إذا كنتم ممن لا يزالون يذكرون حقبة أغاني الحب التي اتسمت بالإخلاص والتفاني في عشق المحبوب بحال صده أو رضاه، عندما كان حتى العتاب لينًا ولا تخلو كلماته من الشغف، مثل قول أم كلثوم “أنت ما بينك وبين الحب دنيا ما تطولها ولا حتى فخيالك.. أما نفس الحب عندي حاجة تانية.. حاجة أغلى من حياتي وجمالك”، فلا بد أنكم ممن غادروا عمر الفتوة والشباب الباكر.
كانت رحلة طويلة من التطور شهدتها الأغنية العربية، ورغم أن البعض قد يجادل بأن الاسم الأنسب لهذه التغييرات هو الانحدار، إلا أنه وبالنظر عن قرب إلى هذه الرحلة، فقد لا نسلّم بأنها انحدرت فعلًا، إذ ربما تكون قد تماشت مع روح مجتمعاتنا وتطبعت معها، كما كانت مهمة الأغاني أو الأشعار دومًا منذ بدء التاريخ.
الأغنية العربية.. انحدار أم تماهٍ؟
لتسهيل عملية البحث عن إجابة هذا السؤال، يغطي هذا التقرير عينة واحدة من الأغاني العربية مع مقارنتها بالأغاني الغربية، وهي فئة الأغاني الشعبية أو ما يسمى بالـPop Music، كما يغطي شريحة عمرية واحدة لدراسة علاقتها بهذه الموسيقى، وهي فئة اليافعين من عمر 18 حتى 24.
الألحان
يلعب اللحن دورًا كبيرًا في جذب المستمع خلال الثواني الأولى للأغنية، ويشكل العنصر الأهم من الأغنية لدى كثير من المستمعين، فيأتي قبل الكلام وجودة صوت المغني حتى، أما عن تغير طبيعة الألحان بين الأمس والحاضر، فإذا أخبرتك والدتك يومًا ما بأن أغاني جيلنا تسبب الضجيج، لعلها على حق.
قامت شركة The Echo Nest المختصة بجمع البيانات الموسيقية بدراسة متوسط درجة الصوت لـ5000 أغنية من 1950 حتى 1990، حيث أكدت الدراسة ارتفاع واضح بدرجة الصوت على مر السنين.
إن تطور الحياة وزيادة الكثافة السكانية وغزو التكنولوجيا، أشياء من شأنها زيادة ضجيج حياتنا أكثر فأكثر مع مرور الزمن، مما يجعلنا نبحث عن شيء يضاهيها في الصخب لتحقيق التوازن النفسي
وليس المقصود هنا درجة الصوت التي نستطيع خفضها أو رفعها باليد، وإنما القصد الأجزاء المكونة للحن التي تتكون عادة من أقسام منخفضة وأقسام مرتفعة الصوت، ومع مرور الزمن، حرص المنتجون على رفع درجة صوت الأجزاء المنخفضة، ورفع بقية الأجزاء إلى ما يقارب الحد الأقصى. وفي دراسة أخرى أجرتها الشركة، وجدت أن الأغاني الحديثة مفعمة بالطاقة أكثر من الموسيقى القديمة، وتزداد هذه النسبة مع تقدم الزمن، والسبب في هذا يعود لكون المنتجون والقائمون على صناعة هذه الألحان، يعتقدون بأن هذا ما يبحث عنه جيل اليوم.
وقد ينطبق جميع ما ذكر على الأغنية العربية أيضًا، بالنظر إلى عوامل عدة منها تأثر الموسيقى العربية بالموسيقى الغربية خلال العقود القليلة الماضية وتأثير العولمة كما ورد بإحدى الدراسات الصادرة عن جامعة عجمان التي تتناول دور العولمة في تدجين الموسيقى والفيديوهات المصورة العربية.
ولعل السبب يعود في ذلك إلى اختلاف طبيعة الحياة العملية والاقتصادية في زماننا، فمع زيادة وطأة الحياة المادية، زادت المسؤوليات وكثرت الرغبات وارتفع سقف الأحلام، فامتدت أوقات الدوام وبعدت المسافات وولى زمن انتهاء يوم العمل مع غروب الشمس، ليجلس الرجال حول طاولة الشاي مستمتعين بساعتين من الغناء المتواصل الهادئ، حيث هنالك الكثير من الوقت، ومن الهدوء أيضًا!
إن تطور الحياة وزيادة الكثافة السكانية وغزو التكنولوجيا، أشياء من شأنها زيادة ضجيج حياتنا أكثر فأكثر مع مرور الزمن، مما يجعلنا نبحث عن شيء يضاهيها في الصخب لتحقيق التوازن النفسي، فجاء ضجيج الموسيقى الحديثة ردًا على تغير احتياجاتنا وأسلوب حياتنا.
