في أول إعلان من جانبها عن الإخلال بالتزاماتها الواردة في الاتفاق النووي الموقع عام 2015 قالت إيران، أمس الإثنين، إنها تجاوزت سقف مخزونها من اليورانيوم المنخفض التخصيب المحدد بموجب الاتفاق، الأمر الذي يعبد الطريق أمام إنتاج رؤوس نووية حربية.
طهران تستند في خطوتها المثيرة للجدل إلى مادتين في الاتفاق المبرم سابقًا تتيح لأي طرف أن يكون بحِل من التقيد ببعض التزاماته لفترة معينة، في حال اعتبر أن الطرف الثاني لا يفي بها، وذلك ردًا على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب أحاديًا من الاتفاق النووي في مايو/أيار 2018، وإعادة فرض عقوبات على إيران.
تصعيد ربما لم يكن مفاجئًا في ضوء تهديدات طهران السابقة، من المتوقع أن يكون له تداعيات أكثر سخونة، لا سيما على المستويين الأمريكي والأوروبي، فضلاً عن زيادة منسوب التوتر في الشرق الأوسط، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات عن دوافع إيران وراء هذه الخطوة في هذا التوقيت على وجه التحديد، خاصة أنها تتزامن مع الحرب الكلامية مع واشنطن التي وصلت في بعض الأمور إلى التلويح باستخدام القوة العسكرية.
طهران تنفذ تهديدها
وفق الاتفاق فإن طهران ملتزمة ألا يتجاوز مخزونها من المياه الثقيلة 130 طنًا، ومخزونها من اليورانيوم المنخفض التخصيب 300 كيلوغرام، إلا أنها ومع الانسحاب الأمريكي منه وزيادة وتيرة العقوبات الموقعة ضدها لوحت أكثر من مرة بعدم الالتزام بما نص عليه الاتفاق.. يبدو أنها باتت على مشارف تنفيذ هذا التهديد.
بالأمس أكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران نفذت تهديدها بتجاوز حد تخصيب اليورانيوم المنصوص عليه في اتفاقها النووي مع القوى العالمية، إذ إنها خزنت كمية أكبر مما حدده الاتفاق، وعلى لسان المتحدث باسم الوكالة وفي بيان له قال: “نستطيع تأكيد أن المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية يوكيا أمانو أبلغ مجلس محافظي الوكالة أنها تحققت في الأول من يوليو/تموز الحاليّ من تجاوز إيران الحد الأقصى المسموح به لإجمالي مخزون اليورانيوم المخصب (بموجب الاتفاق)”.
وفي تقرير أرسلته الوكالة الدولية إلى الأعضاء أوضح أن مخزون إيران بلغ 205 كيلوغرامات (من اليورانيوم منخفض التخصيب)، في حين يبلغ الحد المنصوص عليه في الاتفاق النووي 202.8 كيلوغرام، حسبما أفادت وكالة “رويترز“.
التصعيد الإيراني لم يقف عند هذا الحد وفقط، ففي تصريحاته لهيئة الإذاعة الإيرانية قال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إن بلاده ستخصب اليورانيوم فوق درجة نقاء نسبتها 3.67% إذا فشلت الدول الأوروبية في إنقاذ الاتفاق النووي الذي أبرمته طهران مع القوى العالمية عام 2015.
وفي تصريحات سابقة له اليوم، أكد ظريف أن المخزون الإيراني تجاوز ثلاثمئة كيلوغرام من سادس فلوريد اليورانيوم (يو إف 6)، وتعادل كمية قدرها ثلاثمئة كيلوغرام من (يو إف 6) 202.8 كيلوغرام من اليورانيوم منخفض التخصيب، مضيفًا أن بلاده أعلنت سابقًا أنها ستمضي في ذلك الطريق، قائلاً: “نعتبر أن من حقنا (القيام بذلك)، في إطار (ما تسمح به) خطة العمل الشاملة المشتركة”، في إشارة إلى الاتفاق.
جدير بالذكر أن التخصيب بدرجة 3.67% يوصف بأنه مناسب لتوليد الطاقة النووية للأغراض المدنية، لكن تجاوزه يمثل أول خطوة في عملية قد تفضي في النهاية إلى إنتاج مادة أعلى نقاءً يمكن استخدامها في صنع رأس نووية حربية، الأمر الذي من المحتمل أن يربك الحسابات كافة، ليس في المنطقة فحسب.
