رغم السقوط التاريخي لنظام الأسد بعد نحو 14 عامًا من الثورة الشعبية ضده، إلا أن آثار حربه المدمرة تبدو أوسع من التوقعات، في ظل انهيار شبه تام في جميع مفاصل الحياة، بما يشمل البنية التحتية، إضافة إلى الاقتصاد المنهار، والمرافق الحيوية التي وصلت إلى وصف “البدائية”، في قطاعات الصحة والخدمات.
ويبدو التعليم من ضمن الملفات الأكثر إلحاحًا، على اعتبار أنه المؤشر الأهم في مسار تقدم الدول والشعوب، ولم يكن استثناءً في المشهد العام الذي تبدو فيه سوريا دولة، تبدأ “من الصفر”.
يعيش الواقع التعليمي في سوريا تحديات كبيرة وصعبة، قد تؤجّل دخوله في مرحلة التعافي وعودته إلى مرحلة ما قبل عام 2011، سنوات كثيرة، إذ لا يتوقف الأمر فقط على ما يمكن أن تقوم به حكومة تصريف الأعمال أو الحكومة الانتقالية بعدها، إنما يتعلق الأمر بارتباط ملف التعليم بمجمل الملفات المعقدة في المشهد السوري حاليًا. ويمكن إجمال هذه التحديات فيما يلي:
1- التسرُّب المدرسي الكبير
تختلف نسبة التسرب في صفوف الطلاب بين مناطق السيطرة التي توزعت قبل 8 ديسمبر/ كانون الأول على مناطق سيطرة الأسد، ومناطق شمال شرق سوريا، وشمال غرب سوريا.
ففي مناطق شمال غرب سوريا، بلغت أعداد الأطفال المتسرّبين من التعليم أكثر من 318 ألف طفل، بينهم 78 ألفًا داخل المخيمات، بحسب ما كشفه تقرير سابق لمنظمة “منسقو استجابة سوريا”، فيما أقرَّ وزير التربية في حكومة الأسد المخلوع دارم طباع، بأن نسبة التسرب المدرسي ارتفعت إلى 22% في مرحلة التعليم الإلزامي في عام 2022 فقط، وفي المجمل بلغ عدد الأطفال المتسربين من التعليم في عموم سوريا نحو 2.5 مليون.
وتتعدد الأسباب وراء تسرب هذا العدد المرعب من التعليم، وتحتل الظروف الاقتصادية رأس القائمة، إذ كانت مصاريف التدريس مرهقة بالنسبة إلى أهالي الطلاب، مع اضطرار عدد كبير منهم إلى إخراج أبنائهم من الدراسة وإدخالهم في سوق العمل، للمشاركة في تأمين مستلزمات المعيشة.
2- المدارس المدمَّرة
تعدّ نسبة الدمار العالية التي خلفتها الآلة الحربية لبشار الأسد وحلفائه، التحدي الأبرز في مرحلة ما بعد سقوط نظامه، إذ تحتاج إعادة إعمار الدمار في الأبنية السكنية والمرافق الحيوية مبلغًا يصل إلى 600 مليار دولار.
وبلغت نسبة المدارس المدمرة بشكل كلي أو جزئي، بنحو 29% من المدارس في عموم البلاد، بحسب تقرير نشرته الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان، مع تفاوت تلك النسبة بين مدن وأخرى، وهذا ما أثّر بشكل رئيسي في اكتظاظ المدارس التي نجت من التدمير في المدن والبلدات الآمنة، وأثّر على جودة التعليم في سوريا بشكل عام.
ورغم الاستثناءات التي أصدرتها الولايات المتحدة الأمريكي بشأن العقوبات على سوريا لفترة مؤقتة، إلا أن غموض الموقف الغربي والأمريكي في مسألة إزالتها نهائيا، وعدم الحديث عن مشاريع إعادة الإعمار قبل رفع تلك العقوبات، ستتواصل هذه العقبة أمام عودة العملية التعليمية إلى عافيتها، وربما تزداد أيضًا مع عودة مئات آلاف اللاجئين في الأشهر الستة القادمة على الأقل.
3- قلّة الكوادر التدريسية
ما عدا موجات اللجوء التي تتابعت في سوريا بين عامَي 2012 و2016، والتي نتج عنها خروج نحو 8 ملايين إلى دول الجوار وأوروبا ومصر وغيرها، سجّلت السنوات بين 2020 و2024 موجة جديدة رغم توقف المعارك الرئيسية في البلاد، وذلك بسبب وطأة الظروف الاقتصادية والمعيشية الخانقة.
وصدرت عدة تقارير في العام الماضي تفيد بحصول استنزاف متصاعد في أعداد المعلمين بالمدارس الحكومية، وتوجُّههم نحو الهجرة أو الاستقالة للتفرغ بالتعليم الخاص، مع وصول راتب المدرّس مؤخرًا إلى مبالغ لا تتعدى 25 دولارًا في أحسن الأحوال.
