في تقريرها الصادر، يوم الإثنين، 1 يوليو 2019، حذّرت منظمة العمل الدولية من مغبة الإجهاد الحراري والذي قد يؤدي إلى خسائر فادحة في الاقتصاد العالمي؛ فوفقاً للإحصائيات الأخيرة التي أجرتها المنظمة، سوف ترتفع درجات الحرارة العالمية بمقدار 1.5 درجة مئوية وذلك مع حلول نهاية القرن الحادي والعشرين، فخلال عام 2030 على وجه التحديد سيضيع 2.2% من إجمالي ساعات العمل بجميع أنحاء العالم وذلك بسبب ارتفاع درجات الحرارة وهي خسارة تعادل حوالي 80 مليون وظيفة بدوام كامل، مما يعني خسائر في الاقتصاد العالمي قدره 2400 مليار دولار أمريكي.
ووفقاً لتقرير منظمة العمل الدولية فالإجهاد الحراري هو وصول درجات الحرارة إلى مستوى يتجاوز قدرة الجسم. يحدث هذا عادة حين تتخطى درجات الحرارة 35 درجة مئوية في مناخ عالي الرطوبة، وتشكل الحرارة الزائدة أثناء العمل خطراً كبيراً على الصحة المهنية خاصة في القطاع الزراعي الذي يعتبر الأكثر تضرراً من ارتفاع درجات الحرارة، حيث أن هناك أكثر من 940 مليون شخص حول العالم يعملون بالزراعة. وعليه، بحلول عام 2030، من المتوقع أن يخسر قطاع الزراعة حوالي 60% من إجمالي ساعات العمل.
من أهم الأنشطة البشرية التي تعزز من ارتفاع درجة حرارة الأرض حرق الوقود الأحفوري مثل منتجات النفط والفحم الحجري وكذلك إزالة الغابات وإنتاج الحديد
ويأتي تقرير المنظمة في ضوء موجة الحرارة غير المسبوقة التي اجتاحت العالم في الأسابيع القليلة الماضية، ففي فرنسا تجاوزت درجة الحرارة 40 درجة مئوية وفي إيطاليا سجلت 37 درجة مئوية وفي آخر شهر يونيو وصلت درجة الحرارة إلى 40 درجة مئوية في 11 مدينة في وسط وغرب إسبانيا كما اندلع حريق غابات في إقليم كتالونيا الإسباني بسبب ارتفاع درجات الحرارة وهو الذي وصفته السلطات بأنه الأسوأ منذ عشرين عاماً، وفي هذا السياق أكد باحثون من شبكة World Weather Attribution أن التغيرات المناخية هي السبب المباشر في موجات الحر التي اجتاحت العالم مؤخراً.
لماذا ترتفع درجة حرارة الأرض؟
بدأت القصة في عام 1824 حين قال الفيزيائي الفرنسي، جوزيف فورييه أن للدفئ أثر سلبياً على الأرض، وفي عام 1861 ذكر الفيزيائي الإيرلندي، جون تيندال أن غاز ثاني أكسيد الكربون سيسبب تغير في مناخ كوكب الأرض ليبتكر فيما بعد وخلال عام 1896 العالم السويدي سفانتى أرينيوس مصطلح “الاحتباس الحراري” حيث قال أن احتراق الوقود الحفري الذي بدأ مع انطلاق الثورة الصناعية الأولى سيزيد من نسبة ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي مما سيؤدي بالضرورة إلى زيادة درجات حرارة الأرض، واستنتج أرينيوس أنه في حال تضاعفت كمية ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي فإن الأرض ستشهد ارتفاعاً في درجات الحرارة بمعدل 4 إلى 5 درجة سلسيوس.
ومن أهم الأنشطة البشرية التي تعزز من ارتفاع درجة حرارة الأرض حرق الوقود الأحفوري مثل منتجات النفط والفحم الحجري وكذلك إزالة الغابات وإنتاج الحديد والصلب، وهناك أيضاً أنشطة أخرى مثل تربية الأبقار بشكل صناعي وتسمينها على نطاق واسع حيث تطلق الأبقار خلال زفيرها غاز الميثان الذي يدوم تأثيره في الجو 27 مرة ضعف أثر غاز ثاني أكسيد الكربون.
خلال عام 2009 تعهدت الدول الغنية بتقديم مئة مليار دولار سنوياً بداية من عام 2020 وذلك من أجل مساعدة الدول النامية على تمويل انتقالها إلى مجال الطاقة النظيفة لتتلائم مع انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري
وفي عام 2015 وقّعت 194 دولة على اتفاق باريس للمناخ، وبموجب هذا الاتفاق تعهدت تلك الدول بحصر ارتفاع درجة حرارة الأرض وإبقائها “دون درجتين مئويتين”، مقارنة بعصر ما قبل الثورة الصناعية، كما تعهدت أيضاً بمتابعة الجهود من أجل وقف ارتفاع درجة الحرارة عند 1,5 درجة مئوية وهذا يفرض تقلصاً شديداً لانبعاث غازي ثاني أكسيد الكربون والميثان كما يتطلب الحد من استهلاك الطاقة وإعادة تشجير الغابات والاستثمار في مجال الطاقة البديلة.
