رغم أهميتها التأريخية والتوعوية والدور المحوري التي تقوم به في صناعة عقول الأمة وتوثيق تاريخها وحضارتها وتسليط الضوء على أبرز المحطات والأحداث التي تمر بها الدولة، فإن السينما الوثائقية ما زالت تعاني من تهميش واضح، في ظل تسليط الأضواء كاملة على الأفلام الروائية.
المعادلة الربحية التي تهيمن على عقول وتحركات منتجي الأفلام في العالم العربي كانت على رأس الأسباب التي أدت إلى تراجع حجم إنتاج الأفلام الوثائقية، استنادًا إلى نظرية “الجمهور عاوز كده”، هذا بخلاف العديد من الأسباب الأخرى التي عززت هذا التراجع رغم تبعاته السلبية على العقلية المجتمعية.
تفسيرات عدة بشأن هوية المسؤول عما وصل إليه الفيلم الوثائقي في الوطن العربي، وتقاذف متبادل للاتهامات بين مؤسسات الدولة الرسمية والقطاع الخاص، وأيًا كان نصيب كل منهما في المسؤولية إلا أن النتيجة واحدة، الأمر الذي دفع بعض المثقفين والمهتمين بالشأن السينمائي لدق ناقوس الخطر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سينما قادرة على استلهام الهمم وتجييش العقول ثقافيًا.
أهمية الفيلم الوثائقي
يلعب الفيلم الوثائقي على المستوى العربي دورًا مهمًا في حياة الشعوب، ويستند في تلك الأهمية إلى شقين، حسبما ذهب المخرج أسعد طه، صاحب شركة (Hot Spot Films) للإنتاج السينمائي الوثائقي، الشق الأول، مهني، فالفيلم الوثائقي فن ليس للعرب فيه باع طويل، ولهذا عليهم الاهتمام به والتسلح بأدواته الكثيرة والمختلفة.
أما الشق الثاني كما يشير المخرج الذي أنتج ما يقرب من 300 عمل وثائقي غطى بهم عشرات القضايا في أكثر من 50 دولة، فهو الشق التأريخي، إذ يتعلق العمل باللحظة التاريخية كعرب، مضيفًا في حوار صحفي له “لدينا مشكلة في التاريخ، فنحتاج إلى تأريخ جديد للأحداث ورصد تبعاتها في كل القضايا، فيجب أن لا ينحصر التعامل مع الوقائع العربية في برامج “التوك شو” فقط، بل نريد أن نرى الواقع بطريقة أخرى، خصوصًا لو اقتنعنا أن الفيلم الوثائقي هو رؤية شخصية من الفنان للواقع، عندها نكون بحاجة إلى رؤية وجهات نظر كثيرة لعناصر كثيرة في الواقع”.
رغم ما يمثله ضعف التمويل من عقبة مهمة في طريق السينما الوثائقية في العالم العربي مقارنة بالروائية، فإن بعض النقاد ذهبوا إلى أن هذا العنصر ليس الوحيد في ضعف الإنتاج الوثائقي
أما عن مسألة الجمهور وكونه العقبة في تراجع أهمية الفيلم الوثائقي عربيًا، أشار المخرج أنه على العكس من ذلك، فقد مل الجمهور من الخطابة والمباشرة التي لا يعرف سواها، كاشفًا أنه يحتاج إلى الرؤية والمعرفة، “فما يقدمه التليفزيون من أخبار عما يجري في العراق لا يجعلنا نرى العراق حقيقة، بل هو مجرد كلام، وما نراه من صور هي مبتورة وغير مكتملة، وهنا يأتي الفيلم الوثائقي ليلعب دورًا في توضيح الصورة حتى تظهر ملامحها ويعرف المشاهد من المقاوم ومن الإرهابي، من يمتلك مشروعًا، ومن يقف خلف التفجيرات في الأسواق، من هم السنة ومن هم الشيعة وما الفرق بينهما”.
