تواصل الإمارات نهجها المعتاد في القمع والانتهاكات ونسف أبجديات حقوق الإنسان، مستهدفة وبشكل ممنهج المعارضين وكل من يغرّد خارج السرب، في الداخل والخارج، من الإماراتيين وغير الإماراتيين، في توجُّه يعكس إصرارًا لا رجعة فيه على المضيّ قدمًا في هذا الدرب، رغم الانتقادات التي تتعرض لها الدولة الصغيرة من قبل المنظمات الحقوقية المحلية والإقليمية والدولية.
وبعد أن أنهت السلطات الإماراتية عام 2024 بسجلّ حقوقي مشين، مليء بعشرات الانتهاكات المتأرجحة بين إعادة محاكمة ناشطي الرأي والمطالبين بالإصلاح، وإصدار أحكام جائرة بحقهم، ودعم وتذكية للحروب الأهلية في الخارج، والتي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الضحايا، ها هي تستقبل العام الجديد بجريمة استثنائية، فريدة من نوعها، بطلها الشاعر المصري الحاصل على الجنسية التركية عبدالرحمن يوسف، نجل الداعية الراحل يوسف القرضاوي.
وكان الأمن اللبناني قد أوقف القرضاوي عقب عودته من سوريا حيث كان يشارك الثوار احتفالات الإطاحة بنظام الأسد، بموجب بلاغ الإنتربول الصادر عن مجلس وزراء الداخلية العرب، استنادًا إلى حكم غيابي صادر بحقه عن القضاء المصري بدعوى جرائم تتعلق بإذاعة أخبار كاذبة والتحريض على العنف والإرهاب.
وما أن تم الإعلان رسميًا عن توقيف الشاعر المصري في بيروت، والتحفظ عليه بحوزة الأمن اللبناني، دخلت أبوظبي مسرعة على خط الأزمة، عبر طلب تقدمت به للنيابة والحكومة اللبنانيتين لتسليم نجل القرضاوي لها، بزعم تعكيره للسلم الأهلي وتحريضه على العنف ضد الدولة الخليجية، خلال تسجيل مصور بثّه أثناء تواجده في سوريا قبل أن يحذفه لاحقًا بعد مناشدات أنصاره.
حالة من القلق خيّمت على الوسط الحقوقي العربي بعد انخراط الإمارات في تلك الأزمة، ومطالبتها بتسليم الناشط المصري لها لمحاكمته فوق أراضيها، وسط مناشدات للإفراج عنه دون شرط وعدم تسليمه لأي جهة ما، خاصة أنه يحمل الجنسية التركية، إذ طالبت نحو 30 منظمة حقوقية السلطات اللبنانية بإطلاق سراحه ووقف ما وصفوه بممارسات القمع العابرة للحدود.
لماذا تستهدف الإمارات نجل القرضاوي؟
معروف عن الإمارات عداؤها المطلق لكافة أنصار الفكر الثوري، الداعمين للحريات والحقوق واحترام إرادة الشعوب، المطالبين بالإطاحة بالأنظمة الديكتاتورية، فهؤلاء بالنسبة إليها مستهدفون بصرف النظر عن هوياتهم وجنسياتهم، وعليه يعدّ الشاعر والناشط المصري عبدالرحمن يوسف خصمًا مباشرًا للدولة الخليجية، حتى من دون سابق معرفة، فهو أحد أبناء ثورة يناير 2011 وابن من أبناء الربيع العربي.
وممّا زاد الخصومة المقطع الذي بثّه الشاعر المعتقل أثناء تواجده في سوريا، والذي شدَّ فيه من أزر الثوار وأصحاب المشروع الثوري، وطالبهم بالتوحد في مواجهة الأنظمة الديكتاتورية الساعية لإجهاض إرادة الشعوب وعلى رأسها الإمارات، وهو ما اعتبره أبناء زايد هجومًا وانتهاكًا وتعكيرًا للسلم الأهلي.
