أدرجت لجنة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للثقافة والتربية والعلوم (يونيسكو)، آثار مدينة بابل جنوب العراق، على لائحة التراث العالمي للمنظمة، شريطة إزالة المخلفات في مدة أقصاها شباط 2020، وذلك بعد تصويت أعضاء اللجنة بالإجماع في الاجتماع الذي عقد بالأمس في العاصمة الأذرية باكو.
وفي بيان صادر عن لجنة الثقافة والإعلام في البرلمان العراقي، قال: “رئيسة لجنة الثقافة والإعلام في البرلمان العراقي سميعة الغلاب، ونائب الرئيس حمد الله الركابي، والنائب علي الحميداوي، حضروا جلسة مناقشة ملف بابل، وإجراء التصويت في اجتماع الدورة الثالثة والأربعين الذي عقد أمس الجمعة”، مضيفًا أن التصويت كان بالإجماع.
إدراج أثار بابل ضمن قائمة التراث العالمي جاء ضمن القرار المتخذ خلال جلسة أمس المسائية وأدرجت فيه المنظمة خمسة مواقع جديدة، منها موقعان طبيعيان في فرنسا وآيسلندا، وموقع مختلط (طبيعي وثقافي) في البرازيل وموقعان ثقافيان في بركينا فاسو وفي العراق، واعتمدت اللجنة أيضًا تمديد موقع التراث الطبيعي والثقافي في منطقة أوخريد (ألبانيا/مقدونيا الشمالية).
جدير بالذكر أن مطالبات ضم آثار المدينة العراقية لقائمة المنظمة الأممية يعود إلى عدة سنوات مضت، ففي 2010 سعت وزارة الثقافة والسياحة والآثار العراقية لضم المدينة إلى لائحة التراث العالمي وإزالة كل العقبات أمام هذه الخطوة فيما دعا الرئيس العراقي برهم صالح، فبراير/شباط الماضي، اليونسكو، لوضع المدينة على قائمتها التراثية.
إمبراطورية ذات نفوذ
تعد الآثار التي تقدمها المدينة، على رأسها، الأسوار الداخلية والخارجية للمدينة والأبواب والقصور والمعابد، شهادة فريدة على واحدة من أكثر الإمبراطوريات نفوذًا في العالم القديم، حيث كانت بابل مقرًا لعدد من الإمبراطوريات المتعاقبة، بقيادة حكام مثل السلطان حمورابي أو الملك نبوخذ نصر، وفق ما ذكر الموقع الرسمي لـ”اليونسكو“.
وأضاف أن موقع بابل الأثري الذي يقع على بعد 85 كيلومترًا جنوبي بغداد، الذي يتكون من آثار المدينة التي كانت، بين عامي 626 و539 قبل الميلاد، مركز الإمبراطورية البابلية الحديثة، وذلك إلى جانب عدد من القرى والمناطق الزراعية المحيطة بالمدينة القديمة، يجسد إبداع الإمبراطورية البابلية الحديثة في أوجها.
علاوة على ذلك كان لارتباط المدينة بواحدة من عجائب الدنيا السبعة في العالم القديم – حدائق بابل المعلقة – تأثيرًا على أشكال الثقافة الفنية والشعبية والدينية على مستوى العالم، الأمر الذي كان دافعًا قويًا لاستجابة المنظمة الأممية لمطالب إدارجها على قائمة تراثها العالمي.
جولة واحدة للزوار للتجول عبر بقايا هياكل الطوب والطين التي تمتد عبر 10 كيلومترات مربعة ومشاهدة تمثال أسد بابل الشهير وكذلك أجزاء كبيرة من بوابة عشتار الأصلية، كفيلة أن تنقلهم إلى آفاق تاريخية أخرى، كاشفة العديد من الأسرار التي احتضنتها الحضارات القديمة.
جدير بالذكر أن آثار بابل ليست الوحيدة – عراقيًا – المدرجة على قائمة التراث العالمي، فهناك خمسة مواقع أخرى: منطقة الأهوار الجنوبية ومدينة الحضر وسامراء وأشور والقلعة في أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق.
بوابة عشتار
معالم ضاربة في عمق التاريخ
تتمتع المدينة العراقية بالعديد من المعالم الأثرية التي يعود بعضها إلى 26 قرنًا من الزمان، تلك المعالم الكفيلة أن تضع اسم بابل ليس ضمن قائمة التراث العالمي فحسب، بل على رأسها كذلك، لما يتوافر لها من مكانة تاريخية كبيرة ضاربة في أعماق عشرات الحضارات القديمة التي شهدتها تلك المنطقة.
ورغم تعدد تلك المعالم التي تحتضنها المدينة فإن هناك 5 منها فقط الأشهر عالميًا، كان لها دور بارز في إقناع لجنة اليونسكو بالموافقة، خاصة بعد الزيارة التي قام بها بعضهم للمدينة مؤخرًا للوقوف على مدى أهليتها لهذه الخطوة، ومن ثم جاء التصويت بالإجماع.
تأتي حدائق بابل المعلقة، إحدى المعالم البابلية التي عدت من عجائب الدنيا السبعة، وقد قام ببنائها الإمبراطور نبوخذ نصر (605 – 562 ق م) كما تقول الروايات إرضاءً لزوجته، وتقع بالقرب من منطقة الحلة القريبة من بابل
يتصدر تلك المواقع الأثرية العالمية، أسد بابل، وهو عبارة عن تمثال من الحجر لأسد يحاول افتراس شخص كناية عن العدو، يبلغ طول التمثال 2.6 متر وارتفاعه 11.95 متر، وقد بني هذا الأسد في عهد الحضارة الكلدانية، ثم بوابة عشتار، واحدة من البوابات الثمانية لمدينة بابل القديمة، بناها نبوخذ نصر عام 575 قبل الميلاد في شمال المدينة، وكان الهدف من بنائها إهداءً منه لعشتار إله البابليين، وتتميز هذه البوابة بسطوحها المزخرفة والمزينة بأشكال حيوانات خرافية شكلت من السيراميك والخزف الملون والنباتات النقشية.