المخرج السينمائي أسعد طه
تهميش لحساب الأفلام الروائية
“أحمّل القنوات التلفزية العربية العامة والخاصة المسؤولية كاملة على تهميش الفيلم الوثائقي وعدم برمجته على حساب أفلام روائية تفسد ذوقه ولا تفيده في شيء”.. هكذا علق الخبير اللبناني في إنتاج الأفلام الوثائقية جون شمعون على الوضع المتدني للسينما الوثائقية عربيًا.
شمعون أكد أن هناك عدم احترام للفيلم الوثائقي في العالم العربي وعدم تعويد للمشاهد العربي على هذه النوعية من الأفلام، رغم اهتمامه عن قرب بواقع الإنسان وهمومه، وفق تصريحاته لـ”الجزيرة“، مقارنًا بين وضعية الفيلم الوثائقي في الغرب وعند العرب قائلاً: “الفرق شاسع وكبير، إنهم يقدرون هذه النوعية ويهتمون بها لأنها صادقة أكثر ومخلصة للواقع وتعالج مواضيع حقيقية تنطلق من الإنسان وتتفاعل معه”، مضيفًا أن تعامل المنتجين العرب مع الفيلم الوثائقي ما زال في “مرحلة متأخرة”.
فيما ذهب مخرج الأفلام الوثائقية محمد إقبال إلى أن من بين الأسباب وراء تراجع السينما الوثقائقية أنها لا تعرض في قاعات السينما على غرار الأفلام الروائية، وبالتالي لا تحظى باهتمام المنتجين والممولين، كاشفًا “ليس هناك سوق للأفلام الوثائقية العربية، ما زلنا نعيش فترة التعويل على الآخر، وأعني هنا الدبلجة عن القنوات الأجنبية، التي لها الجرأة والخبرة الكافيتان حتى تمرر وجهة نظرها الخاصة التي قد لا تنطبق مع الواقع والعقلية العربيين”، وهو الرأي ذاته الذي ذهب إليه منتج الأفلام الوثائقية والروائية التونسي لطفي لعيوني.
أما عن دور غياب الثقافة الوثائقية في إنتاج هذه النوعية من الأفلام، أشار محمد بلحاج المختص في إخراج الأفلام الوثائقية أن منتج الوثائقي العربي ومتلقيه على حد سواء ليس لديهما ثقافة الوثائقي، لأنهما تعودا على ثقافة الكلام وهي الصفة الأولى للفيلم الوثائقي، لافتًا إلى أن “الوثائقي صورة تعبر عن نفسها والكلام تكملة للصورة لا أكثر”، حسب بلحاج الذي أضاف أن شعار الفيلم الوثائقي هو باختصار شديد “صورة أحسن من ألف كلمة”.
وأضاف أن أغلب المخرجين العرب ليست لهم دراية بتقنيات الفيلم الوثائقي التي تختلف كليًا عن الفيلم الروائي، “هناك خلط كبير بين الاثنين، وجهل أيضًا بمدرسة الإخراج الوثائقي الذي هو بكل بساطة إجابة عن سؤال “متى، أين وكيف أصطاد الصورة؟”.
هناك العديد من العوامل التي أثرت بشكل أو بآخر على خريطة الإنتاج الوثائقي العربي بجانب أزمة التمويل والمنتج الفني، منها عدم وجود الكفاءات الفنية المؤهلة لإنتاج مثل هذه الأعمال
التمويل ليس التحدي الوحيد
رغم ما يمثله ضعف التمويل من عقبة مهمة في طريق السينما الوثائقية في العالم العربي مقارنة بالروائية، فإن بعض النقاد ذهبوا إلى أن هذا العنصر ليس الوحيد في ضعف الإنتاج الوثائقي، كما ذهب الناقد السينمائي عبد الكريم قادري، الذي أشار إلى أنه من الصعب تقسيم الأعمال الفنية الوثائقية إلى إنتاج باذخ وآخر فقير، والتعويل على ذلك في جودة العمل نفسه.
