يمثل فوز دونالد ترامب بولاية رئاسية ثانية، ومصحوبًا باكتساح مرشحي الحزب الجمهوري في مجلسي الكونغرس (النواب والشيوخ)، صعودًا لأجندة اليمين وأيديولوجيات تمزج بين الشعبوية والقومية المحافظة في الولايات المتحدة، وهو توجه سياسي سيكون له تأثيرات عميقة وواضحة على الخريطة الجيوسياسية والاقتصادية العالمية.
وأمام برنامج انتخابي حافل بالوعود والخطابات المتطرفة حول العلاقات الدولية والاقتصاد المحلي وقنوات التجارة العالمية، إضافة إلى 4 سنوات من السياسات الصادمة التي ميزت فترة ترامب الرئاسية الأولى، وتركت علامة فارقة لم تستطع إدارة بايدن-هاريس النجاة من تبعاتها وآثارها بعيدة المدى، بقي لدينا اليوم تصور فضفاض وضبابي لما ستؤول إليه الأمور خلال السنوات الـ 4 في فترة رئاسته الثانية.
هذا الغموض يلقي بظلاله على ملفات عديدة، أهمها العلاقات الدولية والتجارة العالمية وغيرها من الملفات، التي يتعدى أثرها حدود الولايات المتحدة إلى بقية دول العالم التي تبدو وكأنها في مركب واحد، وقد يؤدي أي ثقب في طرفه إلى هلاك كل من عليه.
يستطلع هذا المقال ضمن ملف “شريعة ترامب” أثر الأيديولوجيا الهجينة التي يتبناها رجل الأعمال المتمرس في عالم الاستثمار دونالد ترامب، على الساحة الاقتصادية وسوق العمل الأمريكي والعالمي، ويجيب عن التساؤلات التالية:
ما الذي تعنيه التهديدات المتعلقة بقنوات التجارة العالمية التي أطلقتها حملة ترامب الانتخابية؟ وما تداعياتها على السوق العالمية؟ وأي أثر تحمله على العمالة الأجنبية الوافدة؟ وكيف تعيد سياساته الاقتصادية تعريف دور الدولة وهيكليتها في السوق؟ بالإضافة إلى ما قد يحمله المستقبل للطبقات الوسطى والعاملة في الولايات المتحدة في ظل هذه التغيرات المحتملة.
أمريكا تقفُ وحدها
قامت سياسة ترامب الاقتصادية على شعار “أمريكا أولًا” الذي أطلقه المرشح الجمهوري منذ بداية ظهوره في الساحة السياسية الأمريكية، وشكّل الركيزة الأساسية لمعظم سياساته فيما بعد، ساعيًا من خلال تطبيقه إلى تعزيز العزلة الاقتصادية والقوقعة الوطنية، في مواجهة العولمة التي شجّع عليها أسلافه، والتي تطلبت انفتاحًا أكبر على الشركاء الدوليين وسوق العمل العالمية.
جسّد ترامب هذا التوجه بالانسحاب من عدة اتفاقيات دولية قائمة على التعاون والشراكة متعددة الأطراف، وفي مقدمتها مشروع اتفاقية الشراكة العابرة للمحيط الهادئ (TPP) التي تنطوي على تعاون تجاري بين 12 دولة مطلة على المحيط الهادئ، منها ماليزيا واليابان والمكسيك وفيتنام وسنغافورة والولايات المتحدة، وتمّت صياغتها وتقديمها في عام 2015، لكنها لم ترَ النور بعد انسحاب إدارة ترامب منها في مطلع عام 2017.
هذا التوجه يعكس أيضًا نهجًا قوميًا يتسم بالإجراءات الحمائية، مثل فرض تعرفة جمركية مرتفعة على الأسواق الخارجية، مع منح الأولوية للسوق المحلية ودعم الصناعات القومية، وما تتطلبه من إعادة طرح وتقييم للعلاقات التجارية الدولية، سواء من خلال الاتفاقيات الرسمية أو المتعارف عليها في التعاملات الدولية على طاولة المفاوضات.
يبدو أن إدارة ترامب الجديدة تسعى لمزيد من التصعيد في حربها التجارية العالمية؛ فبعد تبني قانون ترامب للتعرفة الجمركية المتبادلة في إدارته الأولى، الذي كان يهدف إلى تحقيق مزيد من المساواة في التعامل التجاري العالمي، بدأت بوادر سياسة تجارية متطرفة تتبلور خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، على رأسها فرض تعرفة جمركية على البضائع الدولية.
