقط، قبل أن يُفرج عنه بعفو رئاسي من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 2017، في إطار ما قيل إنه صفقة أبرمت بينه وبين الدولة نظير مبلغ مالي كبير، ليخرج من السجن أقوى مما كان قبل دخوله، حيث منحته الحكومة كافة الامتيازات ليصبح إمبراطور العقارات الأكبر في مصر والمنطقة.
كذلك مهندس الحزب الوطني المنحل وأمين السياسات به، والصديق المقرب لنجل الرئيس الراحل حسني مبارك، جمال، رجل الأعمال وأخطبوط الحديد في مصر، أحمد عز، والمحكوم عليه بالسجن 37 عامًا بسبب التربح والاستيلاء على المال العام والإضرار العمد الجسيم بما قيمته خمسة مليارات جنيه مصري، في صفقة استحواذه على شركة حديد الدخيلة، وإلزامه مع أخرين برد نحو مليارين و871 مليون جنيه مصري، قبل أن يُطلق سراحه بعد التصالح مع الدولة مقابل مليار و700 مليون جنيه.
علاوة على حسن هيكل، المسؤول عن بنوك الاستثمار في المجموعة المالية “اي أف جي هيرميس” وعضو المجلس التنفيذي للشركة، والمتهم في قضايا فساد وغسيل أموال وعلاقات مالية مشبوهة، والخاضع لمحاكمات دامت قرابة 8 سنوات بتهمة التلاعب في البورصة مع نجلي مبارك، علاء وجمال، قبل أن تتم تبرئته في فبراير/شباط 2020.
كل تلك الأسماء الذي تنبعث من بين ثناياها روائح الفساد النتنة، أصحاب السجلات الإجرامية والأحكام طويلة الأمد، الأضلاع الرئيسية التي أدت إلى انهيار نظام مبارك وتفجير الغضب الشعبي ضده في 2011، تم استدعاؤها على جناح السرعة، لإنقاذ الاقتصاد المصري من مأزقه الحالي، تناقض يعكس حالة ارتباك واضحة وضبابية في إدارة المشهد، الأمر الذي يدعو للتساؤل: لماذا هذا الاستدعاء غير المفهوم في هذا التوقيت الحرج؟
استدعاء مثير للجدل.. ما الهدف؟
تنطلق تلك العودة بعد أكثر من 13 عامًا من التجاهل والنسيان مدفوعة بثلاثة أهداف رئيسية:
أولا: مغازلة صندوق النقد الدولي من خلال الإيحاء بتبني الدولة توجها جديدًا يقوم على إشراك القطاع الخاص في العملية الاقتصادية، استجابة للصندوق كأحد الشروط الواجب الالتزام بها للحصول على القرض المقدر بـ 8 مليارات دولار، مقسمين على شرائح مرهونة ببعض المراجعات بين الحين والأخر.
وهنا تحاول الحكومة دفع الاتهامات الموجهة ضدها باحتكار المؤسسة العسكرية والشركات التابعة لها للنشاط الاقتصادي، وتوجيه رسالة مباشرة للصندوق بشأن مساعيها لإقحام أباطرة القطاع الخاص من رجال الأعمال والمستثمرين، المعروفين للصندوق مسبقًا، في المشهد، من خلال مثل تلك اللقاءات وتسليط الضوء عليها بما يحقق صداه المتوقع
ثانيًا: تهدئة الشارع وامتصاص حالة الغضب الناجمة عن تردي المستوى المعيشي وزيادة الأعباء على كاهل المواطنين والزج بالملايين في آتون العوز، حيث تسعى الحكومة لطمأنة الشارع من خلال الإيهام بالاستعانة برجال أعمال لهم هذا الثقل والحضور، بما ينعكس على المؤشر الاقتصادي الوطني العام، ومن ثم على الحياة المعيشية لمتوسطي ومحدودي الدخل.
واختارت الدولة ممثلة في الحكومة أسماء معروفة لعموم الشعب المصري، لإجراء مثل تلك اللقاءات معها رغم ما عليها من علامات استفهام، متوهمة أنها بذلك تبعث لهم برسائل تفاؤل بشأن ماهو قادم، وأن الاستعانة بتلك الخبرات كفيل أن يُحسن الوضع الاقتصادي ويرمم الثغور التي أحدثتها السياسات الخاطئة للحكومة على مدار السنوات الماضية في جدار الاقتصاد الوطني.