مناصبة العداء لنجل القرضاوي لم تكن بسبب هذا المقطع المحذوف فقط، بل تمتد إلى قبل سنوات مضت حين انتقد الدكتور يوسف القرضاوي بشكل علني إقدام الإمارات على سحب الجنسيات من الإصلاحيين الإماراتيين وطرد الثوار السوريين من أراضيها، ومنذ هذا اليوم تحمل السلطات الإماراتية عداءً استثنائيًا لعائلة القرضاوي بأكملها.
عاجل | النائب العام اللبناني يوصي بتسليم #عبدالرحمن_يوسف_القرضاوي إلى #الإمارات pic.twitter.com/il4vYkrtNt
— Abdelrahman.Fares (@abdofares) January 4, 2025
أبوظبي على خط الأزمة
تجاهُل السلطات اللبنانية للمناشدات الحقوقية المطالبة بالإفراج عن نجل القرضاوي في مقابل ما أعلن عنه النائب العام اللبناني جمال الحجار، بخصوص الطلب من مصر إرسال طلب استرداد مواطنها المعتقل لدراسته واتخاذ القرار بشأنه، مع تقديم الإمارات لنفس الطلب لمحاكمته فوق أراضيها، كل هذا أثار المخاوف بشأن احتمالية تسليم الناشط المصري إما للقاهرة وإما لأبوظبي.
وتشير التقديرات إلى أن الطلب الإماراتي ربما يكون أقوى رغم أن الناشط لا يحمل الجنسية الإماراتية ولا يحق لها تسلمه من دولة أخرى، فضلًا عن عدم وجود اتفاقية تسليم متبادلة بين الدولتين، الإمارات ولبنان، ويعزو البعض قوة الموقف الإماراتي إلى عدة أسباب أبرزها وجود معتقلين لبنانيين في الإمارات، ما يرجّح احتمالية إبرام صفقة ما تقضي بتسليم المعتقل المصري لأبوظبي، مقابل الإفراج عن المعتقلين اللبنانيين في السجون الإماراتية.
هذا بخلاف الإغراءات المالية التي من الممكن أن تقدمها الدولة النفطية لنظيرتها اللبنانية التي تعاني من أوضاع اقتصادية صعبة، تتطلب معجزة عاجلة للخروج من مأزقها الحالي، وهي الورقة التي تجيد أبوظبي استخدامها بشكل كبير لتحقيق أهدافها وتوسعة نفوذها الإقليمي والدولي، وهو ما يثير قلق الحقوقيين وعائلة القرضاوي التي حذّرت في بيان رسمي لها من تسليمه لأي دولة خارجية.
في حال تسليمه.. ما السيناريوهات؟
يستعرض الناشط والمعارض الإماراتي حمد الشامسي، السيناريوهات المحتمل أن يواجهها الناشط المصري الموقوف في لبنان، حال الاستجابة للطلب الإماراتي وتسليمه لها، مشيرًا في تغريدة له على حسابه على منصة إكس إلى 4 سيناريوهات رئيسية:
أولًا- الاحتجاز القسري: إذ ربما يتم إخفاؤه قسريًا لمدة تصل إلى 90 يومًا قابلة للتجديد في أحد السجون التي يديرها جهاز أمن الدولة وذلك وفقًا للمادة 28 من قانون جهاز أمن الدولة، وعادة ما يبدأ الاحتجاز في السجن الأسود السرّي بمقر الجهاز، وقد يتم نقله لاحقًا إلى السجن الأبيض في منطقة السويحان حسب احتياجات التحقيق.
ثانيًا- التعذيب والمعاملة القاسية: حيث يواجه المعتقلون في سجون أمن الدولة صورًا عدة للتعذيب والتنكيل والإجبار على الاعتراف بالتهم المنسوبة، هذا بخلاف الحبس الانفرادي ومنع التواصل مع الأهل والمحامين إلا عبر مكالمات محددة على فترات متباعدة، وتكون تحت المراقبة ومسجلة بالصوت والصورة.
