ترجمة وتحرير: نون بوست
ضخّت المملكة العربية السعودية عشرات الملايين من الدولارات سنويا في الجامعات الأمريكية، انطلاقا من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ووصولا إلى جامعة شمال كنتاكي. فما الذي يستفيده حكام المملكة من هذه السياسة؟
ذات يوم ربيعي من السنة الماضية، تجمّع المحتجون على الرصيف بجانب شارع مزدحم في كامبريدج بولاية ماساتشوستس وأمام صرح يعد بمثابة البوابة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وكان من المتوقع أن يؤدي ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، زيارة لهذا المكان في اليوم التالي للاحتجاجات.
في المقابل، كان المتظاهرون، وهم مزيج من الطلاب ونشطاء السلام المحليين، يطالبون بإلغاء دعوة بن سلمان، حيث كانوا يُعارضون استقبال الأمير بصفته شخصية بارزة وشرفية وسعوا إلى لفت الانتباه إلى الروابط المالية بين الدولة السعودية ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وإلى ما لا يقل عن 62 جامعة أمريكية أخرى، في الوقت الذي أدان فيه نشطاء حقوق الإنسان قصف النظام السعودي للمدنيين في حرب اليمن وقمعها للمعارضين في الداخل.
في ذلك اليوم في كامبريدج، كانت من بين المتحدثين المُميزين على ذاك الرصيف، شيرين الأديمي البالغة من العمر 35 سنة، التي ولدت في اليمن وأمضت فيه جزءا من طفولتها، وحيث يعيش أقاربها تحت وطأة حرب أهلية. في الأثناء، لم تر الجامعات الأمريكية، التي تربطها معاملات مع السعوديين والتي تأتي إلى حد كبير في شكل أبحاث مدعومة بأموال قادمة من شركة النفط العملاقة السعودية “أرامكو” وغيرها من الصناعات المملوكة للدولة، أي سبب للتوقف عن تلقّي هذه الأموال، كما تم تجاهل الأصوات الوحيدة التي عارضت هذه العلاقات.
كانت مؤسسة الأمير الخاصة من بين الأعضاء البالغ عددهم تقريبا 90 عضوا. وقد وقّع السعوديون ثلاثة عقود في ذلك اليوم بقيمة إجمالية قدرها 23 مليون دولار
كانت الأديمي تعيش في مكان قريب مع زوجها في شقة يملكها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وكانت بصدد إنهاء درجة الدكتوراه في جامعة هارفرد وتتهيأ لأن تستلم قريبا وظيفة أستاذ مساعد في التعليم في ولاية ميشيغان. في الواقع، لم تنشط الأديمي سياسيا من قبل، حيث قالت: “إذا كان هناك أمر قد أتحدث فيه على الملأ، فقد كنت أظن أنه سيكون بشأن التعليم”. مع ذلك، بدأتْ الأديمي التحدث علنا ضد السلوك السعودي في اليمن من خلال مشاركة المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي ومراسلة السياسيين الأمريكيين.
من ثم دخلت الأديمي رفقة خمسة أشخاص آخرين إلى مبنى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لتُسلّم عريضة لرئيس الجامعة، رافائيل ريف، حيث وقّع عليها حوالي أربعة آلاف شخص يُطالبون فيها ريف بإلغاء زيارة الأمير. لكن رئيس الجامعة لم يكن في مكتبه ولم يتلق أصحاب العريضة أي رد. وفي صباح اليوم التالي، أمضى الأمير عدة ساعات في مختبر الوسائط التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الذي يتأتى القسم الأكبر من ميزانيته السنوية والبالغة 75 مليون دولار من رعاة الشركات الذين يُشار إليهم كأعضاء ويدفعون ما لا يقل عن 250 ألف دولار سنويا.
كانت مؤسسة الأمير الخاصة من بين الأعضاء البالغ عددهم تقريبا 90 عضوا. وقد وقّع السعوديون ثلاثة عقود في ذلك اليوم بقيمة إجمالية قدرها 23 مليون دولار، اثنان منهم لتوسيع مشاريع بحثية قائمة مع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. أما العقد الثالث فكان من أجل مبادرة جديدة بين الجامعة و”سابك”، الشركة السعودية للبتروكيماويات والمملوكة للدولة، للبحث في تكرير أكثر كفاءة للغاز الطبيعي.
