شهدت السنوات الأخيرة قفزات سريعة وتطورات مخيفة في مجال أبحاث الذكاء الاصطناعي، إذ أصبحت كل مجالات الحياة تقريبًا مؤتمتة بالكامل، وقلما تجد منحى من النواحي لم تطله يد التكنولوجيا، ومما لا شك فيه أن الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيات الجديدة أحدثت تغييرات هائلة، إيجابية وسلبية على حدٍ سواء، ومن المؤكد أن يكون لها تأثيرات بعيدة المدى على حياتنا اليومية وعملنا وأمننا وحتى قيمنا.
ويمكن القول إن الذكاء الاصطناعي هو أخطر تحدٍ واجهته البشرية على الإطلاق، لأنه سيؤدي إلى اضطرابات اجتماعية هائلة على المدى الطويل.
أبرز تهديدات الذكاء الاصطناعي المعلنة والخفية
عندما يسمع الناس العاديون عن تهديد الذكاء الاصطناعي للبشرية، فإنهم يفكرون عادة في مسألتين: فقدان الوظائف الهائل، واستبدال البشر كليًا بالروبوتات، حيث المستقبل المجهول الذي تهيمن علينا الخوارزميات تمامًا وتتحكم بنا.
في الوقت الذي تتقلص فيه قدرة الحكومات على الارتقاء إلى مستوى توقعات مواطنيها، تكتسب الشركات قوة هائلة، ليس فقط من حيث المال ولكن، والأهم من ذلك “البيانات”
لكن هنالك تهديدات أخرى يتجاهلها أو يجهلها الناس إلى حدٍ كبير، لأن معظم وسائل الإعلام تركز على التحدي الأول (فقدان الوظائف)، بينما صناع أفلام الأكشن في هوليوود يركزون على المستقبل البعيد حيث (تكون الروبوتات محل البشر)، على أن هنالك مشكلة أخرى أشد خطورة من المشكلتين السابقتين ولم يتم تناولها كما تستحق، ألا وهي مشكلة “احتكار الذكاء الاصطناعي”، ويقصد به: تحكم عمالقة التكنولوجيا ومنتجي الذكاء الاصطناعي بمستقبل الأمم والدول، وصناعة نظام اجتماعي واقتصادي بما يلائم سياستها وتطلعاتها.
في الوقت الذي تتقلص فيه قدرة الحكومات على الارتقاء إلى مستوى توقعات مواطنيها، تكتسب الشركات قوة هائلة، ليس فقط من حيث المال ولكن، والأهم من ذلك “البيانات”.
الأدوار التي تقوم بها الشركات عوضًا عن الحكومات
أولًا: حماية الأمن السيبراني
تلعب الشركات العالمية الكبيرة متعددة الجنسيات كـ(جوجل وآبل وفيسبوك وأمازون وعلي بابا) وغيرها، دورًا كبيرًا ليس فقط في توفير الخدمات الأساسية وتعزيز الابتكار، ولكن أيضًا حمايتنا في الفضاء السيبراني المتزايد الأهمية، وهي الوظيفة التي يفترض أن تؤديها الحكومات.
في منتدى باريس للسلام نوفمبر الماضي انضمت مايكروسوفت وجوجل وفيسبوك وعمالقة التكنولوجيا الآخرون، إلى 50 حكومة لأجل توقيع اتفاقية جديدة للأمن السيبراني، مع غياب تام لحكومات الولايات المتحدة وروسيا والصين.
ثانيًا: تأثيرها على الرأي العام وحماية الانتخابات
في السابق كان يتوجب على الحكومات توفير فضاء ديمقراطي آمن للناخبين تحافظ فيه على سير العملية الديمقراطية والانتخابات بشكل سلس، وضمان عدم التشويش والضغط على الناخبين.