وبدأ التضخم العالمي يطلّ من بين الأرقام الصادمة التي رفعت عنها الحملة اللثام فيما يتعلق بالتعرفة الجمركية، رغم أنها شهدت تراجعًا ملحوظًا بعد اصطدامها بالواقع، فقد ألمح ترامب إلى نيته رفع التعرفة الجمركية على البضائع القادمة من الصين بنسبة 60%، بالإضافة إلى زيادة تتراوح بين 10% و20% على دول أخرى من العالم.
لكن لاحقًا، أعلن رسميًا عن عزمه رفع التعرفة الجمركية على الصين بنسبة 10%، وفرض تعرفة تصل إلى 25% على البضائع القادمة من كندا والمكسيك، واضعًا نهاية لعقود طويلة من اتفاقيات رفع التعرفة الجمركية بين الولايات المتحدة وكل من هاتين الدولتين الجارتين.
ويتوقع مراقبون أن يؤدي الإبقاء على تعرفة جمركية تتراوح بين 10% و20% على بقية البضائع الدولية المصدرة إلى الولايات المتحدة، إلى زيادة في نسبة التضخم في البلاد بنسبة 0.8% في العام المقبل.
ربط ترامب قرار رفع التعرفة الجمركية ليس فقط بسياسة دعم الاقتصاد المحلي الأمريكي وتعزيز السيادة الأمريكية على الصعيدَين المحلي والعالمي، بل أيضًا بسياسات البلدان المعنية التي، حسب قوله، تغرق الولايات المتحدة بالمهاجرين غير النظاميين والمواد المخدرة والممنوعة، لافتًا إلى أن هذه التعرفة الجمركية تأتي كعقوبة لتلك البلدان على عدم تحكمها في تصدير “الشر” إلى الولايات المتحدة.
خطة ترامب لترحيل المهاجرين غير النظاميين تتجاوز القوانين المحلية ودوائر إنفاذها التقليدية، مثل مراكز الشرطة إلى توظيف الجيش الأمريكي وقوات الأمن الوطني الفيدرالية لهذه الغايات
رغم أن اتفاق سابق جمع الولايات المتحدة والصين للتعاون في مكافحة تجارة المواد المخدرة، والذي وصل إلى طريق مسدود، بحسب ترامب، لأن الرئيس الصيني لم يستمع لنصيحته بفرض عقوبة الإعدام على المتورطين بهذه التجارة، وفي رد فعل من بكين، أكّد ليو بنجيو، سفير الصين لدى واشنطن، بأن حرب التعرفة الجمركية التي يهدد بها ترامب هي خسارة لكل أطراف اللعبة.
لم تنجُ المكسيك كذلك، الجارة اللصيقة للولايات المتحدة وأكبر شركائها التجاريين، وكندا، الجارة المقابلة وثاني أكبر الشركاء التجاريين، من تهديدات ترامب أيضًا، فقد رفضت رئيسة المكسيك، كلاوديا باردو، التهديد الموجه لدولتها، مشيرة إلى أن تغيير سياسات الهجرة ومعالجة مشاكل المواد المخدرة لا تحل عبر فرض المزيد من الضرائب والتعرفة الجمركية.
وأكدت أنها ستفرض تعرفة جمركية مقابلة على بضائع الولايات المتحدة، معترفة في الوقت نفسه بأن هذه السياسات تهدد قنوات التجارة المتبادلة بين البلدين. في المقابل، اختار رئيس وزراء كندا، جاستين ترودو، تجاهل التهديدات التي وجّهها ترامب، معبّرًا عن استعداد بلاده للعمل على تعزيز علاقتها بالولايات المتحدة طوال فترة رئاسة دونالد ترامب.
تأتي هذه التهديدات الجديدة كتصعيد إضافي لسياسات التشدد التي انتهجها ترامب تجاه جارتيه اللصيقتين خلال فترته الرئاسية الأولى التي أسفرت عن استبدال اتفاقية التجارة الحرة لشمال أمريكا (NAFTA)، وهي اتفاقية حكمت العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا منذ عام 1994، باتفاقية الولايات المتحدة-المكسيك-كندا (USMCA)، والتي دخلت حيز التنفيذ في الأول من يوليو/ تموز 2020، وركزت على منح امتيازات للتصنيع والعمالة داخل الولايات المتحدة على حساب المكسيك وكندا.
