حتى نهاية عام 2017، تاريخ دخول القوات السعودية إليها، ظلت محافظة المهرة في أقصى الشرق اليمني بعيدةً عن الصراع الذي اندلع قبل ذلك بأكثر من 3 سنوات، فالمحافظة المتاخمة لسلطنة عُمان لم يدخلها الحوثيون، ولم تخرج قيادتها عن الشرعية أو تتمرد عليها.
لهذا السبب، أعرب أهالي المهرة علنًا عن استغرابهم من قدوم القوات السعودية إلى محافظتهم البعيدة عن جبهات المواجهة مع الحوثيين الذين يُفترض أن تحالف الرياض أبو ظبي لم يدخل اليمن إلا لقتالهم واستئصال شأفتهم.
ومع مرور الوقت، تحوَّل استغراب أهل المهرة إلى مظاهرات ضد الوجود السعودي، توشك أن تتحول إلى ما هو أبعد من مجرد الاحتجاج ضد سياسات الرياض، بحسب بعض القيادات الأهلية التي لوَّحت بخيارات أخرى تصعيدية لإجبار القوات السعودية على الرحيل عنهم، فما الأساليب الأخرى التي قد يستخدمونها؟
تلويح بالقوة
وسط المظاهرات التي تشهدها محافظة المهرة اليمنية للمطالبة بخروج القوات السعودية منها، لوَّحت قيادات أهلية في محافظة المهرة اليمنية موخرًا باستخدام ما سمته “أساليب أخرى غير التظاهر السلمي” إذا أصرت “قوات الاحتلال السعودي” – كما يسمونها – على البقاء في المحافظة.
هذا ما أصبح يُقال جهرًا في المحافظة التي تحاذي سلطة عُمان، بل إن وصف “الاحتلال السعودي” أصبح دارجًا منذ شهور، شهدت خلالها المحافظة احتجاجات على الوجود العسكري السعودي فيها، وتصدى مواطنون وأبناء قبائل في مرات عدة لمحاولات القوات السعودية استحداث مواقع عسكرية ونقاط تفتيش في مناطق من المحافظة، وأعمال تتعلق بمشروعات سعودية مشكوك في أهدافها.
مطالب أبناء المهرة ورجالاتها تجاوزت الدعوة لإخراج السعوديين لتشمل إقالة المحافظ راجح باكريت، بسبب ما قالوا إنه الدور السلبي له فيما تشهده محافظتهم من نقص في الخدمات الأساسية
لم يخف ذلك عن أبناء ثاني أكبر محافظات اليمن، ونذكر حراكهم الشعبي السلمي الرافض لسياسات الرياض وهيمنتها على مطار المهرة ومنافذها البرية والبحرية، قبل عام تقريبًا، وبعد أسابيع بالكاد على اتفاق وقعه المحتجون مع القوات السعودية المتمركزة في المحافظة تجدد التوتر، فثمة ميليشيات لا تزال ناشطة خارج نطاق القانون، وذاك ما حذرت منه لجنة متابعة تنفيذ مطالب المعتصمين.
إذًا هي حالة شك في نوايا بدأت مع محاولات استقطاب رجال القبائل لتصبح موجة احتجاج ورفض من أبناء المحافظة تجاه القوات السعودية والأهداف غير المعلنة التي تواصل تثبيتها، وتلك أيضًا ريبة يصعب أن يبددها صمت الشرعية اليمنية حتى اللحظة راضية أو مكرهة، ففي الحالتين يبدو أن سلطة الرئيس هادي تُوظَّف لمنح غطاء شرعي لأجندات لا شيء يمنيًا فيها.
في سياق ذلك، يخرج أبناء المهرة مجددًا كما ظلوا يفعلون قبل عام ونصف، ليقولوا: “النيَّات بالأفعال تتكشف لا بالأقول”، وعلى هذا، يعيد ما كُتب على لافتاتهم توصيف وجود القوات السعودية كما عرفه وخبره أبناء المهرة، الذين طالبوا في رسالة واضحة القوات السعودية لا بمغادرة المهرة فحسب، بل كامل أراضي اليمن، وتعدى رفضهم المطلق إلى التشكيلات والميليشيات المسلحة التي تدعمها السعودية في المحافظة.
وعلى عكس ما سبق، بات مؤخرًا شعار الاحتجاجات التي تنظمها اللجنة المنظمة للاعتصام السلمي في المهرة “اخرجوا فورًا من محافظتنا، فماذا تفعل قوات الاحتلال السعودي هنا؟” كما يقولون، وتلك لهجة تتشدد وتزداد غلظة إزاء الوجود السعودي في المهرة، بل إن ثمة في المحافظة مَنْ أصبح يلوَّح بما تفعله الشعوب عادةً حين تواجه ما يرونه في الوجود السعودي بمحافظتهم.