ورغم وعود الحكومة السورية الجديدة برفع نسبة الرواتب إلى 400%، سيبقى العمل بالنطاق الحكومي تحديًا صعبًا بالنسبة إلى المعلمين وغيرهم، في ظل ارتفاع أسعار المحروقات وغلاء أجور النقل.
وتضاف إلى قلّة الكوادر التدريسية مشكلة متفرعة عنها، وهي انخفاض مستويات الكثير من المعلمين والمدرّسين، لا سيما بعد العام 2015، مع الاعتماد بشكل كبير على معلمين غير مجازين، بسبب موجات الهجرة والاستقالة وحملات الاعتقال والتجنيد، ما أثّر بشكل سلبي على العملية التعليمية، التي أصبحت في كثير من المناطق والمدارس تقدَّم بنموذج “الحد الأدنى”.
4- اضطراب المناهج الدراسية
لم تخرج مناهج التعليم في سوريا عن الانقسام الذي كان سائدًا في مناطق السيطرة والنفوذ، إذ يمكن ملاحظة 4 مناهج كان التلاميذ والطلاب السوريون يدرسون من خلالها، أحدها لنظام الأسد البائد، والثاني لما يسمّى “الإدارة الذاتية” التابعة لميليشيات “قسد”، والآخران لحكومتي الإنقاذ والمؤقتة في شمال غرب سوريا.
ومع تولي حكومة الإنقاذ مهام حكومة الأسد المخلوع، تبرز اليوم عراقيل توحيد المناهج الدراسية وملف الشهادات التعليمية بين مختلف المناطق السورية، إذا لا تزال مناطق شمال شرق سوريا تحت نفوذ “قسد”، بينما تخضع مناطق ريف حلب ومنطقة “نبع السلام” (شمال الرقة والحسكة) للحكومة السورية المؤقتة التابعة للائتلاف الوطني.
وأثار قرار لوزارة التربية في الإدارة السورية الجديدة جدلًا واسعًا، بعد إجراء تعديلات “ليست جوهرية” في المنهاج السابق لحكومة الأسد، وتضمّنت التعديلات تغييرات طفيفة في بعض المواد، من أهمها إلغاء مادة “التربية الوطنية”، فيما انقسمت آراء السوريين بين من يرى أن إجراء تعديل في المناهج غير مناسب في منتصف العام الدراسي، وآخرين رحّبوا بهذه التعديلات.
وتطرح قصة تعدد المناهج داخل الخريطة السورية حاليًا إشكالية الاعتراف الرسمي بالشهادات الصادرة عن حكومات مناطق النفوذ، وقبل ذلك مستويات الامتحانات ومركزيتها، بالإضافة إلى جودة العملية التعليمية في كل منطقة.
5- اندماج الأطفال اللاجئين
ربما لا يشكّل هذا الملف عقبة في الوقت الحالي، باعتبار أن الكثير من السوريين في بلدان اللجوء، لا سيما في تركيا، ينتظرون نهاية العام الدراسي للمضيّ قدمًا في قرار اللجوء، غير أن المتوقع خلال عام على الأقل هو عودة مئات الآلاف من تركيا ودول الاتحاد الأوروبي، وهو ما يطرح إشكالية الاندماج في التعليم بسوريا، مع وجود حاجز اللغة الذي سيكون عائقًا خلال فترة زمنية ليست بالقليلة، وتكيُّف الطلاب والتلاميذ القادمين حديثًا.
يضاف إلى ذلك ما تطرحه عودة هذه الأعداد الكبيرة من ضغط على المرافق التعليمية التي تعاني أصلًا قبل سقوط الأسد، سواء بالعدد القليل لتلك المدارس، أو بالتجهيزات اللوجستية اللازمة لتنفيذ عملية تعليمية طبيعية.
فوفقًا لتقديرات منظمات تابعة للأمم المتحدة، لم تعد لدى المدارس في سوريا القدرة اللازمة على استيعاب الطلاب، كما تفتقر هذه المدارس إلى الحد الأدنى من شروط العملية التعليمية، وذلك بسبب اكتظاظ الطلاب داخل الفصول، ونقص الأثاث المدرسي واللوازم المدرسية، وندرة توفر المواد اللازمة للتدفئة والإنارة الجيدة، بالإضافة إلى تلف الحمّامات ومرافق الصرف الصحي.
وفي مجمل الأمر، فإن التعليم في سوريا -وفق التوقعات المنظورة- لن يستردَّ عافيته خلال وقت قريب، لأنه كبقية البنى الأساسية في البلاد، تعرض لتدمير بنيوي وإنساني ومنهجي كبير، ويضغط الوضع الاقتصادي السيّئ باتجاه بقائه حاليًا في وضع من الإنهاك الكبير، الأمر الذي يدفع الميسورين من السوريين باتجاه التعليم الخاص رغم ارتفاع أجوره، فيما تحاول بقية الفئات التكيُّف مع الأمر الواقع.