توفي اليوم الاثنين الشيخ سارية عبد الكريم الرفاعي في ولاية إسطنبول التركية عن عمر يناهز 77 عامًا، بعد إصابته بجلطة دماغية قبل أكثر من شهر، وهو الأمر الذي حرمه مشاركة السوريين في سقوط نظام الأسد والتحرير الذي كان ينتظره ويرنو إليه.
للشيخ، الذي أقعده المرض منذ سنوات طويلة، مسيرة حافلة في المجال الدعوي والخيري في سوريا عمومًا ودمشق خاصة، حيث يعتبر أحد أبرز الوجوه الاجتماعية والإصلاحية التي لجأ إليها الناس، ما أكسبه شعبية كبيرة، بالإضافة إلى إرث والده الشيخ عبد الكريم والذي كان يعتبر من كبار علماء الشام في زمانه وقبلة علمية واجتماعية في زمانه.
الرفاعي وذكريات الثورة
إبّان المجزرة التي ارتكبتها قوات النظام في محافظة حماة في شهر أغسطس/آب من عام 2011 وكان بداية شهر رمضان، خطب الشيخ سارية الرفاعي بعد صلاة الفجر بالناس متوعدًا النظام والقوى الأمنية بتصعيد الاحتجاجات إن لم يوقفوا الحل الأمني والإجرام بحق الشعب، محملًا القيادة السورية مسؤولية ما يحصل في البلاد.
وقبل هذا التاريخ بأشهر، وبعد انطلاقة الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، كان الشيخ سارية يسعى للإصلاح ما استطاع، حيث التقى بعدد من مسؤولي النظام في محاولة منه، إلى جانب بعض علماء الدين، لإقناع النظام بالإحجام عن الحل الأمني، إلا أن ذلك لم ينجح أبدًا بسبب تعنت النظام.
ووفقًا لما يروي الرفاعي في مذكراته عن الثورة السورية، فإن ضباط النظام ورؤساء الأفرع الأمنية الذين التقى بهم مرارًا وتكرارًا كان كلامهم معسولًا على عكس أفعالهم في الميدان.
ومع زيادة جرائم نظام الأسد والتمادي وجد الرفاعي نفسه مضطرًا إلى إصدار بيان برفقة العديد من مشاهير العمل الديني في دمشق، جاء فيه: “انطلاقًا من حرصنا كل الحرص على استقرار الأمن ووحدة الأمة؛ نحن علماء الشام، نأسف ونستنكر استخدام العنف المفرط في حماة وسائر المحافظات السورية، والذي أسفر عن سفك دماء مئات من أبناء الشعب السوري، وكأنما هو احتفاء بقدوم شهر رمضان المبارك شهر المواساة والتراحم، ونحن بدورنا نبرأ إلى الله من كل قتل، ونُحمّل القيادة السورية المسؤولية الكاملة”.
أثار هذا البيان حفيظة نظام الأسد الذي استدعى كل العلماء المشاركين والموقعين على البيان للتحقيق، إلا أن الشيخ سارية رفض الذهاب، وطلب من الذين ذهبوا أن يخبروا رؤساء الأفرع الأمنية أن من أعدّ وكتب هذا البيان هو سارية الرفاعي، على إثر ذلك أرسل رئيس المخابرات العامة ومكتب الأمن القومي اللواء هشام بختيار تحذيرًا لكل من وقع البيان باعتزال الخطابة في المساجد.
بعد تهديد بختيار بفترة وجيزة خرج الكثير من علماء الدين الذين كانوا ضد النظام من دمشق، وعلى رأسهم سارية الرفاعي وأخيه الأكبر أسامة الرفاعي.
وعن هذه الحقبة الزمنية يقول الشيخ سارية في مذكراته: “في الشهر الثالث من 2012 جاءنا تهديدٌ غير مباشر من أجهزة الأمن القومي بأنَّ المعلومات الاستخباراتية لديهم تُفيد بأنَّ العصابات المسلَّحة قد تطولنا بالقتل، فخرجنا من البلد، والله يعلم أننا لا نخاف الموت أو القتل، فالأجلُ مُقدَّرٌ، ولكن وجدنا أنفسنا حبيسي البيوت، لا نُقدِّم شيئًا للأمة، فخرجنا لنقوم بالواجب تجاه الضُّعفاء الذين هُجِّروا من ديارهم وأموالهم، راجين ربنا أن يُلهمنا الصواب”.
لم تكن الهجرة الأولى لسارية الرفاعي، الذي اضطر للهروب مع كثير من وجوه جماعة زيد بن ثابت الشهيرة في دمشق إلى خارج البلاد في ثمانينات القرن الماضي، بعدما عمل النظام السوري على تفتيت العمل الدعوي وتدميره بعد مجزرة حماة عام 1982، حيث وجد النظام الأسدي الفرصة المناسبة لتصفية النفوذ الممتد للجماعات الدينية المختلفة في سوريا من خلال توجيه التهم لكل من لا يثق بولائه المطلق، لينتهي آنذاك العمل الدعوي بجامع زيد قبل أن يعود في منتصف التسعينات.
وخلال الهجرة الثانية في 2012 توجه سارية مع أخيه الشيخ أسامة إلى ولاية إسطنبول، وبعد خروجه لم يتوقف عن الحديث ومناصرة الثورة، على العكس استخدم كل المنابر الإعلامية والسياسية والمؤتمرات لنصرة الشعب المذبوح، ورغم إصابته العام الماضي بمرض عضال أقعده عن الحركة، ظل يتكلم ويفضح إجرام النظام السوري.