جانب من احتجاج أبناء المهرة الجمعة الماضية رفضًا لوجود القوات السعودية بالمحافظة
مطالب أبناء المهرة ورجالاتها تجاوزت الدعوة لإخراج السعوديين لتشمل إقالة المحافظ راجح باكريت، بسبب ما قالوا إنه الدور السلبي له فيما تشهده محافظتهم من نقص في الخدمات الأساسية، فضلاً عن إدخال المحافظة بأزمة اقتصادية وأمنية.
ولا يُخفي المتظاهرون ما يرونه في شخصية باكريت كأداة للرياض، فقد جاء تعيينه بطلب سعودي بعد وصول أولى طلائع القوات السعودية إلى المهرة، وتمركزها في مطار الغيضة، وشروعها في التمدد نحو إنشاء المعسكرات والثكنات العسكرية، وهو ما لم يكن راضيًا عنه المحافظ السابق محمد عبدالله كدة، الذي صدر قرار إقالته في أثناء وجوده داخل السعودية، كما صدر قرار تعيين باكريت وهو مقيم أيضًا في الرياض.
النقطة الثانية التي يركز الحراك المستمر في المهرة عليها هي دعم الشرعية والحفاظ على السيادة الوطنية في المحافظة، وهو مطلب متصل بشكل رئيس بخروج القوات السعودية والإماراتية وتسليمها ما تسيطر عليه من موانئ ومنافذ حدودية ومطارات إلى الحكومة الشرعية وقواتها.
وحتى الآن يقتصر رد فعل أبناء المهرة على المطالبة السلمية بمنع استحداث مواقع عسكرية تحاول السعودية بين الفينة والأخرى إنشاءها في مناطق مختلفة من المحافظة، لكن السؤال يبقى عن التعاطي السعودي الإماراتي مع هذا الغضب الشعبي وأبعاده السياسية والقبلية في وقت تتلاحق فيه الرسائل والممارسات التي تضعف الشرعية وتغذي حالة التوتر.
مساعي تكرار النموذج الإماراتي
في الشرق اليمني القصي، حيث الأرض بِكر والأطماع كثيرة، تريد الرياض أن تنتج نموذجها الشبيه بتجربة أبو ظبي في محافظات يمنية أخرى، أي أن تصبح مَنْ يحكم ويتحكم، ولعل ذلك ما أوصل السعودية إلى بوابة اليمن الشرقية على ضفاف بحر العرب وبمحاذاة سلطنة عُمان.
وتحت شعار كبير وفضفاض، هو الإعمار وتقديم المساعدات للشعب اليمني، من المؤكد أنه بلغ مسامعهم ما قيل عن تأهب المملكة للقيام بأعمال إنشائية في المحافظة اليمنية لمد أنبوب نفط يعبر أراضي المهرة وصولاً إلى بحر العرب، وهو ما أظهرته وثيقة توجه فيها الشركة السعودية للأعمال البحرية الشكر للسفير السعودي باليمن على ثقته بها وطلبه التقدم بعرض فني ومالي لتصميم وتنفيذ ميناء تصدير النفط.
ثمة مسعى سعودي لا يخفى لتكرار السيناريو الإماراتي في مواقع أخرى من بلادهم، أي إنشاء قوات أمنية موازية للقوات الحكومية في محافظتهم، وهو ما يجرد الوجود الأمني الرسمي من معناه باعتباره شكلاً من أشكال السيادة
ربما لن يعارض يمني عاقل خطط تنمية قد تعود بالنفع على اقتصاد البلد وأهله، لكن ماذا لو كان الهدف الاستئثار بثروات اليمن أو استغلاله متنفسًا لمتاعب غيره الاقتصادية أو ساحة لمد نفوذه؟ الإجابة جاهزة بالنظر إلى السلوك السالف لتحالف السعودية والإمارات، وهو ما يجعل التوجس أمرًا مشروعًا، ويشرِّعه أكثر أن المسألة متعلقة بالنفط وبالمهرة ذات الموقع الإستراتيجي.
هذا التوجس سرعان ما دفع سكان منطقة شحر في مديرية الشحن التي تسيطر على منفذ بري مهم مع سلطنة عُمان إلى قول “لا” لما يعتبرونه تمددًا سعوديًا في اليمن، في إشارة اعتراض واضحة على قيام قوات سعودية بخطوات مد أنبوب لنقل نفطها عبر أراضي المهرة دون أي اتفاق رسمي مع الشرعية أو السلطة المحلية أو حتى إشعار أبناء المهرة، في تحدٍ صارخ على السيادة الوطنية.