ورد في دراسة للأستاذ علي الشرمان تحت عنوان “تأثير الموسيقى الغربية في الموسيقى والغناء العربي”، بعض التساؤلات عن تأثر موسيقانا العربية بالغرب خلال القرن الماضي
الحاجة إلى الموسيقى
إضافة إلى ذلك، اختلفت أوقات حاجة الفرد للأغنية، فلم تعد الأغنية تسمع بالضرورة بهدف تحريك العواطف والخيال، وإنما أصبحت تلبي حاجة الفرد الحديث بإعطائه جرعة من الطاقة خلال قيادة السيارة والتنقل بالمواصلات والحفلات والرياضة، إلخ. حيث يكون التركيز على الإيقاع المفعم بالحيوية والطاقة بغض النظر عن طبيعة الكلمات، ومن هنا نستطيع فهم ميول الكثير منا للاستمتاع ببعض الأغاني سرًا كونها تدرج تحت قائمة الأغاني الأكثر تفاهةً، إلا أنها تملك إيقاعًا جذابًا، وهذا كل ما نحن بحاجته في بعض الأوقات.
عصام الغائب طالب يدرس الطب في السويد، أشار في حديث لنون بوست، قائلاً: “الشيء الأول الذي يلفت انتباهي بأي أغنية هو اللحن، والكثير من الأغاني الحديثة هابطة وأنا أعترف بذلك، ولكنها ممتعة جدًا خلال تجمعات الأصدقاء وتساهم بإضفاء جو من الطاقة والرقص والضحك”.
وفي سياق مشابه، ورد في دراسة للأستاذ علي الشرمان تحت عنوان “تأثير الموسيقى الغربية في الموسيقى والغناء العربي”، بعض التساؤلات حول تأثر موسيقانا العربية بالغرب خلال القرن الماضي، حيث يتساءل الشرمان عما إذا كانت الأسباب هي التغييرات التي طرأت على اقتصاد المهن الموسيقية، والانتقال بالموسيقى من أدائها بالمناسبات الشعبية والوطنية إلى صالات العرض أو المسارح المغلقة أو المفتوحة، بالإضافة إلى توسع الجمهور المستهلك للموسيقى وسعيه للحصول على تجديدات موسيقية، وسعي المنتجين من جهة أخرى لتقديم ما يرغب به الجمهور.
ونرى اليوم توجهًا كبيرًا لدى الفنانين بإعادة توزيع الألحان التراثية بطريقة جديدة تتماشى مع العصر، ويعود السبب برأي الخبراء إلى الفراغ في الكلمات واللحن والأداء الفني بشكل عام في الوقت الحاليّ، فاتجه الشباب إلى الأغاني القديمة مجددًا لأن كلماتها وموضوعاتها ناجحة جدًا، لكن الجيل الجديد لا يستطيع الاستماع إليها بالألحان البطيئة من وجهة نظرهم، لذا يعيد توزيعها بألحان أسرع وآلات حديثة حتى يستطيع سماعها.
يهوى جيلنا الأنماط الجديدة من الموسيقى، وفي حال عدم وجود تأثير من التكنو والآر أند بي والهيب هوب على الموسيقى العربية تصبح بنظر معظم المستمعين الجدد قديمة ورجعية، وغير راقصة ومثيرة أو مناسبة للحفلات.
الحال في الأغاني الغربية ليس مختلفًا، إلا أنه أكثر وضوحًا نظرًا لأن تطور الأغنية الغربية يسبق الأغنية العربية بطبيعة الحال
الكلمات
الاستهلاكية والنفعية
“لا والله ما بيعك لرميك ببلاش”، هي أحد سطور أغنية لناصيف زيتون، وواحدة من أغاني أخرى كثيرة تعكس تصاعد وتيرة تلون مجتمعنا العربي عامةً بصبغة الرأسمالية والاستهلاكية، وإن كانت منطقتنا العربية ليست في صفوف كبرى الدول الاستهلاكية، إلا أن اللاعب الأكبر في هذا التأثر هو العولمة والغزو الثقافي الغربي لمجتمعاتنا.