طهران ترى أن محادثات فيينا ليست كافية
لعب بالنار
“إيران تلعب بالنار“.. هكذا حذر الرئيس الأمريكي طهران بعد خطوتها الأخيرة، معلقًا خلال رده على سؤال أحد الصحفيين بشأن عما إذا كان لديه رسالة يود توصيلها للإيرانيين “إنهم يعرفون ماذا يفعلون.. يعرفون بماذا يلعبون وأعتقد أنهم يلعبون بالنار”.
تزامن هذا التحذير مع إعلان البيت الأبيض أن “الولايات المتحدة وحلفاءها لن يسمحوا لإيران أبدًا بتطوير سلاح نووي”، مؤكدًا في بيان له “ستستمر أقصى الضغوط على النظام الإيراني حتى يغير قادته مسارهم.. والولايات المتحدة وحلفاؤها لن يسمحوا أبدًا لإيران بتطوير أسلحة نووية”.
البيان أضاف “كان من الخطأ، في الاتفاق النووي الإيراني، السماح لإيران بتخصيب اليورانيوم على أي مستوى”، وتابع “علينا إعادة فرض القواعد القديمة لمنع الانتشار النووي التي تمنع إيران من أي تخصيب اليورانيوم”، مشددًا على أنه “يجب على النظام الإيراني أن يضع حدًا لطموحاته النووية وسلوكه الضار”.
وفي الإطار ذاته طالب وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إيران بوقف تخصيب اليورانيوم بالكامل، مضيفًا في بيان لوزارته أن أي اتفاق نووي مع إيران يجب ألا يسمح لها بتخصيب اليورانيوم عند أي مستوى كان، داعيًا المجتمع الدولي إلى إعادة تفعيل المعايير الخاصة بإيران ضمن اتفاقية حظر انتشار السلاح النووي.
وزير الخارجية ذكر أن بلاده ملتزمة بالتفاوض على اتفاق جديد وشامل مع إيران في سبيل إنهاء تهديدها للأمن والسلم العالميين، مشددًا في الوقت ذاته على أن استمرار طهران في رفض الدبلوماسية، ومواصلة تطوير برنامجها النووي سيؤديان إلى زيادة عزلتها الدبلوماسية والضغط الاقتصادي عليها، على حد قوله.
إيران وإن لم يكن في صالحها استفزاز العالم بزيادة كميات اليورانيوم المخصب لديها، لما قد يترتب على ذلك من أزمات هي في غنى عنها في الوقت الراهن، إلا أنها تعي جيدًا أن التلويح بمثل هذه الورقة ربما يكون الطريق الأقصر للالتفاف على العقوبات الأمريكية
رسائل التحذير والابتزاز
عدد من المحللين ذهبوا إلى أن التصعيد المتبادل بين أمريكا وإيران، منذ انسحاب الأولى من الاتفاق مرورًا بالحشد العسكري في المنطقة وصولاً إلى تهديد الأخيرة بالرد القاسي حال التفكير في استهداف مصالحها، ليس سوى مسرحية يشارك فيها ممثلون متعددو الجنسيات.
صحيفة”The New York Times“ الأمريكية نقلت عن بعض المقربين من دوائر صنع القرار في حكومتي البلدين بأن ما يحدث من تصعيد “ليس سوى حيل لممارسة مزيد من الضغوط على الطرفين”، فأمريكا تهدد وطهران ترد، دون أي خطوات ملموسة على أرض الواقع، يقينًا من الجانبين أن أي تحرك عملي سيكون تداعياته خطيرة على الجميع.
تجاوز الحد المسموح به لتخصيب اليورانيوم كما في الاتفاق النووي المبرم ربما هو ورقة الضغط الأكثر تأثيرًا الآن بيد طهران في مواجهة العقوبات الأمريكية التي تزداد يومًا تلو الآخر، الأمر الذي يؤثر على الحياة المعيشية للإيرانيين المحاصرين بحزمة من الضغوطات غير المسبوقة، خاصة أن الأمر تعلق بالمورد الاقتصادي الأول للبلاد وهو النفط، الذي تسعى واشنطن لمنع طهران من تصديره.