في كانون الأول/ ديسمبر، سلط ليستر الضوء على النتائج الأولية التي توصل إليها في رسالة وجهها إلى ريف، والتي شاركها أيضا مع أعضاء هيئة التدريس والطلاب
في وقت لاحق من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أعلن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أنه كان بصدد مراجعة صلاته الممتدة بالمملكة، وقد كُلّف ريتشارد ليستر، وهو عميد مساعد يشرف على شراكات المعهد مع الكيانات الأجنبية، بهذه المهمة التي كانت تتمثل في اكتشاف ما إذا كان أحد مصادر المال غير مناسب لدرجة تبرر رفضه أو إعادته، والتي بالكاد تعد مهمة سهلة.
في كانون الأول/ ديسمبر، سلط ليستر الضوء على النتائج الأولية التي توصل إليها في رسالة وجهها إلى ريف، والتي شاركها أيضا مع أعضاء هيئة التدريس والطلاب. وقد كان على ليستر أن يعترف بحقيقة مزعجة، إذ أنه كتب: “أحد الأفراد المعروفين الآن بلعبهم دورا بارزا في مقتل خاشقجي في إسطنبول كان من بين الوفد المرافق لولي العهد محمد بن سلمان خلال زيارته للحرم الجامعي لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا”، في إشارة إلى ضابط المخابرات السعودي، ماهر عبد العزيز مطرب. وأضاف ليستر أن “هذا الشخص تعامل مع أعضاء من مجتمع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في ذلك الوقت، ما يعد تدخّلا غير مرحب به ومقلقا في مجالنا، حتى وإن كان من الجلي أن ما حدث في الماضي”.
من جهتها، أعادت منظمة “إنديفور” استثمارا بقيمة 400 مليون دولار قدمته لها المملكة العربية السعودية خلال هذه السنة، لكن العديد من الشركات الأمريكية حافظت على أعمالها مع المملكة. أما الناشطون في الحرم الجامعي، فأرادوا أن تتخذ جامعاتهم المزيد من الخطوات. وقد أنفق معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا حوالي 3.6 مليار دولار على عملياته خلال السنة الماضية، في حين أن الهبات التي تلقاها بلغت 16.5 مليار دولار ليحتل المرتبة السادسة على قائمة الجامعات الأمريكية من حيث قيمة الهبات. وتعتبر الأموال التي يتلقاها المعهد من مصادر سعودية متواضعة نسبيا، إذ أنها تقل عن 10 ملايين دولار على امتداد سنوات عديدة، على الرغم من أنه تلقى هدايا فردية من أصحاب المليارات السعوديين تصل قيمتها إلى 43 مليون دولار.
في سنة 2018، مثّل نصيب السعوديين البالغ عددهم 411 طالبا في جامعة شرق واشنطن أكثر من 12 بالمئة من إجمالي مداخيل الجامعة المُتأتية من الرسوم
تجدر الإشارة إلى أن القانون الفيدرالي يشترط على الجامعات في الولايات المتحدة الإبلاغ عن الإيرادات التي تتجاوز قيمتها 250 ألف دولار والمُتأتية من خارج البلاد، والتي تُسجّلها وزارة التعليم تحت ما يُعرف بتقرير الهبات الأجنبية. ويوضح هذا التقرير أن الأموال السعودية تتدفق إلى مختلف أنواع المدارس الأمريكية: من بينها نظراء معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا من النخبة على غرار “جامعة هارفارد” و”جامعة ييل”؛ والجامعات الحكومية الرائدة مثل “جامعة كاليفورنيا”؛ والمؤسسات التي تقع في المناطق المنتجة للنفط من قبيل “جامعة تكساس إيه آند إم”؛ والمدارس الحكومية على غرار “جامعة شرق واشنطن”.