وكان هذا هو الاعتصام الثالث من نوعه الذي يقيمه أبناء المهرة لوقف التمدد السعودي، فقبل ذلك بأسابيع، أعلن وكيل محافظة المهرة السابق علي سالم الحريزي انضمامه لاحتجاجات أبناء مديرية المسيلة الذين دشنوا احتجاجاتهم بسبب خرق القوات السعودية الاتفاقات السابقة، واستحداثها لمواقع عسكرية قرب سواحل المديرية التي يعتمد عليها السكان للصيد، وكذلك قرب المراعي المهمة لهم.
قوات سعودية جديدة تصل المهرة
وتدفع هذه التظاهرات المستمرة للتساؤل عن الأسباب التي تجعل السعودية تجازف بمواجهة أهالي المهرة رغم خروجها من الحوثيين، وتكمن الإجابة في موقع المحافظة، فهي تضم منافذ حدودية أهمها صرفيت وشحن، ولطالما طالب أبناء المهرة القوات السعودية بالخروج منها وتسليمها لقوات الحكومة الشرعية.
وفي رأي أهالي المهرة، فإن ثمة مسعى سعودي لا يخفى لتكرار السيناريو الإماراتي في مواقع أخرى من بلادهم، أي إنشاء قوات أمنية موازية للقوات الحكومية في محافظتهم، وهو ما يجرد الوجود الأمني الرسمي من معناه باعتباره شكلاً من أشكال السيادة.
يقول أهالي المهرة إن المحافظ الحاليّ يتحرك مع هذا المسعى السعودي على الإيقاع نفسه، فهو يتستر على ما يفعلون بما في ذلك تصفية معارضي هذا التوجه، وتيسير خطة سفير الرياض هناك في شراء الذمم والولاءات والهيمنة على المرافق الكبرى للدولة كالمطار والميناء والأراضي الشاسعة المتاخمة لعُمان.
أمَّا هدف السعودية من كل ذلك، ومن استماتتها في فرض وجودها بالمهرة رغم معارضتها، فهو بحسب البعض هدف مزدوج، ويتعلق في جانب منه بإلحاق النفوذ السعودي الخالص بما يحقق في الجانب الآخر هدفًا إستراتيجيًا مهمًا هو تطويق سلطنة عُمان في خاصرتها اليمنية.
تحرير أم احتلال؟
لا يزور عبد ربه منصور هادي محافظة المهرة كثيرًا، وإن فعلها فإن من يستقبله هناك هو السفير السعودي في اليمن محمد آل جابر الذي كان يدشِّن مجموعة مشاريع موّلتها بلاده، في ثاني كبرى محافظات اليمن المضطرب بالأزمات، الذي يشهد حربًا تدور رحاها منذ أكثر من 5 أعوام.
حدث ذلك للمرة الأولى في أغسطس/آب 2018، بعد فرار هادي إلى الحدود اليمنية العُمانية حين قرر الحوثيون، إلى جانب حليفهم السابق علي عبد الله صالح، اجتياح محافظة عدن لاعتقاله، حينها قصد الرئيس محافظات بعيدة في الصحراء، إلى أن وصل إلى محافظة المهرة التي عبر من خلالها الحدود وصولاً إلى عُمان، في هذه الأثناء، بدأ التحالف بقيادة السعودية عملياته العسكرية “لحماية الشعب اليمني وحكومته الشرعية من الانقلابيين والميليشيا الحوثية العنيفة والمتطرفة”.
قضم الشرعية وتآكل هيبتها على الأرض أنتج ما يشبه المندوب السامي، الذي قد يكون إماراتيًا حينًا وسعوديًا حينًا آخر
بعد 3 سنوات، لم يعتد هادي، وهو الرئيس الوحيد المعترف به لليمن، أن تُنظَّم له مراسم استقبال خاصة سواء إذا عاد إلى عدن أم في حال سنحت له الفرصة لتفقد هذه المدينة أو تلك من مدن بلاده ومحافظاتها، فغالبًا ما يكون في استقباله مسؤولون يمنيون أو جنود سعوديون يفترض أن تنحصر مهمتهم في حمايته.
لكن زيارة الرجل إلى محافظة المهرة كانت مختلفة هذه المرة، فثمة مَنْ يستقبل الرئيس، وهو السفير السعودي لدى اليمن، وتحرص السفارة السعودية على إعلان ذلك وليست الرئاسة اليمنية، وتلك سابقة بروتوكولية وفقًا للبعض، فما شأن الرجل باستقبالات الرئيس أو حتى زياراته الداخلية؟ وكيف يستقيم أن يستقبل سفير دولة أخرى رئيس البلاد في وطنه وعلى أرضه؟
في محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات، استوقف الأمر كثيرين، ذهب بعضهم إلى اعتبار الأمر أكبر من خطأ بروتوكولي قدر ما هو كما قالوا إقرار لأمر واقع على الأرض، فلم تعد الشرعية هي مَنْ تسيطر هناك، بل تحالف السعودية والإمارات، اللتين أصبح جنودهما وأي دبلوماسي تابع لهما يتصرف بعقلية مَنْ يسيطر ويملك، فيسمحون بوصول هذا المسؤول اليمني أو يمنعون ذلك إذا شاء ورغب.
