لا تصالح ولو منحوك الذهب، هكذا تعيش المعارضة الموريتانية التي رفضت فوز الجنرال محمد الغزواني بمنصب رئاسة الجمهورية، كما ترفض الاستسلام واعتبار النتائج أمرًا واقعًا، بعد اعتماد النتيجة من المجلس الدستوري الموريتاني، وما يزيد موقف المعارضة صلابة، تمسك المرشحين الأربع المحسوبين عليها، بالتشكيك الكامل في الانتخابات والتأكيد على ترسيتها بالقوة لصالح وزير الدفاع السابق.
من داخل المشهد.. ما الذي يحدث؟
يعاند مرشحو المعارضة الموريتانية ويرفضون النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية، رغم إقرارها من المجلس الدستوري والتأكيد على شرعية فوز محمد ولد الغزواني القائد العسكري ووزير الدفاع السابق الذي حصل على 52% من الأصوات، وتعهد بالسير على نهج الرئيس المنتهية ولايته محمد ولد عبد العزيز، وخاصة فيما يتعلق بالتركيز على ثنائية الاقتصاد والأمن.
المرشحون الأربع اعتبروا قرار المجلس الدستوري مخيبًا للآمال، لانتخابات يرونها مزورة ولا تعكس الإرادة الشعبية للناخبين، وحمّل بيان روج بكثافة ولا يزال بتوقيع كل من سيدي محمد ولد بوبكر وبيرام الداه أعبيد، ومحمد ولد مولود وكان حاميدو بابا، المجلس الدستوري فاتورة الأزمة السياسية المعقدة التي تعيشها البلاد، بعد تحول القضية من انتخابات وتنافس سياسي على المنصب الأول في البلاد، لأزمة اجتماعية عرقية خطيرة تهدد الوحدة الوطنية في موريتانيا.
كانت المحكمة الموريتانية قد صادقت على فوز محمد ولد الغزواني البالغ من العمر 62 عامًا ووزير الدفاع السابق، دون الحاجة إلى انتخابات جولة ثانية، بنسبة 52%، وبعدد أصوات بلغ 483007 من الأصوات، في الوقت الذي منح فيه المجلس، سيدي محمد ولد بوبكر، المدعوم من الإسلاميين 17.87%، وبيرام الداه عبيد نسبة 18.59%، ومحمد ولد مولود نسبة 2.44%، ومحمد الأمين المرتجي الوافي نسبة 0.40%، فيما حصل حاميدو بابا على نسبة 8.70% من الأصوات.
رصدت المعارضة جملة من المخالفات منها طرد ممثليهم من بعض مراكز الاقتراع ورفض طلب السماح بالمراقبة الأجنبية والإقليمية للانتخابات، بجانب منح صفقة طباعة بطاقات الاقتراع لمطبعة جديدة، لا خبرة لديها ويملكها رئيس منظمة أرباب العمل زين العابدين ولد الشيخ أحمد، وأحد أشهر الداعين لجمع تبرعات لحملة مرشح السلطة الفائز الآن، وهي جملة ملاحظات لم يأخذ بها القضاء، ويمضى في ترتيبات تسليم ولد الغزواني منصب الرئاسة، في الـ2 من أغسطس المقبل، خلفًا لمحمد ولد عبد العزيز، في أول تناوب للسلطة يحصل بين رئيسين منتخبين منذ استقلال البلاد عام 1960.
خيارات المعارضة
يحاول المرشحون الأربع الخاسرون، العمل بشكل مؤسسي لتشكيل قوة ضغط على الشارع والمؤسسات القضائية في آن واحد، وأولى القرارات التي توصلوا إليها، تشكيل لجنة من ممثلي لجان العمليات الانتخابية في حملاتهم، تكون مكلفة بدراسة الخروقات المسجلة، وعرضها على الرأي العام في البلاد، كما تلوح المعارضة بدراسة مدى إمكانية اللجوء إلى القضاء الدولي للطعن في نتائج الانتخابات، في نفس الوقت الذي تؤكد فيه، التزامها السلمية واحترام القانون وعدم الخضوع لأي استفزازت من شأنها جرها إلى أعمال غير محسوبة، بحسب بيان التكتل الرئاسي.
