في 6 يناير/كانون الثاني، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية إصدار رخصة عامة جديدة فيما تتعلق بالعقوبات المفروضة على سوريا، تتيح إجراء معاملات مع المؤسسات الحكومية السورية وبعض معاملات الطاقة. وتشمل هذه الرخصة تسهيلات مالية، أبرزها السماح بتحويل الأموال الشخصية إلى سوريا، بما في ذلك عبر البنك المركزي السوري، في خطوة تهدف إلى تخفيف القيود على العمليات المالية للأفراد والمؤسسات.
وخلال الأسابيع الماضية دعت حكومة تصريف الأعمال السورية إلى رفع العقوبات التي أثقلت كاهل البلاد على مدى سنوات، مؤكدة أن مبررات فرضها قد زالت مع سقوط نظام بشار الأسد، وأن رفعها ضروري لبدء مسيرة إعادة الإعمار وإنعاش اقتصاد البلاد المنهك.
على الجانب الشعبي، استقبل السوريون هذا الإعلان بأمل انفراجة اقتصادية تسمح بتحسُّن الأوضاع المعيشية، واستعادة بعض مظاهر الاستقرار التي فقدتها البلاد، وفتح آفاق جديدة للتجارة والعمل بعد سنوات من الركود الاقتصادي.
في هذا السياق، يستعرض التقرير التالي تاريخ العقوبات المفروضة على سوريا، من جذورها في السبعينيات، مرورًا بتوسعها في عام 2011، وصولًا إلى تفاصيل الإعفاءات الأخيرة وأثرها على الاقتصاد السوري.
العقوبات الأمريكية ما قبل عام 2011
(1979-1989): بدأت العقوبات الأمريكية على سوريا رسميًا في ديسمبر/ كانون الأول 1979، عندما أُدرجت البلاد ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب، وجاء هذا التصنيف بعد دعم دمشق المعلن لفصائل المقاومة الفلسطينية و”حزب الله” اللبناني، ونتج عنه فرض حظر شامل على صادرات الأسلحة والمبيعات الدفاعية لسوريا. كما شملت العقوبات قيودًا على تصدير المواد ذات الاستخدام المزدوج (المدني والعسكري).
(1986-1999): تعززت العقوبات ضد سوريا مرة أخرى عام 1986، عبر قانون مكافحة الإرهاب الأمريكي، الذي استهدف بشكل خاص البنية المالية والتجارية للبلاد. نتيجة لاستمرار سوريا في توفير ملاذ آمن ومساعدات عسكرية لـ”حزب الله” اللبناني والفصائل الفلسطينية، مثل حركتي حماس والجهاد الإسلامي، التي صنّفتها الولايات المتحدة كمنظمات إرهابية.
(2003-2010): أقرّت إدارة الرئيس جورج بوش الابن عام 2003 مجموعة عقوبات سُمّيت بقانون “محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية”، وبدأ تطبيقه رسميًا في مايو/ أيار 2004 باعتبار سوريا تشكل تهديدًا للاستقرار الإقليمي.
شمل القانون منع الشركات الأمريكية من العمل أو الاستثمار داخل سوريا، كما تضمن تقييد سفر المواطنين الأمريكيين على متن الطائرات السورية، وخفض مستوى العلاقات الدبلوماسية، وفرض قيود على حركة الدبلوماسيين السوريين في الولايات المتحدة.
إلى جانب تسمية 20 مواطنًا سوريًا وشركات سورية بعينها، حُظر عليهم النفاذ إلى النظام المالي الأمريكي على خلفية تورطهم في أنشطة إرهابية تزعزع استقرار العراق ولبنان، وقد تم تجديد هذا القانون مرة أخرى من قبل إدارة الرئيس باراك أوباما في مايو/ أيار 2010.
في عام 2006، توسعت العقوبات مرة أخرى بموجب القانون الوطني الأمريكي لتشمل القطاع المصرفي السوري، حيث استهدفت بشكل مباشر البنك التجاري السوري، وحظرت كافة أنواع التعاملات المالية بين البنوك الأمريكية والبنك التجاري السوري، وقد تم تجديد هذا القانون مرة أخرى من قبل إدارة الرئيس باراك أوباما في مايو/ أيار 2010.
العقوبات الأمريكية بعد الثورة
مع اندلاع الثورة وما تلاها من تصاعد للعنف، لجأت الولايات المتحدة ودول أوروبية وعربية إلى فرض سلسلة من العقوبات المتزايدة التي توسعت في أشكالها وأهدافها مع مرور السنوات.
كان من أبرز هذه العقوبات “قانون قيصر”، الذي أقرته الولايات المتحدة وبدأت تطبيقه في عام 2020، إلى جانب “قانون مكافحة الكبتاغون 1 و2” الذي هدف بشكل رئيسي إلى زيادة الضغط على الأسد ونظامه وفرض عزلة اقتصادية شاملة عليه.