“جوجل”عملاق محركات البحث، صعد لحماية الاتحاد الأوروبي من النفوذ الخبيث من خلال استبعاد المصادر غير التابعة للاتحاد الأوروبي من شراء الإعلانات السياسية قبل انتخابات البرلمان الأوروبي
لكن اليوم على سبيل المثال، فإن تويتر وفيسبوك وليس حكومة الولايات المتحدة، هم الذين ينظمون وسائل التواصل الاجتماعي ويحاربون المعلومات المضللة والدعاية قبيل الانتخابات.
بينما “جوجل“عملاق محركات البحث، صعد لحماية الاتحاد الأوروبي من النفوذ الخبيث من خلال استبعاد المصادر غير التابعة للاتحاد الأوروبي من شراء الإعلانات السياسية قبل انتخابات البرلمان الأوروبي، لأن الاتحاد الأوروبي يفتقر حتى الآن إلى إطار متماسك لمنع التدخل عبر الإنترنت!
ثالثًا: حصر ثروات البلدان بيد الشركات الكبرى
عندما يتعلق الأمر بالمال، فإن الشركات تكون بالفعل أقوى من البلدان المتوسطة الحجم، فشركة مثل “آبل”، إذا ما قورنت إيراداتها بإيرادات الدول المتوسطة، فهي تحتل المرتبة الـ23 في ترتيب أكبر العائدات العالمية، متقدمةً على بلجيكا والهند والمكسيك.
إذا وضعنا قائمة تضم أفضل 100 اقتصاد، فستكون هناك 69 شركة و31 دولة، وفقًا للبنك الدولي، فأكثر من ثلث التجارة العالمية هي مجرد معاملات بين وحدات مختلفة بين نفس الشركات وليس بين الدول القومية
من الناحية النظرية، يمكن لشركة آبل التي لديها احتياطي مالي يبلغ نحو 240 مليار دولار، إطلاق برنامج استثماري ضعف حجم خطة مارشال – وهو المشروع الاقتصادي لإعادة تعمير أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية الذي وضعه الجنرال جورج مارشال -.
وإذا وضعنا قائمة تضم أفضل 100 اقتصاد، فستكون هناك 69 شركة و31 دولة، وفقًا للبنك الدولي، فأكثر من ثلث التجارة العالمية هي مجرد معاملات بين وحدات مختلفة بين نفس الشركات وليس بين الدول القومية.
رابعًا: انتقال برامج استعمار الفضاء من الحكومات إلى الشركات
في الماضي، كانت الدول القومية من أطلقت البشر إلى الفضاء وهبطت بهم على سطح القمر، أما الآن فإننا نسمع من شركات خاصة مثل “سبيس إكس” عن استعمار المريخ أو خطة لإحاطة الأرض بـ12000 قمر صناعي بغية تزويدها بإنترنت سريع، بينما تنشر فيسبوك طائرات شراعية دون طيار لإيصال خدمة الإنترنت في المناطق النائية، وجوجل تطلق بالونات تعمل على الطاقة الشمسية لبث خدمة الإنترنت في دول إفريقيا، بل حتى وكالة الفضاء الأمريكية – الحكومية – “ناسا”، في خطتها لاستعمار القمر والمريخ استعانت بشركات خاصة.
هناك عاملان أساسيان يحددان جودة خوارزمية الذكاء الاصطناعي: البيانات وقدرة الحوسبة، فعندما يتم إدخال البيانات فيما يسمى الشبكات العصبية – معالجات الحاسوب -، تحدد الخلايا العصبية الاصطناعية الأنماط داخل البيانات وتنتج خوارزميات
كيف يمكن للشركات الضخمة احتكار الذكاء الاصطناعي؟
هناك عاملان أساسيان يحددان جودة خوارزمية الذكاء الاصطناعي: البيانات وقدرة الحوسبة، فعندما يتم إدخال البيانات فيما يسمى الشبكات العصبية – معالجات الحاسوب -، تحدد الخلايا العصبية الاصطناعية الأنماط داخل البيانات وتنتج خوارزميات.
