أعلنت طهران بشكل رسمي، اليوم الأحد، بدء تنفيذ المرحلة الثانية من تقليص تعهداتها النووية، وذلك بتخطيها نسبة تخصيب اليورانيوم إلى أكثر من 3.67%، وهو الحدّ المسموح به في الاتفاق النووي المبرم في 2015، لتدخل العلاقات الإيرانية مع الغرب نفقًا جديدًا من التصعيد.
إيران وإن بدأت فعليًا في تنفيذ المرحلة الثانية إلا أنها في الوقت ذاته أعلنت وقف إعادة تشغيل مفاعل أراك لإنتاج المياه الثقيلة، رغم ما ذكرته سابقًا بإعادة تشغيله كجزء من تعهدات تلك المرحلة، وهو ما دفع البعض إلى الذهاب إلى ترك طهران الباب مفتوحًا أمام الدبلوماسية تجنبًا لمزيد من التصعيد.
وكانت السلطات الإيرانية قد أعلنت، الإثنين الماضي، أنها تجاوزت سقف مخزونها من اليورانيوم المنخفض التخصيب المحدد بموجب الاتفاق، الأمر الذي يعبد الطريق أمام إنتاج رؤوس نووية حربية، تلك الخطوة التي استندت فيها طهران إلى مادتين في اتفاق 2015 تتيح لأي طرف أن يكون بحِل من التقيد ببعض التزاماته لفترة معينة، في حال اعتبر أن الطرف الثاني لا يفي بها، وذلك ردًا على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب أحاديًا من الاتفاق النووي في مايو/أيار 2018، وإعادة فرض عقوبات على إيران.
تحركات يعتبرها البعض تصعيدًا إيرانيًا في إطار حرب الوجود التي تخوضها ضد واشنطن، حفاظًا على استقلالها وسيادتها، فيما يذهب آخرون إلى أنها مناورة سياسية تهدف إلى مزيد من الضغط على شركاء الاتفاق الأوروبيين، لدفع الجانب الأمريكي لإعادة النظر في قرار الانسحاب الأحادي والتحايل لتخفيف تبعات العقوبات الاقتصادية المفروضة على الإيرانيين.
تصعيد إيراني
رغم الإعلان عن تخطي نسبة التخصيب الواردة في الاتفاق فإن طهران لم تحدد بعد النسبة التي سترفعها بعد تجاوز عتبة الـ3.67%، وفق ما أكده الناطق باسم المنظمة الإيرانية للطاقة الذرية، بهروز كمالوندي، الذي أشار إلى أن ذلك سيتم بالتدريج حسب الحاجات الإيرانية.
“طهران أعطت الدبلوماسية “وقتًا كافيًا” خلال عام كامل، وأن تقليص التزاماتها ليس انتهاكًا للاتفاق” مساعد الشؤون السياسية للخارجية عباس عراقجي
وفي مؤتمر صحافي عقده المتحدث باسم الحكومة الإيرانية علي ربيعي، وشارك فيه كل من مساعد الشؤون السياسية للخارجية عباس عراقجي، أكد كمالوندي أن بلاده أن “لا تنوي حاليًّا رفع نسبة التخصيب إلى 20%، وهي النسبة التي يحتاج إليها مفاعل طهران للبحوث الطبية”، مشيرًا أن إيران تمتلك القدرة الكافية لإعادة تشغيل مفاعل أراك للماء الثقيل، معتبرًا أن ذلك يأخذ بعض الوقت من الناحية الفنية.
وفي المقابل هدد عراقجي بأن طهران “ستعيد تشغيل مفاعل أراك في حال لم يلتزم أعضاء الاتفاق النووي بالجدول الزمني المتفق عليه بشأن تنفيذ تعهداتها تجاه هذا المفاعل”، مشيرًا أنه “ابتداءً من اليوم، سنعيد النظر مرة أخرى في تخصيب اليورانيوم، فيما يتعلق بالنسبة والكمية”، مشددًا على أن “خفض التزاماتنا لا يعني الخروج من الاتفاق النووي”.
كما اتهم بقية أطراف الاتفاق النووي بـ”التقصير” في تنفيذ تعهداتها، مشيرًا إلى أن ذلك دفع بلاده إلى “تقليص تعهداتها”، وأن الخطوات الإيرانية الحاليّة تهدف إلى الحفاظ على هذا الاتفاق، لافتًا إلى أن طهران أعطت الدبلوماسية “وقتًا كافيًا” خلال عام كامل، وأن تقليص التزاماتها “ليس انتهاكًا للاتفاق”، متحدثًا عن تقديم شكوى بشأن الخطوات التي أقدمت عليها واشنطن بعد انسحابها من الاتفاق النووي.