ثالثًا- الإحالة إلى نيابة ومحكمة أمن الدولة: ثم تأتي الخطوة الثالثة حيث العرض على نيابة أمن الدولة، والاحتجاز في مقر السجن الأحمر قرب مقر النيابة، يعقبها الإحالة إلى محكمة أبوظبي الاتحادية للاستئناف للمحاكمة على قائمة مطولة من التهم الخاضعة في الغالب إلى قانون مكافحة الإرهاب الإماراتي، أو قانون الجرائم الإلكترونية، أو التعديلات الجديدة على قانون العقوبات الإماراتي.
بما أن قضية #عبدالرحمن_يوسف_القرضاوي وصلت إلى مجلس الوزراء اللبناني، بعد توصية النائب العام اللبناني بتسليمه إلى الإمارات، أود تسليط الضوء على ما قد يواجهه عبدالرحمن في الإمارات في حال تسليمه (لا سمح الله): pic.twitter.com/7e85wLL5XF
— حمد الشامسي (@Alshamsi789) January 4, 2025
رابعًا- السجن والمحاكمة: الحلقة الأخيرة في تلك السلسلة الإجرائية المطولة تكون من خلال العرض على المحكمة، حيث يحتجز معتقل الرأي غالبًا في سجن الوثبة سيّئ السمعة، وفي بعض الأوقات يتم نقله إلى سجن الرزين المخصص للمواطنين الإماراتيين، وبعد صدور الحكم يكون للمعتقل الحق في الاستئناف لمرة واحدة أمام المحكمة الاتحادية العليا.
ويرى المعارض الإماراتي أن أبوظبي بعد إصدار حكم الإدانة بحق القرضاوي وتعذيبه والتشفي منه أثناء حبسه داخل السجون طيلة فترة التقاضي، قد تسلمه لاحقًا إلى وطنه الأمّ مصر، والتي من المتوقع أن يتعرض داخلها إلى السيناريوهات ذاتها وربما أكثر قسوة، في ظل حالة التربص التي تحاك ضده منذ سنوات بسبب دواوينه وأشعاره التي انتقد فيها نظام السيسي.
مصير الرميثي والسويدي في حالة عدم التسليم
لم تقف تخوفات المعارض الإماراتي على ما يمكن أن يتعرض له نجل القرضاوي حال تسليمه للسلطات الإماراتية، فالمخاوف ذاتها قائمة وبشدة حتى إن لم يسلَّم، لافتًا أن دخول الإمارات على الخط وبهذه السرعة وبتلك الطريقة قد يجعل الوسائل الملتوية وغير القانونية ممكنة، ومن بينها اختطافه من الأراضي اللبنانية، كما حدث في حالتين سابقتين مع معارضَين إماراتيَّين.
الأول هو المعارض خلف الرميثي، الذي أوقفته السلطات الأردنية في مطار الملكة علياء بالعاصمة عمّان في 7 مايو/ أيار 2023، بناء على مذكرة إماراتية عبر الشرطة العربية، ورغم الإفراج عنه بكفالة وتأجيل جلسة النطق بالحكم إلى 21 من الشهر ذاته، إلا أن السلطات الإماراتية بمساعدة عناصر أمن أردنية اختطفته من أحد المقاهي في اليوم التالي لتوقيفه في المطار، واقتادته إلى مكان غير معلوم، ليفاجأ الجميع بترحيله إلى الأراضي الإماراتية في 12 من الشهر على متن طائرة خاصة، ليزجَّ به في السجون الإماراتية بصفته “إرهابيًا”.
أما الحالة الثانية فتعود للمعارض عبدالرحمن بن صبيح السويدي، الذي اختطفته عناصر من الأمن الإماراتي من إندونيسيا عام 2015، ونقله بطائرة خاصة إلى أبوظبي، رغم رفض القضاء الإندونيسي وقتها طلبًا قدمته الإمارات بشأن تسليمه إليها، وهي العملية التي أثارت ضجة حينها وكادت أن توتر العلاقات بين البلدَين.
