في مثل هذا اليوم قبل ست سنوات من الآن وقف وزير الدفاع المصري – آنذاك – عبد الفتاح السيسي تاليًا وبحماسة واضحة بيان عزل الرئيس الراحل محمد مرسي، كان برفقته وقتها عدد من الشخصيات الممثلة لداعمي الانقلاب، أبرزهم رئيس الأركان صدقي صبحي ممثلاً عن الجيش، ومحمد البرادعي ممثلًا عن التيار المدني “جبهة الإنقاذ الوطني” وشيح الأزهر وأمين حزب النور السلفي وبابا الكنيسة الأرثوذكسية ممثلين عن التيار الديني.
البيان الذي حمل اسم “خريطة طريق” شمل عددًا من البنود على رأسها تعطيل العمل بالدستور وتشكيل لجنة لمراجعة تعديلاته، هذا بجانب تولي المجلس الأعلى للقضاء شؤون البلاد لفترة انتقالية، لكن الأمر انقلب بعد ذلك حين تولى السيسي مقاليد الأمور رغم إعلانه أكثر من مرة أنه ليس له أطماع في الحكم.
كان التيار المدني على رأس القوى السياسية التي اصطفت خلف القوات المسلحة قبل أحداث 30 يونيو، وكانت على رأس الكيانات التي حشدت للنزول في هذا اليوم، منددة بما سمته “سيطرة الإخوان على مقاليد الأمور”، كانت أحلام الحكم تساور بعض قيادات هذا التيار في هذا الوقت على رأسها حمدين صباحي، متوهمين أن التخلص من الإخوان أول الطريق نحو الوصول إلى القصر الجمهوري.
لكن مع مرور الوقت تبدل الحال، وبات يقينًا أن الجيش لن يترك الحكم بسهولة كما كان يتوقع أنصار هذا التيار، خاصة بعد إجراء تعديلات دستورية تسمح للرئيس الحاليّ بالمكوث في القصر الجمهوري حتى 2030، وبدلاً من مخطط توظيف القوات المسلحة للإطاحة بحكم مرسي وتعبيد الطريق أمام التيار المدني، إذ بالعكس الذي يحدث، فكان المدنيون القنطرة التي استخدمها الجيش للسيطرة على الحكم مرة أخرى بعد الإطاحة بالرئيس الأسبق حسني مبارك في 2011.
النظام الحاليّ رغم استعانته بالتيار المدني لتحقيق أغراضه في الإطاحة بأول رئيس منتخب، لم يكن ليطمئن له خاصة أنه على يقين أن القفز على كرسي الرئاسة حلم يداعب بعض قادته، ومن ثم، وبعدما نجح في التخلص من رأس حربة الإسلام السياسي في مصر بات الدور الآن على التيار المدني، وبالفعل بدأت مرحلة تقليم الأظافر والتخلص منهم واحدًا تلو الآخر.
تآكل التيار المدني
قبل عدة أيام أعلنت وزارة الداخلية المصرية إجهاض ما سمته “مخطط إرهابي” تحت مسمى “خطة الأمل”، تديره قيادات ينتمي بعضها لجماعة الإخوان المسلمين وعناصر إثارية “لاستهداف الدولة ومؤسساتها وصولًا لإسقاطها، تزامنًا مع الاحتفال بذكرى 30 يونيو”.
اللافت للنظر في بيان الداخلية أن الأسماء التي ألقي القبض عليها معروفة بعدائها الشديد لجماعة الإخوان، بل للتيار الإسلامي بأكمله، خاصة أن بعضهم رموز يشار لها بالبنان في التيار المدني المناوئ للإسلاميين، على رأسهم النائب السابق زياد العليمي وحسام مؤنس مدير حملة المرشح السابق للرئاسة حمدين صباحي.
أثارت هذه الخطوة حفيظة التيار المدني برمته، الأمر الذي دفعهم لاتهام النظام الحاليّ وأجهزة الدولة الأمنية باستهداف كل ما له علاقة بثورة يناير، ومحاولة الإجهاز على أي نشاط سياسي داخل البلاد، هذا رغم خصومتهم الشديدة لحكم مرسي وهم الذين خاضوا معارك ضارية ضده، علاوة على أنهم كانوا على رأس الحاشدين لتظاهرات 30 يونيو ومن أكبر الداعمين لبيان 3 يوليو.
في قراءة سريعة لما آلت إليه رموز التيار المدني يلاحظ أن معظمهم بات خلف السجون وفي داخل المعتقلات ومن خرج منهم قابع تحت الإقامة الجبرية أو الاحترازات الأمنية
حالة من التحول المفاجئ في مواقف المدنيين بعد استتباب الحكم لنظام السيسي، فبعد توالي الأحداث الساخنة خلال السنوات الخمسة الماضية، شرع عدد من رموز التيار المدني (الليبراليون أو اليساريون أو القوميون) إلى التخلي عن دعم الرئيس الحاليّ، البداية كانت عند محمد البرادعي نائب الرئيس المؤقت عدلي منصور، الذي استقال اعتراضًا على الفض الدموي لاعتصامي رابعة العدوية والنهضة.