ثم تأتي حدائق بابل المعلقة، إحدى المعالم البابلية التي عدت من عجائب الدنيا السبعة، وقد قام ببنائها الإمبراطور نبوخذ نصر (605 – 562 ق م) كما تقول الروايات إرضاءً لزوجته، وتقع بالقرب من منطقة الحلة القريبة من بابل، وقد صنعت هذه الحدائق بأيدي الرجال، وما يميزها أنّ المياه كانت تصعد إليها بطريقة ميكانيكة رائعة.
كذلك أسوار مدينة بابل، وهي أسوار محيطة بالمدينة يبلغ ارتفاعها 350 قدمًا وسمكها 87 قدمًا، وكان لهذه الأسوار مئة باب مصنوع من الذهب ولكل باب أسقف وقوائم مصنوعة من الذهب أيضًا، ثم المساجد، إذ يوجد في المدينة العديد من المساجد التاريخية والأثرية منها: مسجد الحلة الكبير ومسجد الإمام الحسين ومسجد الإمام علي وجامع الشيوخ وجامع الإسكندرية الكبير.
إمكانات سياحية هائلة لـ”بابل”
الإهمال.. علامة استفهام
إدراج آثار بابل على لائحة التراث العالمي لم يكن إدراجًا نهائيًا، إذ وضعت المنظمة شرطًا لإتمامه بصورة كاملة، وهو ضرورة إزالة المخلفات التي تعاني منها المدينة في مدة أقصاها فبراير 2020، ورغم أن اللجنة لم تحدد بعد ما المقصود بتلك المخلفات ولا طبيعتها، بات من الواضح أن الأمر يتطلب جهدًا لتلافي أي مظاهر سلبية تعيد اليونسكو عن قرارها.
تعاني المدينة من إهمال واضح، بعضه ربما يكون متعمدًا، لطمس الأهمية التاريخية لواحدة من أقدم مدن العالم، زاد بشكل ممنهج خلال العقدين الأخيرين، حيث تعرضت آثار البلدة إلى موجات من الإفساد والسرقة، تعززت بغياب الرقابة في وقت كانت تعاني فيه الدولة برمتها من أنظمة حكم رخوة.
ومع ظهور شبح تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” تعرضت المعالم الأثرية في بابل كغيرها من آلاف المواقع الأثرية العراقية لأضرار كبيرة على مدار 3 سنوات كاملة
تعود أعمال التنقيب عن آثار المدينة إلى أوائل القرن التاسع عشر على يد علماء آثار أوروبيين، وفي سبعينيات القرن العشرين وفي إطار مشروع ترميم، أعيد بناء جدران وأقواس القصر الجنوبي بشكل رديء فوق الآثار الموجودة، مما تسبب في أضرار واسعة، الأمر الذي كان بمثابة الصدمة للمهتمين بالشأن الأثري والتاريخي، العراقي والعربي والعالمي.
ومع الغزو الأمريكي للعراق في 2003 تفاقم الأمر بصورة مفجعة، لا سيما بعدما تمركزت القوات الأمريكية ومعها بعض القوات الأجنبية المشاركة معها في مقدمتها البولندية، بالقرب من الموقع الأثري، بل وصل الأمر إلى بناء قاعدة عسكرية أمريكية فوق آثار بابل، وهو ما تفضحه النقوش التي كتبها الجنود الأمريكيون على الطوب القديم.
ومع ظهور شبح تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” تعرضت المعالم الأثرية في بابل كغيرها من آلاف المواقع الأثرية العراقية لأضرار كبيرة على مدار 3 سنوات كاملة، فبعضها تم سرقته فيما تعرض الآخر للهدم والتشويه.
قرار اليونسكو رغم أنه مشروط، فإنه أضفى حالة من التفاؤل على سكان المدينة، إذ تقول مارينا الخفاجي وهي من السكان المحليين، إنها تأمل في أن يعزز هذا الإدراج السياحة والاقتصاد المحلي “هذا مهم للغاية، لأن بابل ستكون الآن موقعًا محميًا”، مضيفة في حديثها لـ”رويترز” أن هذه الخطوة تحتاج إلى تضافر كل الجهود لانتشال المدينة من الإهمال.
الأمر ذاته ذهب إليه مكي محمد فرهود (53 عامًا) وهو مرشد سياحي في الموقع منذ أكثر من 25 عامًا، إذ قال إن الإدراج سيسمح بإجراء مزيد من عمليات الاستكشاف والبحث، مشيرًا إلى أنه تم الكشف عن 18% منها فقط، مضيفًا “بابل هي الدم الذي يجري في عروقي، أحبها أكثر من حبي لأبنائي”.
وأضاف أن الموقع بحاجة ماسة للصيانة، فخلاف لثلاثة مواقع أخرى في العراق على قائمة التراث العالمي، لم تدرج اليونسكو بابل على أنها “في خطر” بعد اعتراضات من الوفد العراقي، وهو ما يضع الجميع أمام مسؤولياته لإعادة المدينة التاريخية إلى سابق عزها مرة أخرى.