نفق مظلم للعمالة الأجنبية
ترتبط الأيديولوجيا الاقتصادية المحافظة التي يتبناها ترامب ارتباطًا وثيقًا بسياسات الهجرة وملف العمالة الأجنبية الوافدة، التي يعتبرها تهديدًا لنقاء وصلابة السوق الأمريكية. وقد اشتهر ترامب خلال فترته الرئاسية الأولى ومعسكراته الانتخابية في أعوام 2016، 2020، و2024 بخطابه الصادم تجاه ملف الهجرة، وهو الخطاب الذي يُعزى إليه جزئيًا تقدمه في الانتخابات الرئاسية لعامي 2016 و2024.
تركز سياسة ترامب المعادية للمهاجرين على فرض إجراءات مشددة تهدف إلى الحد من وجودهم في الولايات المتحدة، سواء من خلال قيود صارمة على تأشيرات الدخول، أو تقليص برامج لمّ شمل العائلات، وتعزيز أمن الحدود، خصوصًا مع المكسيك، أو من خلال هندسة موجات ترحيل واسعة للمهاجرين المقيمين بشكل غير قانوني على أراضي الولايات المتحدة، بهدف الحفاظ على الوظائف الأمريكية وحماية الأجور للمواطنيين الأمريكيين.
كما تنطلق أيديولوجيا ترامب القومية المحافظة في ملف الهجرة من إيمانه بأن التضييق على تنافسية العمالة الأجنبية يعني بالضرورة دعم قوة العمل المحلية، دون أن يكلف نفسه عناء التستر عن الدافع الشعبوي المتطرف المرتبط بـ”نقاء الدم الأمريكي”، وبأن المهاجرين، وبخاصة المخالفين منهم، يحملون “جينات سيئة”، بحسب ما وصفهم.
من جهة أخرى، يقرّ ترامب بأهمية التخصصات والخبرات التي قد يفتقدها سوق العمل الأمريكي وتوفرها بالمقابل العمالة الوافدة، وعليه طرح عددًا من الإجراءات لتصحيح أوضاع العمال المتخصصين وحملة الدراسات العليا المقيمين بصورة غير نظامية على أراضي الولايات المتحدة.
مع ذلك، إن فوز ترامب بولاية ثانية يعني أن عمل مكتب إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك (ICE) سيتضاعف، خاصة في الولايات التي ترحّب بالعمالة الأجنبية غير المتخصصة، مثل تلك العاملة في قطاعات الفندقة والزراعة والبناء والصناعات الخفيفة.
وتأتي هذه الجهود ضمن خطته لتنفيذ ما وصفه بـ”أكبر عملية ترحيل في تاريخ الولايات المتحدة”، والتي قد تستغرق سنوات لإبعاد ما يقارب 11 مليون مهاجر مقيم بطريقة غير نظامية عن الأراضي الأمريكية.
الرئيس الجمهوري يفكر بخفض الاقتطاع الضريبي لقطاع الشركات مرة أخرى من 21% إلى 15%، ما يعني عجزًا إضافيًا في الخزانة العامة، وتكنيزًا مضاعفًا لذوي الدخول المرتفعة
وقد تعني هذه السياسة أيضًا فقدان العمالة الأجنبية المحمية بوضعيات قانونية مؤقتة، مثل تصاريح العمل بموجب الوضع المحمي المؤقت (TPS)، وبرنامج العمل المؤجل للقادمين في مرحلة الطفولة (DACA)، شرعية العمل في الولايات المتحدة. ويشكل ذلك تهديدًا مباشرًا لسوق العمل التي تعتمد على هذا النوع من العمالة بسبب انخفاض تكاليف تشغيلها مقارنة بالعمالة المحلية.
الأمر الذي قد يكون مدمّرًا لا على المستوى الشخصي لهؤلاء المهاجرين أو المنحدرين من صلب مهاجرين سابقين، إنما لسوق العمل التي تعتمد بشكل كبير على هذا النوع من العمالة، لأسباب اقتصادية مرتبطة بتكاليف تشغيلها ومصاريف الحفاظ عليها مقابل العمالة المحلية المتطلبة.
ولا يكمن خطر هذه السياسة في تأثيرها المقلق على سوق العمل والاقتصاد الأمريكي فقط، بل يمتد ليشمل انتهاكات خطيرة لملف الحقوق والحريات، أبرزها عسكرة عملية تنظيم الهجرة، فخطة ترامب لترحيل المهاجرين غير النظاميين تتجاوز القوانين المحلية ودوائر إنفاذها التقليدية، مثل مراكز الشرطة والجهات المحلية والفيدرالية، إلى توظيف الجيش الأمريكي وقوات الأمن الوطني الفيدرالية لهذه الغايات.
