كما هي عادة الدول الاستعمارية التي تريد استغلال شعب ما وسرقة ثرواته، تقوم بالعمل على تغيير التوجهات الفكرية والعقائدية لشعبه، لتضمن عدم مقاومته للمحتل والانتماء لهذا المحتل فكريًا وثقافيًا، هذا ما رأيناه في عمليات التأثير الثقافي للدول الاستعمارية، وأوضح مثال على ذلك، بريطانيا الاستعمارية التي وصلت إلى أبعد المراحل في هذا الجهد، واستطاعت إلغاء اللغات المحلية لشعوب كثيرة واستبدلتها باللغة الإنجليزية واستبدلت ثقافتها المحلية بالثقافة الإنجليزية، ضمنت بعدها ولاء تلك الدول لها إلى الوقت الذي نعيشه.
وعلى خطى البريطانيين فعلت كذلك فرنسا بعدد من الشعوب الإفريقية، ونعيش اليوم عصر التغيير الثقافي والأيدلوجي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، فهي تصدر النموذج الأمريكي لبلدان العالم على أنه النموذج المعاصر للإنسان المتحضر، وتسوّق للعالم ما يسمى بـ”العولمة”، تبتغي من خلالها توسعة نفوذها بالعالم وزيادة مناصريها ومواليها المرتبطين بها مصيريًا.
رأت إيران أن لديمومة هذه السيطرة، لا بد من أن يرافق ذلك تغيرًا ثقافيًا وفكريًا يوفر لها الحاضنة الشعبية لنفوذها بالعراق
النظام الإيراني فيما يبدو أنه فهم تلك اللعبة، أو لنقل حاول إتقان ما يسمى في علم السياسية بـ”السياسة الناعمة” لأجل تغيير القناعات والولاءات للشعوب التي تسيطر عليها حاليًّا، وأدركت أن السبيل الوحيد لديمومة هذه السيطرة والانتفاع بها لن يكون من خلال السيطرة العسكرية والأمنية فحسب، إنما يفترض أن يكون هناك جهد لا يقل شأنًا عن الجهد السياسي والعسكري، يوفر لها السيطرة الكاملة على شعوبها وإلى أمدٍ بعيد، ومن خلال عمليات التغير الثقافي والايديولوجي للشعوب، بشكل مرافق للجهد العسكري والسياسي الذي تنتهجه، وقد استعملت في سبيل تحقيق هذه النتيجة، وسائل عديدة كان من أهمها البُعد الطائفي والشعور بالمظلومية لتُجمّع أنصارها من حولها.
وفيما يخص الجهد الإيراني في العراق الذي تسيطر عليه من جوانب مختلفة، عسكريًا وأمنيًا وسياسيًا، رأت إيران أنه لديمومة هذه السيطرة، لا بد من أن يرافق ذلك تغيرًا ثقافيًا وفكريًا، يوفر لها الحاضنة الشعبية لنفوذها بالعراق، وفي حالة عدم نجاح ذلك فإنها لا تتورع عن استخدام التغير الديمغرافي لمناطق العراق في سبيل تحقيق الأغلبية المناصرة لها. وهذا التغيير الثقافي سيوفر لها التدخل في الشؤون العراقية والسياسية بشكل تلقائي، ويجعلها غير متهمة من الآخرين بانتهاك السيادة العراقية بعد أن يصل أتباعها لسدة السلطة، لتتذرع للعالم بأنها لا تتدخل بالشأن العراقي عنوة، إنما تدخلها بالعراق هو بطلب من حكومة عراقية منتخبة من الشعب العراقي، كما هي تتذرع الآن في موضوع تدخلها بسوريا.
في فترة ما بعد طرد داعش من المحافظات السنيَّة، جاءت العملية التكميلية في التأثير على تلك الجموع الكبيرة من الشعب العراقي
لم يكن هذا الجهد الإيراني سهلًا عليها في بداية الاحتلال الأمريكي للعراق، لذلك فقد عمدت إلى التمهيد له من خلال تغييب المفكرين وقادة الرأي والعلماء من العراقيين ومن أبناء السنَّة بالتحديد، كونهم من تُلقى على كاهلهم قيادة المجتمع، ليسهل عليها بعد ذلك محاولة التأثير على تلك الشريحة الواسعة من المجتمع العراقي بغياب قيادته المثقفة.
فقامت بهذا الدور، ميليشياتها التي زرعتها بالعراق، بتنظيم عمليات الاغتيال لبعضهم وتهجير البعض الآخر، بل إنها لن تتوانى عن شراء ذمم البعض، حتى إذا انتهت من ذلك، عمِدت إلى ترويض شرائح المجتمع بغياب نخبها الواعية، من خلال عمليات التدمير الممنهج لحواضرهم واضطرار شرائح واسعة منهم للعيش بمخيمات النزوح بظروف سيئة للغاية.
ففي فترة ما بعد طرد داعش من المحافظات السنيَّة، جاءت العملية التكميلية في التأثير على تلك الجموع الكبيرة من الشعب العراقي، وفي ذلك دعت العديد من قيادات المليشيات في العراق وعلى رأسهم هادي العامري، إلى تأسيس مما يسمى “الحشد الثقافي” لمحاربة فكر “الإرهابين” حسب زعمه، وحقيقة ما يقصده هو تأسيس فكر ذي أيدلوجية إيرانية مضادة للفكر العروبي العراقي وترويجها بأوساط العراقيين.
وحاولت الجمعيات الثقافية والإغاثية الشيعية التأثير على أولئك النازحين والترويج للتشيع وإظهار التفوق الإيراني المتمثل بالمليشيات والاستيلاء على الأوقاف السنيَّة من جوامع وعقارات، ونجحت في هذا الجهد أيّما نجاح بغياب أي رادع لهم.