ومع المزيد من البيانات والكثير من قوة الحوسبة (اللازمة لأداء قدر هائل من الحسابات عند تحديد الأنماط)، تصبح الخوارزميات أكثر تعقيدًا وتعطي نتائج أفضل.
تكمن المشكلة في الاقتصاد القائم على الذكاء الاصطناعي في أن الصناعات تميل بشكل طبيعي نحو الاحتكار بسبب حلقة التغذية التي يتم إنشاؤها نتيجة لاعتماد الذكاء الاصطناعي على البيانات.
لا تزال الآلات والمصانع الدعامة الأساسية للاقتصاد العالمي الحاليّ، وأقوى الدول اليوم هي تلك التي تمتلك أفضل المصانع على مستوى العالم كاليابان والمملكة المتحدة وألمانيا وكوريا الجنوبية
فإذا حصلت شركة معينة تستخدم الذكاء الاصطناعي على اليد العليا على منافسيها، فسيكون من الصعب للغاية مقاومة دورها في الاحتكار، مثل هذه الشركة، وبفضل مجموعة البيانات الكبيرة، سيكون لديها خوارزميات متقدمة، والخوارزميات المتقدمة تعني تجربة أفضل للمستخدم والمزيد من الخدمات التي تقدمها الشركة، وبالتالي جذب المزيد من العملاء.
ومن ثم يقوم المزيد من العملاء من خلال استخدامهم لخدمات الشركة، بإنشاء المزيد من البيانات، مما يزيد من تحسين الخوارزميات الحاليّة ويجعل منتجات الشركة أكثر جاذبية، مما يؤدي في النهاية إلى قاعدة عملاء أكبر وسيطرة تامة للشركة.
حرب البيانات
لا تزال الآلات والمصانع الدعامة الأساسية للاقتصاد العالمي الحاليّ، وأقوى الدول اليوم هي تلك التي تمتلك أفضل المصانع على مستوى العالم كاليابان والمملكة المتحدة وألمانيا وكوريا الجنوبية.
ومع ذلك، في العصر الحديث، ستكسر البيانات كل من مساحة الأرض والآلات كأهم ركائز للاقتصاد، وسيتم شن الحروب ليس من أجل النفط أو الأرض، ولكن من أجل السيطرة على تدفق البيانات، ستكون البيانات هي المحرك الرئيسي للاقتصاد.
في الوقت الحاليّ، يحصل عمالقة التكنولوجيا على البيانات من خلال جذب انتباهنا إلى الخدمات والمعلومات المجانية.
في الوقت الحاليّ، يسعد الناس في تقديم أغلى ما لديهم – بياناتهم الشخصية – في مقابل خدمات البريد الإلكتروني المجانية ومقاطع الفيديو المضحكة، لكن إذا قرر أحدهم في وقت لاحق محاولة منع تدفق البيانات، فقد يجدون صعوبة متزايدة
على المدى القصير، يتم استخدام هذه البيانات للإعلانات المستهدفة التي تحقق أرباحًا للشركات، لكن في المدى الطويل، ستعمل البيانات الإضافية والكاملة في نهاية المطاف على تحسين الخوارزمية إلى الحد الذي لا تكون فيه الإعلانات مطلوبة، لأن ببساطة الخوارزميات ستعرفنا جيدًا حتى إنها ستقوم باختيارنا.
في الوقت الحاليّ، يسعد الناس بتقديم أغلى ما لديهم – بياناتهم الشخصية – في مقابل خدمات البريد الإلكتروني المجانية ومقاطع الفيديو المضحكة، لكن إذا قرر أحدهم في وقت لاحق محاولة منع تدفق البيانات، فقد يجدون صعوبة متزايدة، خاصة أنهم قد يعتمدون على الشبكة في جميع قراراتهم وحتى لرعايتهم الصحية.