يلاحظ دائما في أغانينا الحديثة التي تتناول موضوع جفاء أو سوء تعامل الحبيب وجود عنصر الوقت أو التوقيت، ففي عصر السرعة والمصالح، استثمارك لجزء من وقتك في علاقة ومن ثم عدم الحصول على فائدة يعد خسارة كبيرة، لقد انتهى زمن “وإن مسألتش فيا يبقى كفاية عليا.. عشت ليالي هنية بحلم بيك”، لم يعد هنالك متسع من الوقت لتضييعه بالمراهنة على حب غير مفيد، فجاءت كلمات وائل كفوري “بالوقت إلي أنتي تركتيني وعذبتيلي روحي.. كان غيرك عم يسهر بيداويني وعم يسهر ع جروحي.. غلطتي بالتوقيت”.
وفي هذه الكلمات مثال على ما جاء في كتاب الحب السائل لزيجمونت باومان “إنه عصر قطع الغيار، استبدال المنتج قبل نهاية فترة الضمان، وليس عصر فن إصلاح الأشياء، إنه عصر الفرصة القادمة التي تجعل ما في يدك قابلًا للتخلي عنه فلا ترتبط به بشدة، فقد لا يكون شريكك هو الآخر راغبًا أو قابلًا لعلاقة طويلة تحرمه بدوره من فرص أفضل”.
والحال في الأغاني الغربية ليس مختلفًا، إلا أنه أكثر وضوحًا نظرًا لأن تطور الأغنية الغربية يسبق الأغنية العربية بطبيعة الحال، فالنفعية أو المادية تتصدر مواضيع البعض من أكثر الأغاني شهرة، مثل better have my money لريهانا، Rich girl، Gold digger، وBills لديستني تشايلد التي تقول فيها صراحة ادفع لي فواتيري! وفي حالات أخرى غنى بعض الفنانين الأغاني التي تحاول مقاومة هذا التيار العنيف من المادية، مثل أغنية price tag لجيسي جي أو أغنية آدم لافين الشهيرة Locked away.
لقد غذت طبيعة الحياة الرأسمالية الميول النرجسية لدى الإنسان وتمحوره حول نفسه، ودفعته لوضع رغباته دائمًا أولًا.
يقول باومان في كتابه الحب السائل: “أنتجت الحداثة والرأسمالية إنسانها الذي يناسبها، وأنشأته لها الدولة عبر أدوات التربية والتثقيف على النفعية والتفكير النرجسي وفككت علاقاته وروابطه هيكيليًا عبر عقود بل قرون وبشكل منظم”.
سمة أخرى من سمات كلمات الأغنية العربية، فالباحث بين السطور الرومانسية، يستطيع إيجاد نفس ذكوري كما قد يسميه البعض، أو طبيعة الشاب الشرقي كما يسميه آخرون
ويضيف واصفًا ما سماه علاقات الجيب العلوي التي يتسم بها عصرنا: “لا بد من دخول العلاقة بوعي كامل ويقظة تامة. فلا شيء اسمه الحب من النظرة الأولى ولا وقوع في الحب، ولا تدفق مفاجئ للمشاعر يتركك تتنهد وتتأوه، فلا تنساق وراء مشاعرك، ولا تنجرف مع التيار، وإياك أن تنخلع من بين يديك، فلا تخطئ الغرض الحقيقي من تلك العلاقة، فالمصلحة هي غرضها الوحيد، والمصلحة تتطلب عقلًا ثاقبًا لا قلبًا طيبًا ولا ولهانًا”، و”إلي باعنا خسر دلعنا” كما يقول راغب علامة في إحدى أحدث أغانيه.
اشتداد اللهجة
يتسم زمن آبائنا بالدبلوماسية الاجتماعية عمومًا. مجددًا، إيقاع الحياة البطيء والهادئ لعب دورًا في ذلك، على عكس جيلنا الذي يلجأ يومًا بعد يوم إلى الصراحة والتعبير عن مكنونات النفس بشكل واضح ومباشر. هذه العوامل وعوامل أخرى أدت بشكل عام إلى اشتداد لهجة الخطاب في العتاب أو التوبيخ، حتى في الأغاني، فقال عبدالحليم حافظ وهو في أقصى حالات الغضب والانكسار: “يا معلمني الحب ياريتني.. ما تعلمته معاك ولا شفته”
بينما تغني أصالة نصري بلسان جيلنا العنيد منتقمة لكبريائنا المكسور “كبرتك على سيدك”، ومثلها شيرين حينما غنت “كتير خيري أني قابلته واستحملته”، أو نانسي عجرم حينما وضعت نقاطنا على الحروف “بدك تبقى فيك.. بدك تمشي فيك”، واضعة المسمار الأخير في نعش الزمن الذي غنت به أم كلثوم: “أنساك! ده كلام؟”.