ينطوي هذا المشهد على تحديات قانونية وأخلاقية غير مألوفة في السياق الأمريكي، حيث يتورط الجيش في عمليات القبض على المهاجرين، خاصة على الحدود الجنوبية مع المكسيك، بالاستناد إلى قوانين قديمة مثل قانون التمرد وقانون الأعداء الأجانب لعام 1798، مع استدعاء آلاف الجنود الأمريكيين من مهامهم العالمية لتنفيذ أجندة تصور المهاجرين كأعداء للأمة الأمريكية.
الدولة تتراجع إلى الظل
تنطوي أيديولوجيا ترامب الاقتصادية ليس فقط على القطيعة مع الخارج، بل أيضًا على تغيير جذري في تنظيم سوق العمل الأمريكية من خلال تفكيك ما يُعرف بـ“الدولة الإدارية”، ودورها التنظيمي في الاقتصاد الوطني، وهي أجندة تحمل توجهًا نادرًا لم يسعَ إليه من قبل أي رئيس أمريكي بعد الحرب العالمية الثانية باستثناء رونالد ريغان.
هذه السياسة، التي ورثتها الإدارة الأمريكية من أجواء الحرب العالمية الثانية، واعتمدتها معظم الاقتصادات الدولية لتعزيز العدالة الاجتماعية والحد من تغوُّل رأس المال والسوق الحرة المطلقة، تنحدر من فلسفة يمينية محافظة تنظر إلى الدولة الإدارية باعتبارها تهديدًا للحريات الفردية، ما يجعلها أقرب إلى أيديولوجية سياسية منها إلى استراتيجية اقتصادية بحتة.
إلا أن هذه الفلسفة الاجتماعية امتدت إلى السوق الأمريكي بمختلف مكوناته؛ إذ شرعت إدارة ترامب في إلغاء العديد من القيود السابقة على الاستهلاك والتصنيع والعمليات البنكية والقوى العاملة وقطاع الطاقة والضرائب، في إطار دفع السوق نحو مزيد من الانفتاح، خاصة لصالح الشركات العملاقة داخل الولايات المتحدة.
وأطلقت إدارة ترامب قطار إلغاء القيود التنظيمية على السوق الأمريكي استنادًا إلى قاعدة “اثنين مقابل واحد” المنصوص عليها في القرار التنفيذي 13771، والتي تعني إلغاء تنظيمين قانونيين سابقين مقابل كل قانون تنظيمي جديد يُسَنّ.
وسعت الإدارة السابقة لتنفيذ هذه الأجندة على قدم وساق، حيث أعلنت مع نهاية عام 2017 أنها أنجزت إلغاء 22 قيود تنظيمية سابقة مقابل كل تنظيم جديد، ليصل مجموع الإلغاءات إلى 243 للعامين 2017 و2018. وتمحورت هذه الإلغاءات حول تنظيميات فرضت قيودًا على استهلاك والتنقيب عن الوقود الأحفوري، مع دعم الصناعات المعتمدة على مصادر الطاقة المتجددة، بالإضافة إلى تنظيمات متعلقة بقطاعات الرعاية الصحية والنقل والطاقة.
في المقابل، أظهرت دراسة أجرتها منظمة كاتو (CATO)، وهي من أعرق مؤسسات البحث في السياسة العامة الأمريكية، أن إدارة ترامب سنّت تنظيمات جديدة بنسبة 40% أقل من الإدارتين السابقتين تحت أوباما وبوش الابن، كما تم تقليص التنظيمات الاقتصادية المهمة بنسبة 50% مقارنة بالإداراتين المذكورتين؛ وقد استعان ترامب في سبيل ذلك بالكونغرس الذي احتل الجمهوريون مجلسيه بعد انتخابات عام 2016.
بالإضافة إلى إلغاء القيود المتعلقة ببرنامج التغطية الصحية الميسّرة وقطاع البنوك والأيدي العاملة ذات الأبعاد الاقتصادية، تجاوز هذا التوجه حدود الاقتصاد وسوق العمل ليشمل قضايا بيئية وتغير المناخ، إذ ترافق فرض هذه السياسة مع انسحاب إدارة ترامب من عدد من الاتفاقيات والالتزامات الدولية المتعلقة بسياسات الحماية البيئية، بما في ذلك انسحابها من اتفاقية باريس للمناخ.
وحاليًا، مع عودة ترامب لفترة رئاسية جديدة، يبدو الرئيس الجمهوري عازمًا على استكمال ما بدأه من إلغاء القيود التنظيمية على عمل الشركات وأسواق العمل، ومن المتوقع أن تكون العدالة الاجتماعية والبيئة والمناخ العالميين أول الضحايا لهذه السياسات.