جدير بالذكر أن البند الخامس في الاتفاق النووي ينصّ على تعهد إيراني على مدى 15 عامًا حتى عام 2025، لإبقاء نسبة تخصيب اليورانيوم على 3.67%، وهو الأقل عن نسبة الـ20% التي وصلت لها قبل التوقيع على الاتفاق، لكن الانسحاب الأحادي الأمريكي دفع طهران للتخلي عن هذا التعهد.
إيران تبقي باب الدبلوماسية مفتوحًا مع القوى الأوروبية الموقعة على الاتفاق
مهلة 60 يومًا
كما أكد مساعد الشؤون السياسية للخارجية الإيرانية فإن من الواضح أن طهران تبقي على باب الدبلوماسية مفتوحًا رغم ما أبدته ظاهريًا من تصعيد، حيث منحت الأوروبيين مهلة جديدة مدتها 60 يومًا إضافية، قبل أن تقدم على تنفيذ المرحلة الثالثة من تقليص تعهداتها النووية، معربة عن أملها أن “تتوصل إلى حل حتى لا تضطر إلى تنفيذ هذه المرحلة”.
تأتي هذه الخطوة التي تزامنت مع انتهاء المهلة التي منحتها طهران لأطراف الاتفاق من الأوروبيين (ألمانيا وبريطانيا وفرنسا والصين وروسيا) والمقرر لها اليوم الأحد، قبل ثلاثة أيام فقط من اجتماع مرتقب للوكالة الدولية للطاقة الذرية، الأربعاء المقبل، دعت إليه واشنطن بعد إعلان طهران تجاوزها الحدّ المسموح به في إنتاج اليورانيوم منخفض التخصيب إلى أكثر من 300 كيلوغرام.
المتحدث باسم الحكومة الإيرانية، ذكر في المؤتمر الصحفي أن إنقاذ الاتفاق النووي يحتاج إلى تنفيذ بقية الأطراف التزاماتها، معلنًا أن بلاده “ترحب بأي جهود وأفكار للتوصل إلى حلول مرضية للجميع”، فيما اعتبره البعض ضوءًا أخضر للوساطة الدولية للحيلولة دون تفاقم الأزمة والحد من مزيد من التصعيد.
إيران ليس في صالحها استفزاز العالم بزيادة كميات اليورانيوم المخصب لديها، هذا التحرك الذي يثير قلق الجميع، بما في ذلك المتعاطفين معها من أطراف الاتفاق، وذلك رغم أحقيتها في ذلك بعد الانسحاب الأمريكي
وفي الإطار ذاته ترك عراقجي الباب مفتوحًا أمام أي جهود دبلوماسية مستخدمًا في ذلك لغة التهديد بشأن تنفيذ المرحلة الثالثة من تقليص تعهدات الاتفاق، قائلاً: “الدفعة الثالثة خضعت للدراسة بشكل دقيق، وقد خططت للخطوات في هذه المرحلة بالتعاون مع منظمة الطاقة الذرية الإيرانية”، مضيفًا “سنعلن بعد 60 يومًا عن خطواتنا لتخفيض التعهدات خلال المرحلة الثالثة”.
كما تحدث عن “زيارات دبلوماسية خلال الأيام المقبلة” لبحث تطورات الاتفاق النووي، موضحًا رغبة بلاده في تحقيق نتائج ملموسة، كاشفًا “أننا لا نريد زيارات استعراضية”، داعيًا “إلى زيارات واجتماعات تؤدي إلى نتيجة مطلوبة للخروج بقرار صحيح يعدل وضع الاتفاق النووي”.
وألقى الضوء على بعض المساعي المبذولة لعقد اجتماع اللجنة المشتركة للاتفاق النووي على مستوى وزراء خارجية الدول الأعضاء في الاتفاق خلال الشهر الحاليّ، مشددًا على أنه “لن نقبل التفاوض مجددًا على الاتفاق النووي وإضافة كلمة واحدة عليه”، مشيرًا إلى قناة “إنستكس” التي دشنتها أوروبا أخيرًا “لا تلبي توقعاتنا، خصوصا في مجال بيع النفط والحصول على عوائد تصديره”، مضيفًا “لو كانت تلبي هذه القناة مطالبنا لما أقدمنا على تنفيذ المرحلة الثانية من تقليص التعهدات”.