ويمكن تصنيف الجهات المستهدفة بالعقوبات منذ عام 2011 إلى مجموعتين رئيسيتين: المجموعة الأولى تضم الجهات المستهدفة بشكل مباشر، مثل الجهات الأمنية والعسكرية، مؤسسات ومسؤولين حكوميين، قطاع الطاقة والنفط، قطاع المصارف والمؤسسات المالية، تجّار الحرب والأفراد الداعمين للنظام ماليًا، شركات وأفراد دوليين مرتبطين بالنظام السوري.
أما المجموعة الثانية تتضمن الجهات المتأثرة بشكل غير مباشر، مثل المؤسسات الحكومية غير المشمولة بالعقوبات، قطاع الأعمال التقليدي غير المرتبط بالنظام، مؤسسات المجتمع المدني، المواطنين العاديين الذين تحملوا العبء الأكبر من الأزمات الاقتصادية الناتجة عن العقوبات.
ومرّت العقوبات المفروضة على سوريا بـ 3 مراحل متداخلة، اتسمت كل منها بهدف معيّن. بدأت المرحلة الأولى في ربيع 2011 بفرض عقوبات على شخصيات نافذة، وسرعان ما توسعت خلال الأشهر التالية لتشمل القطاعات الاقتصادية الأساسية بهدف الضغط على النظام لتغيير سلوكه.
تلتها مرحلة ثانية بين عامَي 2012 و2014، ركزت على استهداف الشركاء الدوليين للأسد، بما في ذلك البنوك والمؤسسات المالية، بهدف إسقاط نظامه. والمرحلة الثالثة هي المستمرة منذ عام 2014، توسعت لتشمل داعمي النظام الدوليين، مثل المؤسسات المالية الروسية، في محاولة لتعميق عزلته والضغط عليه سياسيًا.
قانونان خنقا الأسد
أيضًا يبرز قانوني قيصر ومكافحة الكبتاغون على رأس قائمة التشريعات الأمريكية في منظومة العقوبات المفروضة على سوريا بعد عام 2011:
قانون قيصر، الذي دخل حيز التنفيذ في يونيو/ حزيران 2020، يعدّ من أشد العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا. حيث صدر القرار ضمن إطار دعم حقوق الإنسان، مستهدفًا نظام الأسد البائد وحلفاءه الاقتصاديين والعسكريين.
وسُمّي القانون تيمنًا بـ”قيصر”، وهو الاسم المستعار للمصور العسكري السوري الذي لجأ إلى الغرب، حاملًا آلاف الصور التي توثق تعذيب مئات آلاف السوريين في سجون النظام. فيما لا يقتصر القانون على فترة زمنية محددة، ويشمل عقوبات واسعة على قطاعات حيوية، أبرزها حظر التعامل مع النظام في مشاريع إعادة الإعمار، واستهداف الكيانات الداعمة للأسد، بما فيها الروسية والإيرانية. وتكمن فعاليته في تعميق عزلة النظام وإضعاف موارده الاقتصادية.
أما قانون الكبتاغون، فقد أقرّه الكونغرس الأمريكي على مرحلتين، تمّ إدراج قسمه الأول في ديسمبر/ كانون الأول 2022، بينما تمّت الموافقة على المرحلة الثانية في أبريل/ نيسان 2024، لتعزيز التنفيذ عبر آليات عقوبات أكثر تفصيلًا.
يركز القانون بشكل خاص على مكافحة تجارة المخدرات التي يعتمد عليها النظام البائد كمصدر تمويل رئيسي، مستهدفًا شبكات إنتاج وتهريب الكبتاغون المتورّطة فيها شخصيات بارزة من النظام الأسدي السابق وميليشياته.
يسعى القانون لتجفيف مصادر التمويل غير القانونية عبر فرض عقوبات صارمة على الأفراد والكيانات المتورطة، ويعدّ جزءًا من استراتيجية أمريكية شاملة لتعزيز الأمن الإقليمي ومواجهة التهديدات الناجمة عن الأنشطة غير القانونية، خاصة في منطقة الشرق الأوسط.
هذا إلى جانب عشرات العقوبات الأوروبية والأممية الأخرى التي استهدفت قطاعات واسعة، وقوائم ضمّت شخصيات عديدة، ما يجعل من حصرها جميعًا أمرًا صعبًا. لكن مع سقوط النظام وبدء مرحلة سياسية جديدة، عبّر السوريون عن تطلعهم لبناء وطنهم من جديد، عبر دعوات لرفع العقوبات المفروضة على البلاد، وتخفيف الأعباء الاقتصادية التي تراكمت خلال سنوات الحكم الأسدي.
عن العقوبات الاقتصادية على نظام الأسد وضرورة رفعها بعد سقوطه
المرحلة الأولى: فترة حكم الأسد
فرضت العقوبات بسبب ممارسة الأسد انتهاكات وحشية، أي أنها فرضت بعد التأكد والتحقق من قيام الأسد بهذه الانتهاكات. كما أن العقوبات ترسل رسائل سياسية مهمة جدا.
بخلاف التصور العام، اعتقد أن…— Fadel Abdul Ghany (@FADELABDULGHANY) January 6, 2025
بوادر إزالة العقوبات
وفي استجابة لافتة، أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية أمس الاثنين، ترخيصًا عامًّا جديدًا، يحمل اسم GL 24، يهدف إلى السماح بمعاملات محددة مع المؤسسات الحاكمة في سوريا بعد 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، تمتد لمدة 6 أشهر قابلة للتمديد أو التعديل وفقًا لتطورات الوضع السياسي في سوريا.