وخلال عام 2009 تعهدت الدول الغنية بتقديم مئة مليار دولار سنوياً بداية من عام 2020 وذلك من أجل مساعدة الدول النامية على تمويل انتقالها إلى مجال الطاقة النظيفة لتتلائم مع انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري باعتبارها أولى ضحايا الظاهرة.
كيف يؤثر الإجهاد الحراري على الاقتصاد العالمي
ذكرت رئيسة وحدة إدارة البحوث بمنظمة العمل الدولية وأحد محرري التقرير الرئيسيين، كاثرين ساغيت، أن تأثير الإجهاد الحراري على إنتاجية العمل خطير للغاية، إذ لا يقتصر الأمر على التكاليف الاقتصادية الباهظة لخسارة بعض الوظائف، ولكن الأمر يصل إلى تفاقم الفجوة بين البلاد ذات الدخل المنخفض والبلاد مرتفعة الدخل. فقد أفادت إحدى الدراسات الحديثة التي أجراها باحثون في جامعة ستانفورد بولاية كاليفورنيا الأمريكية، أن ارتفاع درجة حرارة الأرض أدى إلى تفاقم الفجوة بين الدول الأشد فقراً والدول الأكثر ثراءً حيث عرقل النمو في البلاد الأكثر فقراً بينما زاد من معدلات الرفاهية في البلاد الأكثر ثراءً. وتضرب الدراسة مثالاً لفرضيتها بدولة الهند حيث تقول إن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2010 كان أقل من معدلاته الطبيعية بنسبة 31% بسبب ارتفاع درجة الحرارة، وتصل النسبة إلى 25% في البرازيل.
رغم أن الدول الغنية لها دور كبير في حدوث التغيرات المناخية إلا أن الدول الفقيرة هي التي ستدفع التكلفة الباهظة في نهاية المطاف
التغيرات المناخية ستغير خريطة العالم في المستقبل
بمرور الوقت سيجبرنا التغيّر المناخي على إعادة التفكير في النظام الحضاري الحالي للحياة بما يتضمنه من شكل المباني وكذلك وسائل النقل والمواصلات، ولكن لن يتوقف الأمر عند هذا الحد، فمع الارتفاع الكبير في درجات حرارة الأرض ستظهر أسباب جديدة للحروب والنزاعات حول العالم، وذلك حين يجبر المناخ الشعوب على الهجرة من أوطانها الساحلية إلى أماكن أكثر أمناً وسيظهر حينها نوع مختلف من اللاجئين السياسيين الذي أجبروا على مغادرة بلادهم بسبب تحول التربة إلى أرض مالحة واختلاط المياه الجوفية بماء البحار، ومن هنا سوف تبدأ مظاهر الحياة في الاختفاء تدريجياً وستترك بعض الشعوب أوطانها لتعمل في بلاد أخرى في ظروف قد تكون غير مناسبة وسيظهر حينها نوع جديد من العبودية. حينها قد تكرر البشرية مأساتها حيث ستظهر الجماعات المسلحة وتشتعل الحروب ولكن هذه المرة ليس بسبب النفط أو المعادن أو الصراعات الدينية والإثنية ولكن الصراع سيكون على محاولة الاستيلاء على الأراضي الزراعية الصالحة.
وعليه فرغم أن الدول الغنية لها دور كبير في حدوث التغيرات المناخية إلا أن الدول الفقيرة هي التي ستدفع التكلفة الباهظة في نهاية المطاف، كونها الأقل إصداراً لغاز ثاني أكسيد الكربون مقارنة بدول نصف الكرة الشمالي الأكثراً ثراءً، ولكنها ستعاني من ارتفاع درجات الحرارة أكثر من الدول الغنية، فتقلبات الحرارة في الدولة الاستوائية الفقيرة وفقاً لدراسة نشرتها Science Advances، ستهدد الأمن الغذائي وتؤثر على الأنظمة البيولوجية وتهدد الكثير من الحيوانات بالانقراض.
وفي السياق نفسه حذر البنك الدولي في تقرير أعده من أن التغيرات المناخية تهدد بغرق 100 مليون شخص بالدول الفقيرة خلال عام 2030 وذلك بسبب ظاهرة ذوبان الجليد وحدوث الفيضانات ومع ارتفاع درجة حرارة الأرض وبسبب الإجهاد الحراري قد يموت أكثر من 702 مليون شخص بسبب أمراض التغير المناخي وهو الأمر الذي أكدته منظمة الصحة العالمية التي حذّرت من أنه وخلال الفترة الزمنية من 2030-2050 قد يتسبب الإجهاد الحراري في 250 ألف حالة وفاة سنوياً.