وعن مسألة التفاوض مع واشنطن في هذا الملف، أشار إلى أن بلاده لا مانع لديها أن تشارك الأمريكان في اجتماعات مجموعة 4+1، لكن بشرط تراجعها عن كل العقوبات التي فرضتها بعد انسحابها من الاتفاق النووي، داعيًا الشركاء الأوروبيين إلى تحقيق نتائج ملموسة في المسار التفاوضي خلال المهلة المحددة.
ميخائيل أوليانوف، مندوب روسيا لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية
ترقب دولي
المندوب الروسي الدائم لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية والمنظمات الدولية في فيينا، ميخائيل أوليانوف، علق على هذه الخطوة بأانها كانت متوقعة، وغير مفاجئة، مضيفًا في تصريحاته لوكالة “سبوتنيك“: “الإيرانيون يتصرفون بشفافية وأعلنوا خطواتهم مقدمًا ويقومون الآن بتنفيذها، لذلك لم يكن مفاجئًا لأحد”.
وأضاف: “السؤال بشأن إلى أي مدى سيرتفع مستوى التخصيب. على حد علمي، لا يمكن تحديده إلا بعد عدة أيام بسبب طبيعة العملية”، مشيرًا “من الواضح أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية ستقوم بعملية القياس وتبلغ مجلس المحافظين بالنتائج. مثل هذا التقرير الواقعي سيكون في الوقت المناسب للدورة الاستثنائية لمجلس محافظي الوكالة التي دعا لها الأمريكيون في 10 من يوليو/تموز”.
من جانبها ذكرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أن مفتشي الوكالة الموجودين في إيران سيرفعون تقريرًا للوكالة بمجرد تأكدهم من زيادة طهران مستوى تخصيبها اليورانيوم عن الحد الذي يسمح به الاتفاق النووي، حسبما ذكر المتحدث باسم الوكالة الذي قال: “نحن على علم بإعلان إيران بشأن مستوى تخصيب اليورانيوم”.
فيما أعرب الاتحاد الأوروبي عن بالغ قلقه إزاء هذه الخطوة، داعيًا طهران إلى عدم اتخاذ المزيد من الإجراءات التي من شأنها تقويض الالتزام بالاتفاق النووي، فيما دعا المتحدث باسم الساسة الخارجية في الاتحاد إيران “لعدم اتخاذ المزيد من الإجراءات التي من شأنها تقويض التزامها بالاتفاق النووي”، وتابع “نحث إيران بشدة وبشكل عاجل على وقف جميع أنشطتها التي تتعارض مع التزاماتها بموجب خطة العمل المشتركة، بما في ذلك إنتاج اليورانيوم منخفض التخصيب بما يتجاوز الحد المسموح به”.
وأضافت مايا كوتشيانتيتس “نحن في انتظار المزيد من المعلومات من الوكالة الدولية للطاقة الذرية”، مؤكدة “نحن على تواصل مع أطراف الاتفاق النووي بشأن الخطوات التالية بموجب بنود الاتفاق”.
لا شك أن إيران ليس في صالحها استفزاز العالم بزيادة كميات اليورانيوم المخصب لديها، هذا التحرك الذي يثير قلق الجميع، بما في ذلك المتعاطفين معها من أطراف الاتفاق، وذلك رغم أحقيتها في ذلك بعد الانسحاب الأمريكي، إلا أنها في الوقت ذاته تبحث عن مصالحها عبر التلويح بمثل هذه الورقة، التي ربما تكون نواة حقيقية لتدشين جبهة ضاغطة على واشنطن فيما يتعلق بموقفها من الاتفاق الأصلي وإستراتيجية فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية ضدها.
وعلى الأرجح فإن المهلة الثانية والمقررة بـ60 يومًا من المقرر أن تشهد حراكًا دبلوماسيًا أوروبيًا ودوليًا، وهو ما بدأ إرهاصاته بالفعل، لمحاولة التوصل إلى صيغة مشتركة للحيلولة دون تصعيد جديد، والبدء في تنفيذ المرحلة الثالثة من تقليص تعهداتها النووية، ما يجعل المنطقة كلها فوق فوهة بركان.