كان يأمل الإيرانيون عقب توقيع الاتفاق النووي عام 2015 إحداث قفزة كبيرة في مسيرة تطبيع العلاقات مع الغرب، ما ينعكس إيجابًا على الجذب السياحي وإنعاش خزينة الدولة بعد معاناة دامت سنوات طويلة جراء السياسة الأمريكية المناهضة لها، وبالفعل ومع إبرام الاتفاق ارتفع عدد السائحين بشكل ملحوظ.
لكن سرعان ما عادت الأمور إلى سابق عهدها مرة أخرى، فبعد الانسحاب الأمريكي الأحادي من الاتفاقية العام الماضي وعودة سياسة فرض العقوبات مرة أخرى، أثر ذلك بشكل سلبي على قطاع السياحة، ما دفع طهران وسلطاتها إلى البحث عن أساليب جديدة للتحايل على هذه الأزمة.
قبل يومين أعلن نائب رئيس منظمة التراث الثقافي والحرف والسياحة الإيرانية، موافقة الحكومة على سياسة إلغاء التأشيرة بالنسبة للسائحين الصينيين الذين يزورون إيران، ومن ثم بات الطريق مفتوحًا أمام مواطني الصين لزيارة مختلف مدن الدولة الإيرانية دون قيود أو شروط مسبقة.
القرار يأتي في إطار خطة ممنهجة لزيادة إيرادات إيران السياحية، فقبلها بأقل من أسبوع تقريبًا أصدر الرئيس الإيراني حسن روحاني أمرًا لوزير الداخلية عبد الرضا رحماني فضلي، ينص على أن إيران لن تضع طوابع بريدية (ختمًا) على جوازات سفر الأجانب الذين يزورون إيران.
تحايل على العقوبات الأمريكية
منذ تضييق واشنطن الخناق على الإيرانيين بحبل العقوبات الممتد، الذي أثر بشكل كبير على الحالة الاقتصادية بصفة عامة، بات البحث عن وسائل للتحايل على تلك الإجراءات الشغل الشاغل لدوائر الحكومة الإيرانية بشتى مجالاتها، ومن ثم كانت موجة الانفتاح الأخيرة على دول الجوار.
الأيام القليلة الماضية شهدت حراكًا دبلوماسيًا إيرانيًا كبيرًا تجاه العديد من القوى الاقتصادية والسياسية في آن واحد، في مقدمتها الصين وروسيا، بهدف الخروج من المأزق الحاليّ وفتح أسواق جديدة لها في مواجهة الخناق المشدد من الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.
ويعد الاتحاد الأوراسي (روسيا وبلاروسيا وكازاخستان وأرمينيا وقرغيزيستان) بجانب منطقة القوقاز الشمالي في الاتحاد الروسي أحد أبرز المسارات التي لجأت إليها السلطات الإيرانية لتعزيز العلاقة معهم خلال الآونة الأخيرة في محاولة منها لمواصلة صمودها في مواجهة واشنطن دون أن تدفع ثمنًا سياسيًا.
المتحدث باسم الحكومة الإيرانية علي ربيعي في تصريحات سابقة له قال: “بموجب خطط الإرهاب الاقتصادي، تحاول الولايات المتحدة تخويف ومنع السياح الأجانب من القيام برحلات إلى إيران”، مضيفًا: “لسوء الحظ، تتابع الولايات المتحدة برامج الإرهاب الاقتصادي ضد إيران وتسعى إلى تخويف كل من يرغب في السفر إلى إيران من مشاكل مستقبلية أو فرض عقوبات عليه بالاعتماد على الختم الذي يوضع على جوازات السياح الأجانب الزائرين”.
وعليه تأتي خطوة إلغاء تأشيرة الدخول للصينيين ردًا عمليًا على تلك العقوبات بحسب ما ذهب إليه متخصصون في الشأن الإيراني، إذ تبحث طهران عن زيادة معدلات السائحين الصينيين على وجه الخصوص والبالغ عددهم ما يقرب من 120 مليون سائح حول العالم، حصة إيران منهم لا تتجاوز 1700 فقط، وفق ما تشير بعض الإحصاءات خلال العام الماضي، مقارنة بما كان عليه الوضع قبل ذلك.
أحد محمدي، رئيس جمعية الصداقة الإيرانية الصينية، أشار إلى أنه “وفقًا لبيان سفير الصين في إيران عام 2017، فإن ما بين 112 و115 ألف إيراني سافروا إلى الصين، لكن معظم الصينيين من مجموعة 100 ألف شخص صيني جاؤوا إلى إيران، كان معظمهم من رجال الأعمال والمهندسين والفنيين”، مضيفًا “ما زلنا نأمل الحصول على حصة من نحو 120 مليون صيني يسافرون إلى الخارج كل عام”.
لم تكن الصين الدولة الوحيدة التي ألغت طهران تأشيرة الدخول لمواطنيها، فخلال السنوات الماضية تم إعفاء مواطني قرابة 7 دول من التأشيرة هي: تركيا ولبنان وأذربيجان وجورجيا وبوليفيا وسوريا ومصر، فيما تدرس السلطات الإيرانية برنامجًا لإعفاء مواطني 60 بلدًا حول العالم من تأشيرات الدخول لرفع العوائد السياحية لديها.