بالنسبة للفئة الأخيرة من المدارس، تأتي الأموال السعودية بالكامل تقريبا في شكل رسوم دراسية كاملة لطلابها والتي عادة ما تكون ضعف ما يدفعه المقيمون في الولاية. والجدير بالذكر أن عدد سكان المملكة العربية السعودية يبلغ 34 مليون نسمة، وتحتل المرتبة 41 على قائمة الدول الأكثر اكتظاظا بالسكان في العالم. لكن، مع 44 ألف طالب في الولايات المتحدة، تعتبر المملكة رابع أكبر مصدر للطلاب الأجانب، بعد الصين والهند وكوريا الجنوبية فقط.
في سنة 2018، مثّل نصيب السعوديين البالغ عددهم 411 طالبا في جامعة شرق واشنطن أكثر من 12 بالمئة من إجمالي مداخيل الجامعة المُتأتية من الرسوم، بينما كانوا يشكلون 3 بالمئة فقط من مجموع الطلاب. من ناحية أخرى، لا يستقبل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الكثير من الطلاب السعوديين؛ ست طلاب في المرحلة الجامعية الأولى و27 طالبا من الدراسات العليا (من مجموع 11.600 طالب) سُجّلوا في سنة 2018. فضلا عن ذلك، تجمع ما لا يقل عن 25 جامعة عقود مع كل من أرامكو، وسابك، ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، علما بأن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا يعمل مع هذه الشركات الثلاث.
تظهر الفوائد التي ستعود على المملكة من هذه العلاقات جلية، إذ أنها تحصل على إمكانية الوصول إلى “التزام الدماغ” في أفضل المؤسسات الأكاديمية الأمريكية، بينما تسعى لتحديث اقتصادها في إطار جهود أطلق عليها الأمير محمد “رؤية 2030”
تركز العديد من الاتفاقيات على الجوانب التقنية لاستخراج ومعالجة النفط والغاز الطبيعي. ويعمل الاقتصاديون في كلية كينيدي بجامعة هارفارد مباشرة مع الحكومة السعودية لإعادة تصوّر سوق العمل في المملكة من أجل اليوم الذي ستكون فيه البلاد غير قادرة على الاعتماد بالقدر ذاته على عائدات النفط، علاوة على تقديم فرص أكبر للنساء والعمال الشباب.
تظهر الفوائد التي ستعود على المملكة من هذه العلاقات جلية، إذ أنها تحصل على إمكانية الوصول إلى “التزام الدماغ” في أفضل المؤسسات الأكاديمية الأمريكية، بينما تسعى لتحديث اقتصادها في إطار جهود أطلق عليها الأمير محمد “رؤية 2030”. وربما على القدر ذاته من الأهمية، يُساعد دخول مدارس من قبيل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا على تلميع صورة المملكة.
كما أن هناك طريقة أخرى لرؤية العلاقة السعودية مع الجامعات الأمريكية وهي كشكل من أشكال العلامات التجارية، حيث أن تحركاتها الأخيرة لرعاية الأحداث الرياضية البارزة تخدم الغرض ذاته، وهو ما عبّر عنه السفير السابق، روبرت جوردان بالقول: “إنها وسيلة لنشر القوة الناعمة، تماما مثلما فعلت الولايات المتحدة لسنوات في جميع أنحاء العالم”.
بين سنة 2012 و2018، ضخّت المملكة العربية السعودية حوالي 650 مليون دولار في الجامعات الأمريكية وحلت في المرتبة الثالثة على قائمة مصادر الأموال الأجنبية، بعد بريطانيا وقطر
يؤكد المسؤولون في الجامعات التي لها علاقات مع المملكة العربية السعودية على دورهم كنفوذ تحرّري. فعلى سبيل المثال، تساعد جامعة نيو هافن في تعليم ضباط إنفاذ القانون السعوديين. وقد تعرض البرنامج للتدقيق بسبب نظام القضاء الاستبدادي والقاسي المعروف في المملكة. ومن وجهة نظر المنتقدين، تبدو الجامعات وكأنها بصدد بيع أسماءها المعروفة. في هذا الصدد، قالت أستاذة الفلسفة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، سالي هاسلنغر، إن “اسم المعهد ونزاهته ومصداقيته وتميزه العلمي، كلها لها نفوذ، وقد استخدمناها لتلميع سمعة محمد بن سلمان ونظامه”.