تعطي المعارضة لنفسها كل الخيارات المتاحة، لإثبات رفضها للنتائج، ولأجل ذلك تعمل على 3 محاور: القضاء المحلي والقضاء الدولي والتوعية الشعبية، كما بدأ التحالف في التنقيب عن قضايا أخرى، تمثل نقاط ضغط على النظام أمام المؤسسات الدولية مثل زيادة نسب سجناء الرأي والمعتقلين السياسيين وتحول العاصمة إلى ما يشبه الثكنة العسكرية، بسبب الأوضاع الاستثنائية التي ورثها النظام الحاليّ من خلفه ولد عبد العزيز.
التحول الديمقراطي.. من الستينيات وحتى الآن
مشهد معقد لا يختلف كثيرًا عن البلدان المجاورة وينطلق من نفس الأبعاد، هكذا هو الحال في موريتانيا، منذ استقلالها السياسي عن الاستعمار الفرنسي في بداية الستينيات، إذ اعتمدت على حكم سياسي يقوم على نظام الحزب الواحد، توحدت فيه كل الأحزاب السياسية التي كانت قائمة قبل الاستقلال، وحكم “حزب الشعب” الأوحد، 18 عامًا، واستمر في موقعه حتى أطيح به بانقلاب عسكري في العاشر من يوليو 1978، إثر أزمة كبيرة، بسبب المغامرة بالجيش في حرب الصحراء الغربية، دون أن تكون البلاد مهيأة للحرب بالأساس، ما أسفر عن خسائر كبيرة.
انقلاب السبعينيات هو الآخر لم يمنح البلاد الاستقرار المطلوب، إذ توالت الانقلابات العسكرية على البلاد، ولكن الجدير بالملاحظة فيها أن بعضها وتحديدًا 3 انقلابات حاولت ترسيخ الأرضية والمناخ الملائمين لتحول ديمقراطي تدريجي، بداية من انقلاب ولد الطائع عام 1984 الذي قاد عملية تحول ديمقراطي على مراحل متتالية، أولها عمل تعديلات دستورية تكرس التعددية الحزبية وتضمن الحريات الأساسية وفصل السلطات وإقامة مؤسسات ديمقراطية.
نظم ولد الطائع أول انتخابات بلدية وبرلمانية ورئاسية تعددية تعرفها البلاد، وبعد 3 جولات من التعامل على هذا النحو، بدأت الشكوك تحوم من جديد حول نزاهة الانتخابات، بسبب إجراءات استثنائية من ولد الطائع، للاستمرار بالسلطة ونزوعه إلى الاستبداد والتسلط وتورطه في ارتكاب خروقات جسيمة وانتهاكات في حقوق الإنسان، ليتم الإطاحة به في انقلاب عسكري عام 2005، نفذه العقيد علي ولد محمد فال، بعد أن خطط له على مدار 20 عامًا.
كانت واجهة الانقلاب الجديد، لتسويقه إلى المؤسسات العالمية، إعادة السلطة إلى المدنيين بعد فترة انتقالية، لا تزيد على 24 شهرًا، تم تقليصها فيما بعد إلى 18 شهرًا، وحتى تكتسب هذه الشعارات مصداقية، تم إجراء تعديل دستوري، يحصر مدة ترشح الرئيس في 5 سنوات قابلة للتجديد مرتين فقط، وأضيفت مادة جديدة للدستور تحصن وتعزز من هذه الفرضية الدستورية الجديدة.
انقلب على الرئيس عبد الله، وقاد الانقلاب وزير الدفاع محمد ولد عبد العزيز، ليتدخل المجتمع الدولي ممثلاً في الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية، لإبرام اتفاق داكار الذي طالب ولد عبد العزيز بالابتعاد عن الحكم وإنشاء لجنة وطنية للإشراف على تنظيم الانتخابات
وبالفعل أجريت انتخابات عام 2007، وشهدت حالة من التعددية، وفاز فيها سيدي ولد الشيخ عبد الله، ولم تعترض المعارضة آنذاك، بل أجمع الكل على نزاهة وشفافية العمليات الانتخابية، والمثير أن المعارضة نفسها التي أثنت على الإجراءات الشفافة، تحركت بعد نحو 15 شهرًا فقط من انتخاب عبد الله، لإزاحته عن السلطة بتهم عدة منها عدم الكفاءة وضعف الأداء، وسريعًا انعكست هذه الحالة من الاستقطاب على العلاقة بين الرئيس وقيادات الجيش، الذي تردد كثيرًا أنهم الذين أتوا به إلى السلطة بسبب خلفيته الغامضة وضعف تاريخه السياسي والأكاديمي على الساحة الوطنية.