إحباط مخطط إرهابى لجماعة الإخوان الإرهابية تحت مسمى "خطة الأمل"
توجيه ضربة أمنية لـ 19 كياناً إقتصادياً وشركة بالتنسيق مع نيابة أمن الدولة العليا..المخطط الإرهابى يرتكز على إنشاء مسارات للتدفقات النقدية الواردة من الخارج pic.twitter.com/4qPcGuUBJn
— وزارة الداخلية (@moiegy) June 25, 2019
بعدها مباشرة توالت سلسلة المتخلين عن دعم هذا النظام، بعضهم نذر نفسه للدفاع عن السيسي وسياساته وقرارته، على رأسهم إعلاميين مثل علاء الأسواني ويسري فودة، مرورًا بسياسيين، منهم حازم عبد العظيم الذي كان عضوًا في حملته الانتخابية، والسفير معصوم مرزوق ويحيى القزاز ورائد سلامة، انتهاءً بالحركات الشبابية الثورية والأحزاب السياسية، تحولت معظم التيارات المدنية إلى معارضة النظام المصري.
وفي قراءة سريعة لما آلت إليه رموز التيار المدني يلاحظ أن معظمهم بات خلف السجون وفي داخل المعتقلات ومن خرج منهم قابع تحت الإقامة الجبرية أو الاحترازات الأمنية، على رأسهم أحمد دومة وأحمد ماهر وعلاء عبد الفتاح وغيرهم، أما من لم تطله يد الاعتقال فتم استئناسه، قهرًا كان أو اختيارًا، هذا رغم تأكيدهم بين الحين والآخر على معاداة الإخوان، وهو ما كشفه بيان الحركة المدنية الديمقراطية ردًا على الاعتقالات الأخيرة، لكن يبدو أن ذلك لم يشفع لهم.
جبهة الإنقاذ التي قادت مظاهرات 30 يونيو، ورغم تفككها بعد الانقلاب فإن أبرز قيادتها كونوا تحالف “الحركة المدنية الديمقراطية” كنواة لجبهة معارضة في الداخل، بينها حزبا الدستور والكرامة، وعلى رأسهم المرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي.
لكن رغم الدور الذي قامت به هذه الجبهة لترسيخ أركان النظام الحاليّ، فإن التنكيل بها وقادتها كان مبكرًا للغاية، إذ لم تسمح لهم السلطات بتنظيم أي فعاليات، كما اعتقل عدد من أعضائها، الأمر ذاته مع الحركات الشبابية التي لم تسلم هي الأخرى من الملاحقة على رأسها حركتا 6 أبريل والاشتراكيين الثوريين.
خطة لوأد الثورة
جزاء سنمار.. هذا ملخص شهادات رموز التيار المدني على تجربتهم في دعم النظام الحاليّ، البداية كانت مع أحمد بهاء شعبان رئيس حزب الاتحاد الاشتراكي الذي أشار إلى أن مساندة الدولة في مواجهة الإخوان كانت ضرورة لما سماه “مواجهة مخطط تمزيق مصر”.
شعبان في تصريحات صحفية له شدد على أن التيار المدني كان من أهم ركائز 30 يونيو، إلا أنه فوجئ بخطة ممنهجة لوأد الثورة ومعاقبة كل من شارك فيها، حتى الذين ساندوا مؤسسات الدولة في الإطاحة بحكم الرئيس الراحل محمد مرسي، كاشفًا أن الحلف الذي واجه الإخوان مع الجيش بات اليوم مفتتًا، إذ أصبحت الأحزاب المكونة له معزولة عن العمل العام، هذا بخلاف النظرة المتدنية التي يعامل بها من السلطات الحاليّة والإعلام الداعم لها.
ووفق شهادات من أعضاء التيار المدني لـ”نون بوست” فإن النظام الحاليّ يعمل وبكل قوة للقضاء على أي أثر لثورة 25 يناير، لافتين إلى أنه وبعد الإجهاز على الإخوان لم يعد أمامهم سوى هذا التيار الذي بدأت إرهاصات عودته للحياة السياسية مرة أخرى عبر تشكيل جبهات جديدة لدخول المعترك الانتخابي القادم.
بعد ست سنوات على بيان السيسي الذي عزل به مرسي وعبّد الطريق لنفسه لتولي زمام الأمور، متخلصًا من معظم شركائه، عسكريين كانوا أم مدنيين، بات السؤال الأبرز الآن: هل من دروس مستفادة من تلك السنوات الستة؟
وأضافوا أن فكرة العودة للعمل السياسي مرة أخرى مرفوضة تمامًا من السلطات الحاليّة التي تجيد استخدام فزاعة الإرهاب والأمن القومي في ترهيب كل من يفكر أن يغرد خارج السرب، كاشفين أن النظام ما عاد يقبل بأنصاف الولاء، فإما أن تكون معهم قلبًا وقالبًا، في الحق والباطل، أو فلا وجود لك إلا داخل السجون والمعتقلات إن لم يسعك بيتك.