ثالثًا: تحقيق المكاسب عبر صفقة بين الحكومة ورموز مبارك، فبعد الفشل الذريع في إدارة الملف الاقتصادي خلال العشرية الأخيرة على كافة المستويات، انهيار لقيمة العملة وزيادة حجم الديون والارتفاع الجنوني في مستويات التخضم والبطالة وتراجع معدلات الادخار، ارتأت الدولة أن تُعيد أباطرة الاقتصاد في عهد مبارك، نظير مكاسب مادية يتم الحصول عليها من هؤلاء المستثمرين أصحاب الثروات المليارية، إما في صورة تمويلات لمشروعات قومية أو الحصول على تبرعات عينية مباشرة، فيما يشبه صفقة متبادلة، العودة مقابل المال.
هل ينقذون الاقتصاد الغارق في الأزمات؟
السؤال الأبرز الذي فرض نفسه على ألسنة العامة عقب هذا الاجتماع: هل تستطيع تلك الأسماء بما لها من نفوذ وحضور قوي إنقاذ الاقتصاد المصري الحالي من أزمته؟ وهل بمقدور قامات الفساد أصحاب السوابق المحكوم عليهم في قضايا تمس سمعتهم ونزاهتهم المالية والإدارية أن ينتشلوا المصريين من هذا المستنقع؟
ولا تحتاج الإجابة عن تلك التساؤلات جهدًا ولا مشقة، فما تضمنه اللقاء والنقاشات التي دارت به كفيل بأن يميط اللثام عن المسكوت عنه بشأن قدرة هذه الحفنة العائدة من بعيد على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، إذ تمحور جلها حول مصالح رجال الأعمال الشخصية، حيث الحديث عن أسعار الفائدة والتطوير العقاري والتحديات التي تواجه سوق العقارات في مصر وسبل طمانة المستثمرين وضمان العمل في مناخ من الشفافية والنزاهة وعدم تحميلهم فوق طاقتهم في محاولة لتجنب الركود مما يترتب عليه هروب الاستثمارات للخارج.
فيما غابت المحاور الرئيسية لمعضلة الاقتصاد المصري وتحدياته المعروفة للجميع، عن تلك النقاشات التي تحولت إلى ما يشبه جلسة عرفية بين المستثمرين والحكومة هدفها تحقيق مصلحة الاول وتقديمها على أي اعتبارات أخرى نظير مكاسب يحصل عليها الثاني كجزء من الأرباح المتوقع تحقيقها من خلال الامتيازات التي ستُمنح للقطاع الخاص.
وتبرهن أرقام وبيانات أرباح الشركات المملوكة لرجال الأعمال المشاركين في هذا اللقاء صحة تلك السردية، إذ سجلت مجموعة “طلعت مصطفى القابضة”، المملوكة لهشام طلعت، خلال النصف الأول من العام الجاري، زيادة في صافي الأرباح بنسبة 310 بالمئة على أساس سنوي، محققة صافي ربح بلغ 6.36 مليار جنيه (حوالي 130 مليون دولار) خلال الفترة من يناير/كانون الثاني حتى نهاية يونيو/حزيران 2024، فيما سجلت شركة “حديد عز” المملوكة لأحمد عز، صافي ربح تخطى 1.56 مليار جنيه خلال الربع الأول من 2024، كما ارتفعت إيرادات مجموعة “إي اف چي هيرمس القابضة” التي يتولى حسن هيكل مسؤول الاستثمار عن البنوك بها، لتصل إلى 5 مليارات جنيه بالربع الثالث من 2024، بمعدل سنوي 68%.
ومن هنا..
واهم من يظن أن تلك الأسماء الضالعة في جرائم الفساد المالي والإداري والأخلاقي، والمتهمة بالتلاعب في مقدرات الوطن وغسيل أمواله، والمصابة بالتخمة المالية على حساب الشعب الفقير، على مدار سنوات طويلة خلال عهد مبارك، من شأنها أن تقدم خيرًا لهذا الوطن المكلوم، فلو أن هناك نزاهة في التقاضي وعدالة في القصاص ومساواة على منصات المحاكم لكانوا جميعهم خلف السجون، تنفيذًا للأحكام الصادرة بحقهم، لكن وعبر أساليب خاصة أطلق سراحهم، ليعودوا للمشهد مرة أخرى بأوامر عليا، من خلال صفقة يُزيدون بها أرصدتهم الخاصة ويُنعشون خزائن الحكومة بحفنة من المليارات.