ومع تكرار الأمر أكثر من مرة، سواء كان فيها السفير السعودي في مقدمة الصفوف المستقبلة لهادي أم كان هادي مضيفًا له، أثار ذلك كثير من اليمنيين ممن يرون في الأمر إهانة وطنية، فالمهرة في رأيهم محافظة يمنية وليست سعودية، ويُفترض أن من يستقبل كُبار زوَّارها يكون من كبار قومها أو من رجالات الدولة اليمنية لا سفير دولة أخرى.
وعمليًا، فإن قضم الشرعية وتآكل هيبتها على الأرض أنتج ما يشبه المندوب السامي الذي قد يكون إماراتيًا حينًا وسعوديًا حينًا آخر، والوصف كما يقول البعض يكشف حقيقة ما يجري فعليًا، فالسفير السعودي وفق هؤلاء يتصرف داخل اليمن كما كان يفعل بول بريمر في العراق، فهو يزور ويتفقد ويأمر وينهي ويمنح ويمنع.
استقبال السفير السعودي للرئيس هادي في المهرة
وتزداد الصورة عتمة برأي يمنيين يقولون إن وجود السفير السعودي وقوات بلاده في المهرة لا ضرورة له من الأساس، فالمحافظة تقع على الحدود مع سلطنة عُمان، وهي بعيدة جدًا عن بؤرة الصراع مع الحوثيين، أي أنها بمنأى عن إكراهات الحرب المباشرة التي قد تُسوِّغ تغول هذه العاصمة أو تلك في اليمن.
وبحسب معارضي التدخل العسكري الإماراتي والسعودي في اليمن، فإن الوجود السعودي في المهرة تحول إلى ما يشبه “الاحتلال”، فالمنافذ البرية والبحرية والجوية في المحافظة بأيدي السعوديين، بل إن مطار الغيضة تحوَّل إلى ما يشبه الثكنة العسكرية التي لا تخلو من السجون، وهناك ما هو أسوأ، وهو تحكم القوات السعودية بحركة السكان ومركباتهم في الشوارع الرئيسية، فأينما ذهب أبناء المحافظة يصادفون نقاط تفتيش سعودية أقامتها قوات وصلت إلى المهرة نهاية عام 2017، وسيطرت وبسرعة على مفاصل المحافظة، ووصل بها الأمر إلى منع صيادي المحافظة من الصيد الذي يعتاشون منه في ميناء نشطون على مضيق هرمز.
وبحسب كثيرين فإن حسابات متعلقة بسلطنة عُمان قد تكون وراء قرار الرياض بدفع قواتها إلى المهرة، بمعنى سعي السعودية لمحاصرة أي حضور أو نفوذ عُماني مفترض هناك بحكم الجوار على الأقل وتحويل المحافظة إلى موقع سعودي متقدم يعزل اليمن فعليًا عن جواره العُماني، ويقلص السيادة اليمنية على أرضها بهدف تصفية حسابات أو تقاسم وظيفي مع الإمارات في اليمن برمته.
يشير أصحاب هذا الرأي إلى ما يسمونه نزاع حماة الشرعية اليمنية المفترضين على تقاسم النفوذ والثروات، فثمة من يتحكم بمنافذ البلاد البحرية، ويسعى للسيطرة على الموانئ الكبرى، وثمة من يريد الهيمنة على بعض المحافظات لتعظيم مكاسبه، ومنع أي منافسة له على ما يقول كثيرون إنها فريسة وقعت وكثر المتنافسون على اقتطاع المزيد من لحمها.
ويذكِّر هؤلاء بما تصنع الإمارات في الجنوب والساحل الغربي وصولاً إلى سقطرى التي انتفضت في وجهها، كأنما عين أبو ظبي على البحر الأحمر، أما السعودية فإصرارها على تكريس وجود عسكري مستدام في المهرة قد يروم بلوغ بحر العرب التفافًا على نفوذ الإيرانيين في مضيق هرمز، وتلك حسابات الجغرافيا والسياسة والاقتصاد، وما أبعد ذلك كله عن شعار تدخل التحالف السعودي الإماراتي في اليمن.
والحال هذه، فإن أبناء المحافظة يجدون أنفسهم مضطرين لمقاومة مشكلة افتعلتها دون ضرورة القوات السعودية التي تشارك نظيرتها الإماراتية في تفكيك اليمن، فإذا هي نهب لكل قوي وأرض لكل طامع.