لا يبدأ التحليل بيمين ولكن أقسم أن تعريف الفساد في تونس وتحديد موقعه معضلة تتجاوز مقدرات التصنيف القانوني والسوسيولوجي وتطرح معضلة معرفية فضلاً عن معضلات تتعلق بمصير الدولة التونسية نفسها. أين يسكن الفساد؟ بل أي قطاع أكثر فسادًا من البقية؟ هل الفساد في الحكومات أم في الشعب الكريم الذي يشكو من الفساد ويتهم به الحكومة ليغطي فساده الصغير ويبرره؟ حيرة وذهول مما نرى وخوف من المستقبل ولم يبق إلا أمل وحيد أن “يأكل” الفاسدون بعضهم بعضًا فتنجو بقية باقية ببقية وطن.
الفساد ليس جديدًا
الفساد لم يبدأ مع الثورة بل هو ميراث بن علي وحكوماته، بل ميراث في جسد الدولة منذ نشأتها غير أنه تعرّى للعيان بعد الثورة، وللمفارقة فإن أجهزة الإعلام التي نشأت في حقل الفساد تتهم المرحلة بإنشاء الفساد وتنزه ما قبل الثورة. هذا الإرث البغيض لم تجبه الثورة، فاستشرى كسرطان في جسم عليل بلا مقاومة.
وجب وضع نقاط على حروف محددة، حكومات ما بعد الثورة بدءًا بحكومة السيد الجبالي التي لم تتحل بالحزم الكافي لضرب رؤوس الفساد الموروث، قبل أن تنبت للفساد رؤوس أخرى، لقد تمت مجاملة كل القوى التي خدمت نظام بن علي تحت مسمى الحفاظ على الدولة من الانهيار وهي قوى فاسدة كانت لوهلة مرعوبة من الثورة ومما قد تفعل بها. فإذا هي حكومات طيبة أو غبية فلا فرق، فمد الفساد رجله حتى تحققت الخشية القديمة بانهيار الدولة، لقد اتخذت الحكومات السبيل الخطأ فجاملت الفساد بغية أن يصلح نفسه وربما انتظرت منه أن يعتذر بفروسية. هذه نقطة بداية أما المسارات فقد تجلت تباعًا.
يتسرب من التعليم العمومي كل سنة مئة ألف متعلم ويتعلل رجال التعليم بنقص التجهيزات، فيضربون من أجل زيادة في الأجور فإذا حصلوا عليها وقد حصلوا نسوا نقص التجهيزات وألحوا على الدروس الخصوصية
القطاع العام بؤرة فساد
يموت الأطفال في المشافي لنقص العناية ويتعلل الأطباء بنقص التجهيزات وهي حقيقة، لكن وراء الحقيقة توجد أخرى، فأعوان الصحة يسرقون الأدوات الطبية من القفازات الطبية المعقمة إلى أدوية السرطان المكلفة، وكلما انفجرت فضيحة دافعت النقابة عن منخرطيها لصوص الأدوية.
يتسرب من التعليم العمومي كل سنة مئة ألف متعلم ويتعلل رجال التعليم بنقص التجهيزات، فيضربون من أجل زيادة في الأجور فإذا حصلوا عليها – وقد حصلوا – نسوا نقص التجهيزات وألحوا على الدروس الخصوصية. أما في الجامعة فالنقابات حرمت الطلبة من دروسهم وامتحاناتهم تحت مسمى إصلاح الجامعة.
يمكن مواصلة تعداد هذه البؤر الفاسدة حتى يصير المقال المحدود كتابًا، لكن أحد عناوين حماية الفساد هي النقابات، حيث يواجه التونسيون عصابة فاسدة تحمي منافعها داخل القطاع العام، وتفرض مطالب مخالفة لكل الشرائع السارية من قبيل توريث الوظائف للخلف عند تقاعد الأصول.