الإيرانيون يعلمون جيدًا تداعيات خطوة كهذه على أوروبا على وجه الخصوص كونها الضامن لإبقاء الاتفاق القديم دون الرضوخ للرؤية الأمريكية، وهو ما بدا واضحًا في ردود الفعل الأولية، حيث دعا وزير الخارجية البريطاني جيريمي هانت للعودة للالتزام بالاتفاق النووي، وتجنب أي خطوات أخرى تخالفه، قائلاً “نحن ملتزمون بالاتفاق النووي مع إيران، ونستخدم كل الوسائل الدبلوماسية لخفض التوتر بالمنطقة”.
التحرك الإيراني جاء بعد محادثات فيينا الجمعة الماضية، تلك المحادثات التي قالت طهران إن الدول الأوروبية لم تقدم لها ما يكفي من الدعم التجاري لإقناعها بالعدول عن تجاوز حد تخصيب اليورانيوم المنصوص عليه في الاتفاق النووي، ومن ثم كانت خطوة زيادة مخزونها من اليورانيوم.
الأمر تكشف بصورة أوضح مع حث المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية عباس موسوي الدول الأوروبية على تسريع وتيرة جهودها لإنقاذ الاتفاق، ونقل التليفزيون الرسمي قوله “الوقت ينفد منهم لإنقاذ الاتفاق”، وعليه فإن البعض يذهب إلى أن ما حدث بالأمس سيمثل ضغطًا كبيرًا على الدول الموقعة على الاتفاق (ألمانيا والصين وفرنسا وبريطانيا وروسيا).
انسحب ترامب من الاتفاق في قرار أحادي العام الماضي
وفي الناحية الأخرى فإن الولايات المتحدة وإن كانت لا ترغب في الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران في الوقت الحاليّ، خشية ما يمكن أن يتمخض عنها من تداعيات تعرض مصالحها للخطر، هذا بجانب قرب الانتخابات الرئاسية التي يعتزم ترامب خوضها للفوز بولاية ثانية، إلا أنها في المقابل تعوض ذلك بفرض المزيد من العقوبات على طهران.
وعليه فإن تحرك كهذا من شأنه أن يمثل ضغطًا كبيرًا على إدارة ترامب، سواء من الداخل حيث تجنب التصعيد مع الدولة الإيرانية التي من الممكن أن تمتلك بين الوقت والآخر سلاحًا نوويًا يهدد مصالح واشنطن وحلفائها في المنطقة، ويخل بمستوى توازن القوى الموجود في الشرق الأوسط، ولعل في كوريا الشمالية المثل الواضح على ذلك.
القرار وإن لم يلق صداه المتوقع في الساعات الأولى لإعلانه إلا أن تبعاته من المتوقع أنها ستكون أسرع وتيرة خلال الأيام المقبلة
ومن زاوية أخرى تصاعد الضغوط الخارجية من الدول الموقعة على الاتفاق، الأمر الذي يقوض النفوذ الأمريكي عالميًا خاصة في ظل ما يخطوه هذا الفريق في مقدمته روسيا والصين بشأن الاستقلالية التامة عن التبعية الاقتصادية الأمريكية وعلى رأسها التلويح بالتخلي عن الدولار ودعم تصدير النفط الإيراني عبر عملات أخرى خارجة عن السيطرة الأمريكية.
إيران وإن لم يكن في صالحها استفزاز العالم بزيادة كميات اليورانيوم المخصب لديها، لما قد يترتب على ذلك من أزمات هي في غنى عنها في الوقت الراهن، إلا أنها تعي جيدًا أن التلويح بمثل هذه الورقة ربما يكون الطريق الأقصر للالتفاف على العقوبات الأمريكية وتدشين جبهة ضاغطة على واشنطن فيما يتعلق بموقفها من الاتفاق الأصلي وإستراتيجية فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية ضدها.
القرار وإن لم يلق صداه المتوقع في الساعات الأولى لإعلانه إلا أن تبعاته من المتوقع أنها ستكون أسرع وتيرة خلال الأيام المقبلة، الأمر الذي ربما يعيد رسم خريطة العلاقات الأمريكية الإيرانية من جانب، وتخفيف الضغوط الممارسة على طهران من جانب آخر، هذا بجانب ما يمكن أن يحدثه من إخراج الاتفاق النووي من حالة الموت السريري التي بات عليها منذ الانسحاب الأمريكي العام الماضي.