فقد توعّد ترامب بإلغاء معظم القيود التنظيمية التي أعادت إدارة بايدن-هاريس فرضها على امتداد السنوات الأربع الماضية، بما فيها سياسات دعم التحول إلى المركبات الكهربائية وقيود البيئة والاجتماع والإدارة المعروفة بـ ESG Investment، والتي كانت تحكم عمل الشركات الكبرى وتقيّد عملياتها بحسب تقييمها في هذه المجالات.
إضافة إلى ذلك، استهداف مخصصات قانون خفض التضخم الذي يفرض قيودًا أيضًا على سوق العمل، لتقليل الفجوة الناجمة عن تضخم رأس المال في مجال العدالة الإجتماعية، والذي تبنّته أيضًا إدارة بايدن.
الاقتطاع الضريبي: ظاهره فيه الرحمة، باطنه فيه العذاب
يعدّ قانون الوظائف وتخفيض الضرائب (TCJA) لعام 2017، الذي أقرته إدارة ترامب الأولى، من أهم الآثار التي خلفتها الإدارة وراءها فيما يتعلق بسوق العمل الأمريكي، حتى بات يُعرف بـ”قانون ترامب الضريبي”، والذي يهدف إلى خفض الاقتطاع الضريبي الفيديرالي بنسب متفاوتة للأفراد، فيما تم توحيد النسبة للشركات بنسبة 21%.
ووفقًا للتوقعات المتساهلة، سيكلف هذا القانون الحكومة الأمريكية مبلغ 1.5 تريليون دولار أمريكي من العائدات الضريبية خلال العقد المقبل، بينما ترى أكثر التوقعات تشاؤمًاا أن سياسة ترامب الضريبية ستكلف الحكومة الفيدرالية عجزًا بقيمة 7.75 تريليونات خلال العقد القادم.
رغم أن القانون يبدو ظاهريًا مفيدًا ورحيمًا بالطبقة الوسطى والعاملة في السوق الأمريكية، التي سيتسنّى لها الاحتفاظ ببعض العائدات الضريبية بدل دفعها للخزانة العامة، إلا أن حصة الأسد والمستفيد الأكبر من القانون هم الشركات الكبرى وأصحاب رؤوس المال الطائلة.
من جهة أخرى، سيتسبّب هذا التخفيض الضريبي في افتقار الحكومة الفيدرالية إلى الميزانية الكافية لتمويل برامج الرعاية الصحية والتعليم والتأمين الاجتماعي، وغيرها من البرامج العامة التي تقدم للطبقات الوسطى والعاملة بأسعار ميسّرة، ما يعني أن مزيدًا من العجز في الخزانة الأمريكية الفيديرالية سيعود بالوبال على هذه الطبقات على المدى الطويل.
والآن مع عودة ترامب ثانية، فإن الرئيس الجمهوري يفكر بخفض الاقتطاع الضريبي لقطاع الشركات مرة أخرى من 21% إلى 15%، ما يعني عجزًا إضافيًا في الخزانة العامة، وتكنيزًا مضاعفًا لذوي الدخول المرتفعة، كما يخطط لتمديد القواعد التي تحكم الضرائب الفردية، التي كان من المفترض أن تنتهي صلاحيتها بحلول عام 2025، الأمر الذي يفسر الصعود المعتبَر في سوق الأسهم بعد فوز ترامب،حيث يعوّل المستثمرون على مزيد من التخفيضات الضريبية ورفع القيود التنظيمية.
في الختام، وفي عصر الانفتاح والعولمة الدوليَّين الذي يحيل العالم بأجمعه إلى قرية صغيرة، إن سياسات ترامب الاقتصادية لا تترك آثارًا طويلة الأمد على الولايات المتحدة وحسب، إذ إن سلاسل التوريد العالمية وخطوط التجارة الدولية وكذلك ملف العلاقات الدولية ستكون في مرمى النيران، وسينالها نصيب من التغييرات العميقة القادمة.
ومن المتوقع أن تزداد حدّة الاستقطاب العالمي، وأن تخوض الدول حروبًا تجارية تحكمها الولاءات والمصالح الوطنية، ما سيترك تأثيرًا كبيرًا على الخارطة الجيوسياسية، وقد تنبئ هذه السياسات بولادة نظام عالمي جديد تفقد فيه الولايات المتحدة مكانتها القيادية، أو تشاركها فيه قوى أخرى، بينما تسعى كل دولة لحماية سوقها ومواطنيها، على غرار النموذج الذي تروّج له الولايات المتحدة.