بين سنة 2012 و2018، ضخّت المملكة العربية السعودية حوالي 650 مليون دولار في الجامعات الأمريكية وحلت في المرتبة الثالثة على قائمة مصادر الأموال الأجنبية، بعد بريطانيا وقطر. من جانبهم، يقول المسؤولون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إن إيرادات المعهد السنوية من عقودها مع أرامكو خلال السنوات الأخيرة لم تتجاوز عادة 10 ملايين دولار، وهو مبلغ زهيد بالنسبة للشركة النفطية التي تحقق عائدات تقارب المليار دولار يوميا. في الحقيقة، كان معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا يتصارع لوحده علنا مع ما يجب القيام به حيال علاقاته مع السعودية، ما أكسبه احتراما على مضض، حتى من جانب منتقديه.
في السياق ذاته، صارحني طالب سعودي في الولايات المتحدة، كنتُ قد طلبت إجراء مقابلة معه، بأنه لن يشارك في ذلك إلا إذا أخفيت هويته، حيث كتب لي في رسالة إلكترونية: “شكرا على التواصل، وأرجو عدم استخدام اسمي، أو أي معلومات وصفية في أي عمل منشور”. وعندما التقينا، قال إنه على عكس ما اعتبره بضع إصلاحات اقتصادية نحو الأمام تقودها الحكومة، “تسير حرية التعبير في الاتجاه الآخر، ولا يمكنك حتى المخاطرة بإبداء انتقادات معتدلة. وإذا كنت منتقدا صريحا، فإن المطاف قد ينتهي بك في السجن”.
كان ليستر قد علم أنه أيا كانت التوصيات التي سيقدمها لرئيس معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، رافائيل ريف، فهي ستُثير استياء البعض
في مكتب ريتشارد ليستر، أخبرت المسؤول بشأن اجتماع جمعني في اليوم السابق بمسؤول بارز في جامعة هارفارد. وقد قال لي ليستر إنه سيُسعده التحدث معي حول علاقة هارفارد بالمملكة العربية السعودية عندما أصل إلى كامبريدج. لكن، عندما جلسنا في مكتبه، أخبرني بخجل أنه لا يمكنني نقل كلامه مع ذكر اسمه، واعتذر قائلا إن التعليمات قد وصلته من شخص أعلى رتبة منه في الإدارة.
من ناحية أخرى، كان ليستر قد علم أنه أيا كانت التوصيات التي سيقدمها لرئيس معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، رافائيل ريف، فهي ستُثير استياء البعض. وفي تقريره الذي أعده في كانون الأول/ ديسمبر، أشار ليستر إلى أن المعهد كان على علم “بالقمع الداخلي والعدوان الخارجي” الذي تمارسه المملكة. لكن حتى وقت قريب، كان البعض لا يزال يعتقد أنها تسير على طريق التحول نحو مجتمع أكثر تقدما، مضيفا أن “قتل خاشقجي شوّه الكثير من هذه الآمال”.
أوصى ليستر بمواصلة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لعمله الآخر مع السعوديين، بما في ذلك الشركات المملوكة للدولة، وقد أعطت الجامعة أعضاء هيئة التدريس الذين يعملون كباحثين رئيسيين خيار إنهاء التعاونات. وخلص ليستر إلى أنه بالإمكان رسم خط ما وأنه حتى بعض الشركات الأكثر ارتباطا بالنظام السعودي كانت بمثابة مصادر تأثير اجتماعي معتدل، وذلك من خلال توظيف مهندسات ومديرات على سبيل المثال.
قبِل ريف بتوصيات ليستر، وقد ذكر في رسالته الفرق بين الحكومة السعودية والمواطنين السعوديين الذين عمل معهم معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وقد كتب ريف: “عند معرفة هؤلاء الأشخاص، يكون من المستحيل عدم رؤيتهم بشكل منفصل عن النظام الذي لم يختاروه ولا يستطيعون السيطرة عليه”.
المصدر: نيويورك تايمز