وهو ما ذهب إليه عدد من المتهمين بالشأن الحقوقي، حيث أرجع بهي الدين حسن مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، السبب الحقيقي لاعتقال زياد العليمي وحسام مؤنس، بأنه محاولة من النظام المصري لإجهاض “تحالف الأمل” الذي يضم عددًا من التيارات السياسية والشخصيات العامة الليبرالية واليسارية، الذي كان من المقرر إعلانه خلال أيام في مؤتمر صحفي، مضيفًا بأن الاعتقال جرى بعد ساعات من مغادرتهما اجتماع للتحالف بمقر حزب المحافظين بمشاركة آخرين وتم فيه مناقشة هيكل التحالف وبيان عن “قتل السياسة في مصر”.
السيسي يسعي لإجهاض #تحالف_الأمل الذي يضم الحركة المدنية الديموقراطية وتحالف ٢٥-٣٠ البرلماني وحزب المحافظين وعدد من الشخصيات العامة الليبرالية واليسارية، وكان مقررا الإعلان عنه خلال أيام في مؤتمر صحفي. #زياد_العليمي و #حسام_مؤنس هما من أبرز الفعاليات الشبابية وراء تدشين التحالف. https://t.co/lO9OSrjn15
— Bahey eldin Hassan (@BaheyHassan) June 25, 2019
الأمر ذاته أكدته منظمة العفو الدولية التي قالت إن موجة الاعتقالات الأخيرة “وحملة القمع لا تدع مجالاً للشك في رؤية السلطات للحياة السياسية في مصر، وهي أنها سجن كبير دون السماح بأي معارضة أو منتقدين أو صحافة مستقلة”، فيما يرى الحقوقي محمد زارع أن “النظام المصري يكره السياسة والتنظيم وحرية الرأي والتعبير ولا يؤمن إلا بوجود رأي واحد فقط وهذا ما رأيناه في انتخابات مجلس النواب والانتخابات الرئاسية الأولى والثانية”، مشيرًا أن فكرة وجود أحزاب تريد خوض انتخابات “مسألة غير مقبولة لدى هذا النظام الذي جعل تكلفة المشاركة في العملية السياسية باهظة الثمن”.
إن موجة الاعتقالات الأخيرة التي استهدفت المنتقدين وقادة المعارضة والنشطاء والصحفيين تحت ستار مكافحة الإرهاب جزء من اضطهاد السلطات المصرية الممنهج، والقمع الوحشي، لأي شخص يجرؤ على انتقادها. #مصر https://t.co/02tm8YnwN0
— منظمة العفو الدولية (@AmnestyAR) June 25, 2019
دروس مستفادة
وبعد ست سنوات على بيان السيسي الذي عزل به مرسي وعبّد الطريق لنفسه لتولي زمام الأمور، متخلصًا من معظم شركائه، عسكريين كانوا أو مدنيين، بات السؤال الأبرز الآن: هل من دروس مستفادة من تلك السنوات الستة؟ هذا ما أجاب عنه جورج إسحاق عضو مجلس حقوق الإنسان وأحد رموز 30 يونيو.
إسحاق علق على الحال الذي وصل إليه التيار المدني قائلاً: “للأسف معظم من شارك في 30 يونيو من رموز التيار المدني والثوري، صاروا في السجون أو تم إقصاؤهم ومنهم من التزم بيته خوفًا من السجن والقمع، وحتى لو كانت هناك محاولات للحراك واستعادة الأمور مرة أخرى، يقابل ذلك بقسوة وشدة من جانب السلطة، وكل هذه الأشياء تدعو إلى الإحباط بالتأكيد”.
وأضاف في تصريحاته لموقع “عربي 21” “على الجميع أن يستفيد من هذا الدرس، سواء التيار المدني أم الإخوان ويستوعبوا ما حدث، لأن السجن والقمع طال الجميع، وإنْ كان أداء الإخوان رديئًا في تعاملهم مع القوى المدنية، لكن على التيار المدني أن يستفيد من هذا الدرس أيضًا، بعدما انتهت الأمور إلى ما انتهت إليه”.
أما نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية عمرو هاشم فيرى أن “30 يونيو لم يعد منها سوى اسمها فقط، وتم تجريف كل الآمال والطموحات التي بناها الناس عليها، وتم تغييب الأحلام التي كانت تراود من شارك فيها، وصرنا إلى ما نحن فيه اليوم من تشتت في الصف الثوري بشكل عام والمدني بشكل خاص، وما جرى من سجن وإقصاء لرموز وشباب شاركوا في هذا اليوم، وكان لهم دور فاعل”.
هاشم أضاف أن “الحركة المدنية دفعت الثمن”، مضيفًا “حتى الذين ثاروا ضد الإخوان وساندتهم المؤسسة العسكرية، تم سجنهم وإقصاؤهم لاحقًا وعقابهم، وبالتالي فإن على الجميع أن يستوعبوا الدرس ويعيدوا النظر في ما جرى، وليس بالضرورة أن تكون مراجعات شاملة بالنسبة للتيار المدني، ولكن على الأقل إعادة النظر حتى لو على مستوى الأشخاص”.