قد يتبادر هذا التساؤل إلى أذهان الكثير من المهتمين بشؤون الشرق الأوسط، بل حتى المواطن العادي يتساءل مالذي يجمع إيران بتركيا، رغم الصدام السياسي المستمر في الكثير من ساحات الشرق الأوسط؟ ولماذا تقف تركيا دائمًا إلى جانب إيران في أزماتها السياسية، وتسعى باستمرار إلى تخفيف الضغوط الإقليمية والدولية عليها؟
هذا التساؤل طرحته على الكثير من الزملاء الأتراك العاملين في مجال الاختصاص، والجميع أجاب عن هذا التساؤل، فبعضهم ربط الموضوع بأنه جزء من أمنهم القومي، والآخر ينظر إلى إيران على أنها متغير تكتيكي يمكن لتركيا الاستفادة منه، والثالث يرى أن السياسات الطائفية والمذهبية التي تعتمدها إيران في المنطقة، مكنت لتركيا من الدخول في الكثير من الساحات كموازن للنفوذ الإيراني، مستخدمةً بذلك مفردات قوتها الناعمة التي قربت الكثير من الشعوب إليها، على حساب دور إيران السلبي.
تنظر تركيا إلى إيران على أنها الحصن الأخير الذي ينبغي أن يبقى صامدًا بوجه مخططات التقسيم التي عصفت بمنطقة الشرق الأوسط منذ العام 2003 وحتى اللحظة
إذا ما نظرنا برؤية سياسية أوسع وأشمل، نجد أن العلاقة التي تربط تركيا بإيران، على الرغم من كل التقاطعات السياسية والإستراتيجية الموجودة بين الطرفين، تحديدًا في الشرق الأوسط، هي أشمل من الأفكار والآراء التي طرحناها أعلاه، ورغم أن تركيا، وتحديدًا حزب العدالة والتنمية الحاكم، يستند في أيديولوجية حكمه اليوم إلى استحضار التاريخ الذي شهد صراعات مستمرة بين الدولتين العثمانية والصفوية، فعلى ما يبدو أن الحزب في إطار تأجيل الصفحة التاريخية الخاصة بإيران، لضرورات إستراتيجية أكثر قيمة وتأثيرًا في الوقت الحاضر.
تنظر تركيا إلى إيران على أنها الحصن الأخير الذي ينبغي أن يبقى صامدًا بوجه مخططات التقسيم التي عصفت بمنطقة الشرق الأوسط منذ العام 2003 وحتى اللحظة، ولا بد من دعم وتعزيز وجودها الإقليمي في المناطق التي تشهد تطبيقًا فعليًا لهذه المخططات، وتحديدًا في العراق وسوريا، هذا إلى جانب دورها الكبير – أي إيران – في حماية وإدامة الأمن القومي التركي، وذلك من خلال الجوانب الآتية:
1- دور إيران في إجهاض التجربة الكردية في العراق واحتوائها في سوريا.
2- دورها في مواجهة النفوذ الاستخباري الإسرائيلي والأمريكي في دول القوقاز وآسيا الوسطى.
3- دورها في الأزمة القطرية الخليجية، وتقديم الدعم الاقتصادي والسياسي لدولة قطر القريبة من تركيا.
4- دورها في حفظ التوازنات السياسية في العراق، وقد اتضح ذلك جليًا في دور إيران الأخير في مفاوضات تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، التي لعبت فيها دورًا بإيصال شخصيات قريبة منها ومن تركيا.
إلى جانب ما تقدم تتشارك تركيا وإيران المخاوف بخصوص الدور الاستخباري الإسرائيلي في أذربيجان، ولهذا يسعى كلا البلدين إلى توظيف النفوذ المذهبي والقومي في هذه الدولة من أجل تقليل هذه المخاوف
5- دورها في مواجهة القوى الإقليمية المؤثرة كالمملكة العربية السعودية، وهو ما يمنح تركيا حرية حركة أكبر.
6- دورها في ربط الإستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط بالأهداف التركية والإيرانية، وذلك من خلال عرقلة التحركات الأمريكية في المنطقة.
7- تقديم الدعم السياسي والعسكري للحركات الإسلامية السنية في العديد من الدول العربية القريبة من تركيا، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين.
8- إعطاء قوة دفع كبيرة للجهود التركية في عملية أستانة لتسوية الأزمة السورية، وحفظ المصالح التركية في سوريا.
9- دعم الجهود التركية في حوض البحر الأبيض المتوسط، خصوصًا مع تصاعد الأدوار الإسرائيلية والمصرية هناك.
وإلى جانب ما تقدم تدرك تركيا أن النموذج السياسي الإيراني قدم لها خدمة كبيرة، ففي الوقت الذي تطرح فيه الدولتان نفسيهما، بأنهما تمتلكان مشروعًا سياسيًا إسلاميًا “شيعي ثوري – إسلامي صوفي”، فإننا نجد أن نجاح المشروع السياسي التركي جاء على حساب إخفاقات المشروع السياسي الإيراني، فالصورة الطائفية التي قدمت بها إيران نفسها، جعلتها منبوذة إقليميًا لدى الكثير من شعوب ودول المنطقة، وهو ما سمح لتركيا أن تدخل هذه المجتمعات من الباب الواسع، لتطرح نفسها بأنها البديل السياسي الناجح والقادر على تبني القضايا الإسلامية والعربية بالصورة التي تحقق تطلعات شعوب المنطقة.