لقد أخذت النقابة المؤسسات العمومية رهينة ومنعت كل إصلاح يمس منافع النقابيين خاصة، فقد وصل بها الأمر إلى إغلاق المطار من أجل حماية منظوريها من لصوص الحقائب، وسيكتب في غرائب الوقائع التونسية أن طياري الشركة الوطنية تركوا الطائرات باركة في المطارات حتى يتم إزالة التشابه في الأزياء بينهم وبين المضيفين، إذ يحط تشابه الأزياء من قدرهم، ولم ينتبهوا إلى أن دلالهم قد حول الناقلة الوطنية إلى شركة من أسوأ الشركات سمعة في مطارات العالم.
الفساد في تونس يشبه علبة الدمى الروسية، دمية تخفي أخرى داخلها، فإذا نظرت في الفساد الكبير الذي ترعاه الحكومات والنقابات تجد داخله فساد الإدارة وداخلها فساد الموظف الفرد
يوجد توزيع أدوار في مسرحية عبثية الحكومات التي تعرف فساد النقابات فتزيدها في غيها لتتخذها مبررًا في حماية الفاسدين، تواطؤ كامل مع الفساد ورفع الصوت في الإعلام بمقاومته أما نتائج هذه المؤامرة فيعيشها الناس في قاع المجتمع ولا يجدون منها منجاة فيقعون في الفساد الصغير.
لا يمكن إلا في حالات شاذة أن تحصل على منفعة من الإدارة دون دفع شيء ما للموظف الذي يتقن التسويف وإهدار وقت المواطن حتى يدفع، فقد ظهرت لفرط الفساد شركات خاصة تنجز معاملات المواطنين مع الإدارة بمقابل مالي، وهذه الشركات الغريبة تبني لها شبكة علاقات شكلية وغير شكلية مع موظفين في كل مكان فتنجز المعاملات وتحمل الكلفة على المواطن، فعلاج الفساد بفساد آخر والجميع يتحدث عن الشفافية والحوكمة الرشيدة. مسرح عبث يبلغ قمته في معاملات الجمارك بالموانئ.
الفساد في تونس يشبه علبة الدمى الروسية، دمية تخفي أخرى داخلها، فإذا نظرت في الفساد الكبير الذي ترعاه الحكومات والنقابات تجد داخله فساد الإدارة وداخلها فساد الموظف الفرد، والجميع يبرر للجميع فيحتار القانون وعلم الاجتماع أين الفساد؟ إنه في كل مكان، ومن الفاسد؟ الجميع فاسدون فمن للبلد وكيف يسير وهل أن البلد يتقدم؟
كل المؤشرات التي تتجمع الآن بين أيدينا توحي بأن مرحلة ما بعد انتخابات 2019 ستنتج حكومة فاسدين محترفين سيفرطون في الفساد حتى لن يبقى بيد الناس ما يخسرونه
هل تكون النجاة بالوصول إلى القاع؟
هذا المسار يؤدي إلى كارثة ونحن نراها في الأفق، ونقول لعل فيها خير، فنعتقد أن حالة انهيار المؤسسة العمومية الأسيرة عند النقابات سيكون بداية التحرر من العصابات النقابية، فالنقابي التونسي أكثر جبنًا من أن يرفع صوته في مؤسسة خاصة. لقد خبرناهم قبل الثورة وبعدها، ولا يخشى النقابات إلا متواطئ أو جبان بإطلاق، إذا سقطت النقابات سقطت حماية شبكات الفساد الصغير، فيقف الناس أمام فساد الحكومات وسيبادرونه بما ملكت أيديهم.
قد يكون هذا علاج بالكي ونعتقد أنه مرحلة ضرورية، فقد فشلت مقاومة الفساد بالديمقراطية، والفساد لا يصلح نفسه بنفسه، سيحمل الانهيار معه كثيرين وسيخسر كثيرون مكاسب شرعية ولكن كما في الحرب يسقط دومًا ضحايا أبرياء.
متى سيحصل الانهيار المفضي إلى النجاة؟ كل المؤشرات التي تتجمع الآن بين أيدينا توحي بأن مرحلة ما بعد انتخابات 2019 ستنتج حكومة فاسدين محترفين سيفرطون في الفساد حتى لن يبقى بيد الناس ما يخسرونه.