وتهدف هذه الإجراءات إلى دعم الحكومة السورية الجديدة في مساعي إعادة الإعمار وتعزيز الاستقرار. تشمل الإعفاءات النقاط التالية:
- التعامل مع الحكومة السورية الجديدة: يسمح للشركات والأطراف الدولية بالتعاقد مع الوزارات والهيئات والمديريات الحكومية السورية، باستثناء وزارة الدفاع والاستخبارات.
- دعم الخدمات الحكومية: تتيح الرخصة تقديم الخدمات والمساعدات، بما في ذلك الهبات المخصصة لدفع رواتب الموظفين الحكوميين.
- قطاع الطاقة: تسمح الإعفاءات للشركات بالدخول لإصلاح شبكات الكهرباء ومحطات الطاقة، كما تغطي المعاملات المرتبطة ببيع أو توريد أو تخزين النفط، الغاز الطبيعي، والكهرباء داخل سوريا أو إليها.
- تحويلات شخصية: تشمل الإعفاءات تسهيل تحويل الأموال الشخصية غير التجارية إلى سوريا، بما في ذلك عبر البنك المركزي السوري.
- إجراءات استثنائية: تشترط الإعفاءات على الدول المانحة والشركات الراغبة بالمشاركة في برامج الطاقة الاتصال بوزارة الخارجية الأمريكية للحصول على موافقات إضافية (روتينية).
الخزانة الأمريكية تصدر الرخصة 24
السماح بالمعاملات مع المؤسسات الحاكمة في سوريا وبعض المعاملات المتعلقة بالطاقة والتحويلات الشخصية– المعاملات مع المؤسسات الحاكمة في سوريا بعد 8 ديسمبر 2024.
– المعاملات الداعمة لبيع أو توريد أو تخزين أو التبرع بالطاقة، بما في ذلك النفط والمنتجات… pic.twitter.com/WyNAKaExV7— Abdullah Almousa (@Abu_Orwa91) January 6, 2025
القطاعات المستثناة من الإعفاءات
- قطاع الاتصالات: لم تُرفع القيود عن شركات الاتصالات مثل سيريتل، بسبب الشكوك حول ملكيتها.
- المصرف المركزي وهيئة تحرير الشام: لا تشمل الإعفاءات المصرف المركزي أو المنظمات المدرجة ضمن قوائم العقوبات الأمريكية.
- الأفراد المدرجون على قوائم العقوبات: لم ترفع العقوبات عن أزلام النظام السابق وتجّاره المرتبطين بشبكاته الاقتصادية.
في هذا السياق، علّق الباحث والخبير الاقتصادي السوري كرم شعار عبر حسابه على منصة إكس بشأن رخصة “GL 24″، مشيرًا إلى أن “هذه التراخيص العامة غير كافية؛ فهي بالكاد تحقق أي تأثير. لا يوجد أي مبرر لبقاء سوريا تحت العقوبات التي فرضها النظام البائد، فضلًا عن فرض قيود جديدة على الحكومة المؤقتة الحالية أو أي حكومة مستقبلية”.
كما شدد شعار على أن أي قرارات تتعلق بالتعاون الاقتصادي في المستقبل، بالأخص مع دول مثل روسيا وإيران، يجب أن تكون قرارات سورية خالصة، بعيدة عن أي تدخل خارجي أو تأثير.
General licenses are not enough; they barely work, and there is absolutely no justification for Syria to remain under sanctions triggered by the ancien Assad regime.
Let alone adding new restrictions on the caretaker or the future interim government on who to engage with:… pic.twitter.com/AoE3Z2k55B
— Karam Shaar كرم شعار (@Karam__Shaar) January 7, 2025
تمثل هذه الإعفاءات بداية أمل جديد للسوريين في استعادة اقتصاد بلادهم والسعي نحو استقرار طال انتظاره، إذ سيساهم رفع العقوبات التدريجي في تمكين البنوك السورية واستئناف تعاملاتها الطبيعية مع العالم الخارجي، ما يفتح الباب أمام تسهيل عمليات التصدير والاستيراد، وتعزيز التجارة الدولية.
هذه الخطوات ستوفر مناخًا جاذبًا للاستثمارات الخارجية، ويشجّع على دخول رؤوس أموال جديدة، وزيادة الإنتاج، إلى جانب توفير فرص عمل واسعة النطاق.
كما أن عودة الإنتاج النفطي وزيادة الاستثمارات ستمنح الدولة مصادر دخل قوية تدعم ميزانيتها وتنعكس إيجابيًا على ملف إعادة الإعمار، الذي يعدّ من أكبر التحديات أمام الحكومة الجديدة، ويحتاج إلى بيئة اقتصادية ملائمة تستطيع استقطاب الموارد الدولية. ففي حال استمرت هذه التسهيلات بعد يوليو/ تموز المقبل، وتوسعت بشكل أكبر، فإنها قد تحقق انفراجة شاملة لكل السوريين.