تنظر تركيا إلى أن الضغوط الدولية المتصاعدة ضد إيران اليوم، هدفها تغيير النظام السياسي فيه
إلى جانب ما تقدم تتشارك تركيا وإيران المخاوف بخصوص الدور الاستخباري الإسرائيلي في أذربيجان، ولهذا يسعى كلا البلدين إلى توظيف النفوذ المذهبي والقومي في هذه الدولة من أجل التقليل من هذه المخاوف، فتركيا تسعى دائمًا إلى تقوية علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع أذربيجان، في حين تتولى إيران دورًا في مكافحة الجهود الاستخبارية الإسرائيلية هناك، خصوصًا إذا علمنا أن مجمل الهجمات الاستخبارية التي تعرضت لها إيران في الآونة الأخيرة جاءت عبر أراضي أذربيجان، وهو ما يشير إلى إدراك البلدين وبحكم التوتر الحاصل في علاقتهما مع “إسرائيل” اليوم، إلى إمكانية استغلال أذربيجان ضدهما مستقبلًا.
تنظر تركيا إلى أن الضغوط الدولية المتصاعدة ضد إيران اليوم، هدفها تغيير النظام السياسي فيه، فتركيا تدرك جيدًا أن أي نظام سياسي جديد قادم في إيران، سيكون قريبًا من الغرب، بل والأكثر من ذلك سيكون قوميًا علمانيًا بامتياز، وهو ما يفرض محددًا آخر على الأمن القومي التركي، كون تركيا ستكون حينها أمام تحديين، أولهما غياب نظام سياسي إسلامي أعطى قوة دفع كبيرة للأدوار التركية في المنطقة بسبب أدواره السلبية، وثانيًا مجيء نظام جديد قريب من الغرب، ولا يستبعد أن يستخدم ضدها، ولهذا فإن ضرورة المحافظة على هذا النظام تشكل مصلحة قومية عليا لتركيا.
ظلت تركيا تنظر إلى إيران على أنها الحصان الذي يمكن امتطاءه متى شاءت في المنطقة، ولطالما اعتمدت مواقف حذرة حيال السياسات الإيرانية، ففي الوقت الذي اتخذت فيه إيران الكثير من المواقف المضادة لتركيا في العديد من القضايا والمشاكل، وتحديدًا في العراق وسوريا، لم تقابلها تركيا بالشيء نفسه، لقناعة صانع القرار التركي بأن إيران لا يمكن التفريط بها، فسياساتها الطائفية هي من جعلت أبواب الشرق الأوسط مشرعة أمام تركيا وغيرها من القوى الإقليمية والدولية للدخول، ولعب أدوار سياسية تحفظ من خلالها مصالحها القومية، وتبني نفوذًا سياسيًا واقتصاديًا راسخًا في المنطقة.
عند النظر إلى طبيعة التعاطي التركي مع التحديات الكبرى التي تتعرض إليها إيران اليوم، نجد أن تركيا تولي أهمية كبيرة لها
ففي الوقت الذي قاطع العالم كله إيران بعد عام 1979، استمرت تركيا بعلاقاتها الطيبة مع إيران، التي ابتدأت منذ عقد الطرفين لميثاق سعد أباد لعدم الاعتداء في 8 من يوليو 1937، الذي ضم أيضًا العراق وأفغانستان، كما بذلت تركيا جهودًا كبيرة في حل مشكلة الاتفاق النووي منذ عام 2006، وساندتها في مواجهة المظاهرات الاحتجاجية التي شهدتها الشوارع الإيرانية في ديسمبر 2017، وهي تقف إلى جانبها اليوم في مواجهة العقوبات الدولية المتصاعدة ضدها، وقد عبر عن ذلك المسؤولون الأتراك في خطاب اعتبر موجه مباشرةً للولايات المتحدة الأمريكية التي ترتبط بتوترات كبيرة اليوم مع تركيا على خلفية رغبة تركيا بشراء منظومة صواريخ 400 S من روسيا.
عند النظر إلى طبيعة التعاطي التركي مع التحديات الكبرى التي تتعرض لها إيران اليوم، نجد أن تركيا تولي أهمية كبيرة لها، ليس رغبة أو هدف مركزي في إستراتيجيتها السياسية، بقدر ما يعبر عنه بأنه توظيف للأدوار الإيرانية في خدمة الأهداف التركية، وهو ما يعرف في علم السياسة بالإستراتيجية والتكتيك، فالطرفان يدركان أنهما لا يمكن أن يتخليا عن نظرة العداء لبعضهما البعض، لكن الظروف الدولية الحاليّة تحتم عليهما التعاون المشترك في مواجهتها، ففي الوقت الذي تعتبر به تركيا أن الدولة الصفوية كانت أشد عداءً للدولة العثمانية من الروم وغيرهم، فإنه بالمقابل نجد بأن كراس التوجيه العقائدي للحرس الثوري الإيراني ما زال ينظر إلى تركيا على أنها عدو ينبغي الحذر منه.