غرقت البلاد في الاحتقانات السياسية، وتفاقمت الأوضاع الاقتصادية والأمنية، وعُطل عمل المؤسسات السياسية في البلاد، وظلت هكذا بين استقطاب واستقطاب مضاد حتى تحرك الجيش في 6 من أغسطس 2008، ليفض الصراع بين القوى السياسية الموريتانية، بعد تصادمات دامية، وانقلب على الرئيس عبد الله، وقاد الانقلاب وزير الدفاع محمد ولد عبد العزيز، ليتدخل المجتمع الدولي ممثلاً في الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية، لإبرام اتفاق داكار الذي طالب ولد عبد العزيز بالابتعاد عن الحكم وإنشاء لجنة وطنية للإشراف على تنظيم الانتخابات، برئاسة شخص من المعارضة، على أن يحق لمحمد ولد عبد العزيز، الترشح ضمن عدة مرشحين يتنافسون على الرئاسة.
في يوليو 2009 أجريت انتخابات رئاسية تعددية، شاركت فيها عدة أحزاب سياسية موريتانية، وتنافس خلالها تسعة مرشحين، منهم مستقلون ومنهم ممثلون عن الأحزاب السياسية الموجودة على الساحة، وبإشراف مراقبين دوليين ذوي خبرة ومصداقية متفق عليها، على رأسهم الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية والمنظمة العربية للديمقراطية والجمعية اللبنانية لديمقراطية الانتخابات، وغيرهم.
فاز محمد ولد عبد العزيز بنسبة 58،52% من أصوات الناخبين، ولم تظهر أي مؤسسة منافسة خروقات أو مظاهر مشينة في المشهد الانتخابي، واعترفت أحزاب المعارضة بنتائج الاقتراع، ولكنها لم تسلم الراية، وعادت لاتهام ولد عبد العزيز، بخرق بعض بنود اتفاق داكار، وعادت الاحتقانات من جديد ونشبت أزمة سياسية واجتماعية ومؤسسية بين النظام وبعض أطياف المعارضة التي لجأت لمقاطعة الانتخابات البلدية والبرلمانية في 2013، وكذلك الانتخابات الرئاسية التي تم إجراؤها 2014، ليشتعل الاحتقان والانسداد القائمين حاليًّا بالبلاد، بحسب الدكتور محمد الأمين رئيس شبكة الرقيب لمراقبة الانتخابات.
رغم تفرغ ولد عبد العزيز للهجوم على التيارات الإسلامية، فإن التيارات المدنية لم تثق به كثيرًا، وبدأت تلعب على أخطائه، في ظل التراجع الكبير للقدرة الشرائية للمواطنين
دخل ولد عبد العزيز في صراع صفري ضد الإسلاميين وحزب “تواصل” أكبر حزب إسلامي في البلاد، واتهمه باحتكار الإسلام، وبدا أن الرئيس السابق يتخذ موقفًا يتماشى مع المحور الرباعي العربي الساعي لاستئصال جذور الإسلام السياسي من المنطقة، فيما خاض “تواصل” الحرب هو الآخر، واعتبر هجوم ولد عبد العزيز عليه، منظمًا ويهدف لترسية السلطة عليه، واتهمه بالسعي لتعديل الدستور على مقاسه، للخلود في السلطة على جثث الإسلاميين.
اتهامات الإسلاميين نفاها الرئيس المنتهية ولايته، وأكد أنه لن يعدل الدستور من جديد، ولكنه استمر بالهجوم عليهم، وألمح إلى وجود ترتيبات لن تسمح لهم مستقبلاً بالعمل بالأريحية القديمة، ووضع أهدافًا عدة له ولخلفه في السلطة، تتمثل في مكافحة الفساد والأحزاب المحسوبة على الإسلام السياسي التي وصفها بالتطرف، ودعا لتحصين الدولة والمجتمع والدين منها.
ورغم تفرغ ولد عبد العزيز للهجوم على التيارات الإسلامية، فإن التيارات المدنية لم تثق به كثيرًا وبدأت تلعب على أخطائه، في ظل التراجع الكبير، للقدرة الشرائية للمواطنين والزيادة المفرطة في الدين العام الذي وصل إلى 100% من إجمالي الناتج المحلي، وكذبت المعارضة المدنية مؤشرات التنمية التي تعلنها الحكومة، وأكدت أن موريتانيا تسير إلى موضع خطير، يجعلها في أسفل السلم بالمنطقة على جميع المستويات، ليأتي الرئيس الجديد ويزيد الأزمة اشتعالاً بالطريقة التي وصل بها إلى السلطة ولا أحد يعلم إلى أي مصير ستؤول البلاد!