ولأجل التأثير على الشباب العراقي وبالأخص أبناء الشيعة منهم، عمِد بعض قادة المليشيات العراقية للتفاخر بأنهم كانوا جنودًا عند إيران، هذا ما فعله أبو مهدي المهندس حينما تفاخر بكونه جنديًا عند قاسم سليماني، لإرسال رسالة للشباب العراقي الشيعي للاقتداء به.
أعلن مؤخرًا وزير الثقافة والسياحة والآثار العراقي الجديد عبد الأمير الحمداني، عزم بلاده التعاون مع إيران بإنتاج فيلم مشترك عن جرائم تنظيم داعش
وعمدت إيران وأتباعها بالعراق إلى رفع صور خامنئي والخميني في الساحات والشوارع العامة، وغيرت أسماء الشوارع والساحات العامة إلى أسماء أولئك القادة والمراجع الإيرانيين، في رسالة تهدف لترسيخ مكانة هؤلاء الشخوص في عقول وأذهان الناس، حتى جاءت مرحلة جديدة على هذا النهج الذي تقوم به إيران، لتأصيل هذا التغيير الأيديولوجي الكبير في العراق، من خلال استعمال فن السينما، لما لها تأثير على شريحة كبيرة من الناس.
فقد أعلن مؤخرًا وزير الثقافة والسياحة والآثار العراقي الجديد عبد الأمير الحمداني، عزم بلاده للتعاون مع إيران بإنتاج فيلم مشترك عن جرائم تنظيم داعش، وبالتأكيد هذا الفيلم وغيره من الأفلام اللاحقة، هدفها الترويج إلى الحشد الشعبي المرتبط بإيران وإظهار التضحيات الإيرانية المزعومة لإنقاذ الشعب العراقي من عصابات داعش وإيصال شعور للمتلقي العراقي بضرورة إظهار الامتنان والعرفان لإيران لأنها أنقذتهم من تنظيم داعش وجرائمه.
كما بذلت إيران جهدًا كبيرًا لإطلاق العشرات من وسائل الإعلام والقنوات الفضائية التي تهدف إلى التأثير على الرأي العام في العراق وإعادة صياغة أفكاره وتوجهاته لصالحها والترويج للرؤية الإيرانية.
وفي ذلك أكد وزير الثقافة الإيراني الأسبق محمد حسيني، استعداد طهران لتأسيس مراكز ثقافية في العراق للتعريف بإيران وإقامة دورات تدريبية لتعليم اللغة الفارسية، وتنتشر اليوم، العديد من تلك المراكز الثقافية الإيرانية والمدارس الخاصة الإيرانية بمحافظات العراق، بل إن لديهم مخططات لبناء المئات من هذه المدارس والمراكز الثقافية، لترسيخ الأيديولوجية الإيرانية في أذهان الأطفال العراقيين، مستخدمين فيها مدرسين لهم دراية واسعة بالترويج الطائفي بالمجتمع العراقي ومدح النظام الإيراني والترويج لنظام الولي الفقيه وضرورة اتخاذه كمرشد للمسلمين بالعالم.
إننا بانتظار تغيير أعمق على مستوى عقلية الشعب العراقي وتوجهاته وهويته القومية والعقائدية، واستمرار هذا الحال، سوف يسلخ العراق من محيطه العربي والإسلامي ليكون بلدًا غريبًا في المنطقة
وعمد النظام الإيراني إلى تشجيع الزيجات العراقية – الإيرانية، والرحلات السياحية الدينية المتبادلة، وجعل العراق الوجهة الرئيسية للسياح الدينيين الإيرانيين، إذ تشير التقارير إلى أن نحو 40.000 إيراني يزور المدن المقدسة عند الشيعة في العراق شهريًا، وما يقارب 3 إلى 4 ملايين شخص يزورون العراق في أثناء الاحتفالات السنوية بذكرى عاشوراء.
لم يكتفوا بذلك، بل وصلوا إلى مرحلة العمل بشكل صريح وعلني، للترويج لثقافتهم الفارسية بشكل قوي وإرساء فكرة عائدية العراق لبلاد فارس، حينما أشار وزير الثقافة العراقي إلى أن وفدًا إيرانيًا سيزور العراق لمناقشة ترميم منطقة “طاق كسرى” الأثرية الواقعة جنوب العاصمة بغداد. يُذكر أن هذا الموقع الأثري هو ما تبقى من قصور الملك الفارسي كسرى آنوشروان، حينما كانت تحتل فارس الأرض العربية في العراق قبل الإسلام، وتحوي هذه المدينة أيضًا مرقد الصحابي الجليل سليمان الفارسي الذي جاء لهذه المدينة فاتحًا مع جيوش الفتح الإسلامية وتوفي هناك.
بعد ما يجري في العراق من تغيير ثقافي وعقائدي، بعدما نجحوا في محاولاتهم في التغيير الديمغرافي وإقصاء شرائح واسعة من المجتمع العراقي من الساحة السياسية وأبعاد تأثيرهم على توجهات العراق، فإننا بانتظار تغيير أعمق على مستوى عقلية الشعب العراقي وتوجهاته وهويته القومية والعقائدية، واستمرار هذا الحال، سوف يسلخ العراق من محيطه العربي والإسلامي ليكون بلدًا غريبًا في المنطقة، يدين بالولاء لإيران، ولا نستغرب إذا جاء الوقت الذي يكون العراق جزءًا من دولة إيران التوسعية، حاله كحال الأحواز العربية المنسية، من خلال فبركة رغبة عراقية بالوحدة مع إيران، وحين ذلك لا ينفع الندم.