جدير بالذكر أن قطاع السياحة الإيرانية على مدار العقود الثلاث الأخيرة شهد تطورًا غير مسبوق، ساهم في وضع البلاد على قائمة الدول الأكثر جذبًا للسياحة في العالم، وهو ما تكشفه العديد من المؤشرات منها اختيار مدينة تبريز “شمال غرب” كعاصمة السياحة في العالم الإسلامي لعام 2018، كذلك مدينة همدان “شمال غرب” العاصمة السياحية في آسيا بعام 2018، فيما اختيرت مدينة مشهد “شرق” العاصمة الثقافية للعالم الإسلامي عام 2017.
تطور القطاع السياحي في طهران بصورة كبيرة خلال السنوات الماضية
مأزق الاقتصاد الإيراني
على مدار السنوات الماضية تلقى الاقتصاد الإيراني العديد من الضربات الموجعة التي انعكست على حياة المواطنين بصورة واضحة، حيث توقع البنك الدولي أن تشهد المنظومة الاقتصادية لطهران مسارًا تنازليًا على وقع تراجع الصادرات النفطية إلى نصف مستوياتها في 2017 – 2018 في أعقاب تطبيق العقوبات الأمريكية.
في أبريل الماضي، كشف مسؤول بالإدارة الأمريكية أن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران حرمت الحكومة الإيرانية من أكثر من 10 مليارات دولار من إيرادات النفط، حيث يمثل النفط أكبر مصدر للدخل بالنسبة للدولة الإسلامية، لكنه لا يشكل غالبية صادراتها.
منظمة “أوبك” في بيان لها أشارت إلى أن صادرات النفط الإيرانية سجلت 52.7 مليار دولار العام الماضي، وبلغ إجمالي صادراتها 110.8 مليار دولار، وبحسب بلومبرغ بلغ إجمالي الصادرات في مارس/آذار الماضي نحو 1.3 مليون برميل يوميًا، فيما كانت الشحنات تصل إلى 2.5 مليون برميل يوميًا في أبريل/نيسان العام الماضي، وذلك قبل إعادة واشنطن فرض العقوبات عليها مرة أخرى.
يذكر أن الناتج المحلي الإيراني كان قد بلغ 447.7 مليار دولار عام 2017، فيما تجاوز عدد سكانها 80.6 مليون نسمة، ويلعب القطاع الهيدروكربوني (النفط والغاز) وقطاعا الزراعة والخدمات دورًا بارزًا في الاقتصاد الذي يتسم كذلك بحضور ملحوظ للدولة التي تحتل المرتبة الثانية على مستوى العالم من حيث احتياطات الغاز الطبيعي والرابعة من حيث احتياطات النفط الخام المثبتة.
تراجعت قيمة العملة الإيرانية بصورة كبيرة خلال الفترة الأخيرة
ومع بدء تطبيق العقوبات الأمريكية الجديدة وتباطؤ صادرات البلاد من النفط، سجل معدل التضخم ارتفاعًا ملحوظًا، واضطرت الأسر إلى زيادة نفقاتها بنسبة 47.5% شهريًا مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، وتضررت الأسر الريفية على نحو خاص من جراء ارتفاع الأسعار.
فيما تجاوز معدل البطالة حاجز الـ12.1% في أبريل/نيسان – يونيو/حزيران 2018، وإن كان يمثل تحسنًا طفيفًا مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق (12.6%)، بينما انخفض فائض الحساب الجاري من 3.9% من إجمالي الناتج المحلي عام 2016 / 2017 إلى 3.5% من إجمالي الناتج المحلي في 2017 / 2018، مع بدء انخفاض إنتاج النفط الإيراني عام 2018.
وبحلول أغسطس/آب 2018، فقد الريال الإيراني 172% من قيمته على مدار 12 شهرًا، حيث ارتفع سعر الصرف إلى أكثر من 100 ألف ريال مقابل الدولار، فيما توقع البنك الدولي أن ينكمش الاقتصاد بنسبة 1.4% في المتوسط بين 2017 / 2018 – 2020 / 2021، إذ سيشهد تراجعًا في الصادرات والاستهلاك على جانب الطلب، وانكماشًا في القطاع الصناعي على جانب العرض.
وفي السياق ذاته تذهب التقديرات إلى أن انخفاض الصادرات النفطية سيؤدي تقريبًا إلى القضاء على فائض الحساب الجاري الذي يعد أقل من مستواه في فترة العقوبات السابقة، الأمر الذي سيضع المزيد من الضغوط على الاقتصاد الإيراني الذي يواجه مسارًا تنازليًا غير مسبوق.
يبدو أن فصول الحرب الباردة بين واشنطن وطهران ممتدة والستار لن يسدل في القريب العاجل، وهو ما دفع إيران للبحث عن بدائل جديدة تستطيع من خلالها التصدي لتلك المواجهات التي تعتمد في المقام الأول على سياسة النفس الطويل، لكن يبقى السؤال: هل ينجح الإيرانيون في خطتهم دون تقديم تنازلات سياسية؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.