الذكورية
سمة أخرى من سمات كلمات الأغنية العربية، فالباحث بين السطور الرومانسية، يستطيع إيجاد نفس ذكوري كما قد يسميه البعض، أو طبيعة الشاب الشرقي كما يسميه آخرون، ولم يوجد هذا النوع من الكلام وينتشر بمحض الصدفة، بل هو موجه لجمهور يهواه ويناسب ثقافته ونابع منه ومن أفكاره وتفضيلاته في المقام الأول، فيغني تامر حسني “أنا إلي قول فين وأمتى وأنا إلي اختار”، وتظهر معه فتاة مبتسمة لسماع هذه الكلمات وغيرها في أثناء الفيديو المصور، وسعادتها تعكس شريحة كبيرة من الفتيات الشرقيات اللواتي يحبذن سطوة الرجل عليهن ويجدن في ذلك أنوثتهن.
والدليل على ذلك أغاني الجنس الآخر المتداولة جدًا، التي تركز بدورها على رغبة الفتاة بالتماهي في هوية المحبوب بشكل أو بآخر، أو بالاحتماء به، مثل إحدى أغاني المطربة يارا التي تقول بها “هاسمع كلامه وتحت أمره في اللي يقولي عليه” و”بعد النهارده محدش غيره ليه عليا كلام”، وهي كلمات تطرب آذان الذكور والإناث وتعكس تطلعات ورغبات كلا الطرفين، وتعتبر شكل من أشكال حضور ثقافتنا العربية في الغناء المعاصر.
يتوقع أن تشهد الأغنية العربية تطورًا أكبر بهذا الاتجاه، وفي غضون سنين قليلة سنستمع إلى الأغاني ذات المعاني “الماجنة” في المحلات والحفلات ولن تلفت انتباه أحد
قد يجادل البعض بأن هذه الكلمات ترسخ بعض المفاهيم المجحفة بحق المرأة، بينما يجد آخرون أنها جزء من حقيقتنا وعاداتنا وتقاليدنا وهويتنا الشرقية.
ويعلق عصام الغائب في حديثه معنا على هذه النقطة: “مجددًا، أرى للإيقاع الشبابي الراقص دورًا كبيرًا في انتشار هذا النوع من الكلمات بالدرجة الأولى، بالإضافة لوجود شريحة كبيرة بالمجتمع وخصوصًا من عمر المراهقة، تهوى سماع هذا النوع من الأغاني. ترى الفتاة بهذا النمط رجل أو “عنتر” ومجنون بالحب، بينما نراه نحن ذكوري، وعلى الجهة الأخرى هنالك أيضًا شباب يهوى تقمص هذه الشخصية الذكورية وتلعب دورها في الحياة اليومية فعلًا”.
تعابير خارجة
ما تشهده الأغنية الغربية اليوم من إباحية واضحة بالكلمات والفيديوهات المصورة، هو تطور حصل على مدار سنين وأيام، ففي بادئ الأمر كانت التلميحات والصور المجازية، كما هو حال الأغنية العربية منذ سنين حتى الآن، وقد أوضحت دراسة نشرها موقع The Omnivore أن الألفاظ الجنسية تصاعد استخدامها بالصورة التي نشهدها اليوم فقط بدءًا من التسعينيات.
ويتوقع أن تشهد الأغنية العربية تطورًا أكبر بهذا الاتجاه، وفي غضون سنين قليلة سنستمع إلى الأغاني ذات المعاني “الماجنة” في المحلات والحفلات ولن تلفت انتباه أحد.
وقد ساعدت وسائل التواصل الاجتماعية على انتشار أغاني تطرفت كلماتها إلى حد أبعد بكثير من الأمثلة السابقة، حيث لم يعد للرقابة أي دور يذكر في زمن يتيح لأي شخص تسجيل ما يحلو له بمعدات بسيطة في غرفته الخاصة، موزعًا ما أنتجه في اليوم التالي للعالم كله عبر منصاته الإلكترونية، ومحققًا أرقام مشاهدات هائلة.
إن اختفاء دور الرقابة الفنية أو الأخلاقية تدريجيًا بسبب انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بشكل رئيسي بالإضافة إلى عوامل أخرى، لعبت دورًا كبيرًا بصعود هذا النوع من الأغاني في مجتمعنا، أضف إلى ذلك عنصر الصدمة الذي يستغله الكثير من المنتجين وصانعي المحتوى نظرًا لفاعليته الكبيرة بالانتشار وتحقيق الكثير من المشاهدات وبالتالي الكثير من الأرباح، بالإضافة إلى جمهور يبحث بشكل مستمر عن صيغ كلامية أعنف تلائم توتره المتصاعد، وإن كان هذا الشكل من الغناء ما زال غير مألوف حاليًّا، لكنه بلا شك لن يبقى كذلك في السنين القليلة القادمة.