في العمل المجتمعي قبل الثورة
لطالما اشتهر الشيخ سارية الرفاعي بالعمل الخيري عبر مشروعه الشهير “حفظ النعمة”، وهو المشروع الخيري الأبرز في دمشق وسوريا بشكل عام، إذ بدأت فكرة العمل من نظرة الشيخ بحسرة لكل ما يتم التفريط به من الطعام في المطاعم ومحلات الأكل، فسعى لتشكيل فريق من المتطوعين مهمتهم التجول على المطاعم حينما ينتهي عملها ويجمعوا الطعام المتبقى ويحسنوه ويغلفوه ثم يوزعوه على الفقراء.
سنة بعد أخرى استطاع هذا المشروع الخيري أن ينتقل من أحياء دمشق إلى كل سوريا، ولم يعد يقتصر على الإغاثة والطعام، فقد افتتحت مكاتب للإغاثة بشتى أنواعها، وكانت ذروة هذا العمل عام 2009 عندما استطاع المشروع أن يقدّم فطور رمضان للآلاف في باحات المسجد الأموي بدمشق.
لم يرق الأمر للنظام السوري حينها، فالمشروع الخيري عزز القاعدة الجماهيرية التي التفّت حول الشيخ سارية، فعمل على تأميم المشروع ووضع له مديرًا ومحاسبين من طرفه للسيطرة عليه، وأغلقت العديد من أفرع هذا العمل الخيري وتم إقصاء الشيخ الرفاعي نسبيًا وتدريجيًا.
استطاع الرفاعي أيضًا من خلال عمله الدعوي أن يجمع فئة كبيرة من التجار الدمشقيين الأثرياء الذين كانوا يعتبرون رافدًا أساسيًا في دعم الأعمال الاقتصادية للمسجد ومشروع “حفظ النعمة” الخيري وتمويل الكثير من المشروعات الخيرية، ونتيجة لذلك كان يلقب الرفاعي بـ”شيخ التجار” وهو لقب لا يحبه وإن كان ارتبط به.
أما في المجال الدعوي، فقد اعتلى سارية الرفاعي منبر مسجد زيد لسنوات طويلة، وفي دمشق بالتحديد فإن من يعتلي هذا المنبر ستحيط به المسؤوليات الكبيرة، فهو منبر لمسجد يضم أشهر جماعة دينية في سوريا منذ ستينيات القرن الماضي، حيث استطاع الشيخ عبد الكريم الرفاعي التأسيس لجماعة زيد للوقوف في وجه الكثير من المخططات السياسية والدينية المناوئة.
جماعة زيد
عند الحديث عن الشيخ الراحل سارية الرفاعي، لا بد من الوقوف أمام جماعة مسجد زيد باختصار، فقد أعد الكاتب السوري محمد درويش، مقالًا سابقًا لـ”نون بوست” قال فيه: “ما بات يُعرف بجماعة زيد، أحد الفواعل الدينية القوية في دمشق، كان لها أثر كبير على بنية المجتمع السوري وتوجهاته الدينية، وبدرجة أدنى على سير العملية السياسية، وهذا الأثر مستمر إلى اليوم، لكن الاهتمام بالحدث السياسي، جعل الأولوية في مراجعات أحداث القرن الماضي تنصب على جماعة الإخوان المسلمين التي انتهجت العمل السياسي بالدرجة الأولى”.
يعزو أفراد الجماعة النشأة إلى الشيخ عبد الكريم الرفاعي، الذي كان أول من استقر في جامع زيد بن ثابت وشرع في تأسيس المدرسة التي ستُعرف باسم الجامع نفسه.
ولد الشيخ عبد الكريم الرفاعي الحسيني في دمشق سنة 1901 لعائلة فقيرة، وعندما بلغ سن التحصيل التحق بدروس الشيخ علي الدقر – تلميذ علّامة الشام والمحدث الأكبر بدر الدين الحسني، لذلك يعزو أفراد الجماعة نسبهم العلمي للشيخ بدر الدين – وبعد بلوغه من العلم الشرعي مبلغًا يؤهله لحضور مجالس كبار المشايخ، أذن له شيخه بحضور دروس الشيخ بدر الدين، وبعد 17 عامًا قضاها الشيخ في الدراسة على يد الشيخ بدر الدين، عمل مدرسًا في عدد من المعاهد ليستقر أخيرًا في جامع زيد، الذي سيؤسس فيه مركزه الخاص.
ولنشاط الشيخ الدؤوب وتأسيسه لحلقات العلم الشرعي المختلفة التفّ حوله عدد من الطلاب، سرعان ما أصبحوا شيوخًا مؤثرين في المشهد الديني السوري كالشيخ محي الدين الكردي، وولدَي الشيخ عبد الكريم الشيخين أسامة وسارية الذي كان يتمتع بعلاقة طيبة مع تجار دمشق.
بالإضافة إلى هذا استطاع الشيخ الخروج من دائرة طلبة العلم والوصول إلى عوام دمشق، من خلال تأسيسه أو مساهمته في تأسيس العديد من الجمعيات الخيرية كجمعية البر والإحسان في حي قبر عاتكة، وجمعية إغاثة الفقير في حي باب السريجة، وجمعية النهضة الإسلامية، بالإضافة إلى قدرة الشيخ على تجاوز القطيعة بين طلاب العلوم الشرعية والعلوم الكونية، فقد استطاع الشيخ الوصول لأصحاب الاختصاصات المختلفة، لا سيما المهندسين والأطباء، لذلك يحلو للبعض تلخيص عمله بعبارة “المهندس والجامع”.
أخيرًا، لم يفرح الشيخ سارية الرفاعي بتكحيل عيونه بنصر السوريين، لكنه انتصر عندما نصر السوريين حينما وقف في صف ثورتهم في حين تخلى الجميع، وتكلم في وسط دمشق حينما كان النظام في عزّ سطوته الأمنية.