إصرار ممنهج على القمع.. رسائل ترهيب عابرة للحدود
أنهت الإمارات العام المنقضي (2024) بسجل مشين من الانتهاكات المتعددة، حيث إعادة محاكمة ناشطي الرأي والمطالبين بالإصلاح في القضية المعروفة إعلاميًا بـ”الإمارات 84″، وتعرضهم للتعذيب والتنكيل بحسب التقارير الحقوقية، وفي النهاية إصدار أحكام جائرة بحقهم بالسجن لفترات تراوحت بين المؤبد (25 عامًا) والسجن 10-15 عامًا.
وأثارت تلك المحاكمات التي تفتقد لأبجديات النزاهة في التقاضي وتستهدف المدافعين عن حقوق الإنسان حفيظة المنظمات الحقوقية الدولية، حيث أكدت هيومن رايتس ووتش في تقريرها السنوي لعام 2024 أن أبوظبي لا يمكن أن تتسامح مع نشطاء حقوق الإنسان، فيما اتهمت منظمة العفو الدولية أبوظبي بأنها “تستهزئ بالعدالة” من خلال محاكمة “الإمارات 84”.
الاستهداف لم يقتصر على الإماراتيين فقط، بل طال كل من يفكر في الخروج عن النص داخل الدولة من غير أبنائها، كما حدث في مظاهرات العمالة البنغلادشية التي خرجت دعمًا للاحتجاجات المطالبة بإنهاء حكم الشيخة حسينة، حيث تعرض المشاركون فيها للقمع والتنكيل وبعضهم تمّ الزج بهم في السجون.
أما على المستوى الخارجي، فتواجه الإمارات اتهامات مباشرة من السودان بتأجيج الصراع في البلاد، من خلال تقديم كل أوجُه الدعم المادي والعسكري لميليشيات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، في مواجهة الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، وهي الحرب التي سقط فيها عشرات الآلاف ما بين قتيل وجريح، فضلًا عن تشريد الملايين ما بين النزوح الداخلي والخارجي.
🚨أكثر من 500 موقع يطالبون بالإفراج الفوري عن الشاعر #عبدالرحمن_يوسف_القرضاوي.
يجب على السلطات في #لبنان الامتناع عن تسليمه إلى #مصر، حيث سيكون عرضة لخطر شديد لانتهاكات #حقوق_الإنسان.
🔗🔽بياننا المشترك @EgyptianHRForum https://t.co/Rm9SE8hJcV
— MENA Rights Group | منَا لحقوق الإنسان (@MENA_Rights) January 6, 2025
الاتهامات ذاتها تتعرض لها الدولة الخليجية بسبب دعمها الكامل وتحالفها مع الكيان المحتل في حربه ضد الشعب الفلسطيني في غزة، حيث قدمت أبوظبي للمحتل حزم من الدعم غير المسبوقة، أجهضت بها كافة محاولات الضغط عليه، ما منحه أريحية كاملة في حرب الإبادة التي يشنها ضد الفلسطينيين في غزة والضفة ولبنان وسوريا واليمن.
ورغم الخزائن المفتوحة والمليارات التي تنفقها الدولة النفطية من أجل تجميل صورتها المشوهة، وترميم جدارها الحقوقي المثقوب، وتصدير لوحتها البراقة كبلد للتسامح والإنسانية، تبقى جرائمها الإنسانية سبّة في جبينها، وجريرة تلاحقها أينما ذُكر اسمها، وعار ينسف جهود سنوات طوال من البناء والتشييد.
وبصرف النظر عن مصير عبد الرحمن القرضاوي، سواء سُلّم للإمارات أو لمصر أو أُطلق سراحه، نجحت أبوظبي من خلال قمعها المستمر ومسلسل الانتهاكات متعدد الحلقات والأشكال والمسارات، في إيصال رسالتها عابرة الحدود، كاشفة عن قناعها الحقيقي في ترهيب واستهداف كل من يفكر في التغريد خارج السرب، إماراتيين أو أجانب، فلا أحد من معارضيها أو منتقديها ببعيد عن يدها الطولى، في ظل ما تمتلكه من نفوذ مالي يؤهّلها لشراء الكثير من الذمم والولاءات في الداخل والخارج.