قادري كشف في مقال له أن بعض عناوين الأفلام الوثائقية التي حققت نجاحًا كبيرًا كانت متقشفة ماديًا، ومع ذلك لاقت تقديرًا لم تحققه غيرها من الأفلام ذات الإنتاج الكبير، وقد جسّد هذا فيلم “عن الآباء والأبناء” (2018)، وهو إنتاج مشترك بين سوريا وألمانيا ولبنان للمخرج السوري طلال ديركي.
وأضاف أن هذا العمل استطاع أن يُنجَز بميزانية ضعيفة، لكنه في المقابل حقق العديد من الانتصارات على المستوى العالمي، آخرها وصوله إلى القائمة القصيرة لجوائز الأوسكار لعام 2018 من بين 15 فيلمًا وصلوا إلى القائمة القصيرة، ومن قبلها حصوله على جائزة لجنة التحكيم لمهرجان صندانس السينمائي، كما شارك وفاز بعشرات الجوائز العالمية وأهمها في العالم العربي والشرق الأوسط مشاركته في المسابقة الرسمية بمهرجان الجونة السينمائي (عقد من 20 إلى 28 من سبتمبر/تشرين الأول 2018)، وحصوله على جائزة نجمة الجونة الذهبية لأفضل فيلم وثائقي عربي.
تراجع ملحوظ للأفلام الوثائقية العربية في المهرجانات الدولية
علاوة على ذلك فهناك أفلام أخرى كثيرة من هذا القبيل منها، فيلم “المرجوحة” 2018 الذي أخرجه وكتب له السيناريو وأنتجه وقام بمونتاجه أيضًا سيريل عريس، وقد شارك الفيلم في العديد من المهرجانات العالمية أهمها مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي ومهرجان الجونة السينمائي، وهذا ضمن المسابقة الرسمية، وبوسعنا أن نقول إن هذا الفيلم أُنتج بميزانية منعدمة تمامًا تقريبًا.
وفي الناحية الأخرى هناك العديد من الأعمال السينمائية التي يطلق عليها “الباذخة” في إشارة لضخامة إنتاجها، إلا أنها تنتهي بمجرد عرضها الرسمي الأول، في مقدمتهما فيلم “على آثار المحتشدات” (2018) الذي كتب له السيناريو وأخرجه السعيد عولمي، وهو إنتاج جزائري شاركت في دعمه العديد من المؤسسات الرسمية أبرزها مؤسسة التليفزيون الجزائري الرسمي، ورغم الإمكانات الكبيرة التي توافرت للفيلم فإنه يبقى مجهولاً في نظر الكثيرين، لأنه لم يتعد خريطة الجزائر رغم البذخ المالي الذي حظي به.
كذلك فيلم المُخرج سليم عقار “معركة الجزائر”، وقد تلقى هو الآخر دعمًا رسميًا لكنه لم يحقق أي جدوى فنية، ومع ذلك لم يحقق العمل أي إنجاز يذكر على أرض الجماهيرية أو التقدير، محلي كان أو دولي، رغم ما قيل عن إنتاجه الذي شاركت فيه مؤسسات الدولة.
وفي السياق ذاته فهناك العديد من العوامل التي أثرت بشكل أو بآخر على خريطة الإنتاج الوثائقي العربي بجانب أزمة التمويل والمنتج الفني، منها عدم وجود الكفاءات الفنية المؤهلة لإنتاج مثل هذه الأعمال، الأمر الذي ينعكس على المستوى العام للعمل، كلك ندرة المصادر الموثقة، ففي المنطقة العربية لا يوجد لديك مصادر تعتمد عليها بأرقام أو إحصاءات، وللتحايل على ذلك كان المخرجون يتجنبون طرح المعلومة في بعض الموضوعات، بل يعرضون المسألة من خلال الحكاية أو من منظور اجتماعي.