أعلن وزير الإعلام اللبناني، زياد المكاري، أمس الثلاثاء، أن مجلس الوزراء برئاسة نجيب ميقاتي، اتخذ قرارًا بترحيل الناشط المصري (الحاصل على الجنسية التركية) عبد الرحمن يوسف القرضاوي إلى دولة الإمارات، رغم المناشدات المحلية والإقليمية والدولية بعدم تسليمه لما ينطوي على ذلك من تهديد مباشر وصريح لحياته وسلامته الشخصية.
القرار كان صادمًا لقطاع كبير من الحقوقيين والمهتمين بالشأن الإنساني والسياسي معًا، فبجانب أنه سقطة قانونية لا تُغتفر، وحياد فاضح عن مسار البروتوكول الدولي وتناقض فج لأبجديات المنطق القانوني، إذ لا يحمل نجل القرضاوي الجنسية الإماراتية ولا توجد اتفاقية تبادل مطلوبين مشتركة بين بيروت وأبو ظبي ليُسلم بمقتضاها الناشط المعتقل، فهو في الوقت ذاته إعلان واضح وكاشف عن هشاشة الحكومة اللبنانية وانبطاحها أمام أي مغريات مادية أو سياسية، وافتقادها للحد الأدنى من الاستقلالية المزعومة.
الخطوة التي حُذر من اتخاذها كثيرًا، حتى من قبل اللبنانيين أنفسهم، تُعد انتصارًا جديدًا للغة الابتزاز المالي التي تجيد الإمارات التحدث بها بطلاقة متناهية، وفضحًا على الملأ وأمام الجميع لاستراتيجية المساومة والضغط المعتاد من أبناء زايد والارتكاز عليها لتعزيز نفوذهم الإقليمي وتنفيذ أجنداتهم العبثية في المنطقة.
سردية فاضحة وتبرير مُخزٍ
المبررات التي ساقتها الحكومة اللبنانية في مسودة القرار، أثارت الكثير من الجدل واللغط، حتى لدى الشارع اللبناني نفسه، إذ كُتبت بلغة يبدو عليها الانبطاح والانكسار، بما يشبه قصائد الأعشى والنابغة الذبياني في مديح هرم بن سنان وعمرو بن الحارث، كأنها صيغت في قصر الوطن الرئاسي في أبو ظبي وليس في السِّراي الكبير وسط بيروت.
المسودة تقول في تبريرها لتسليم نجل القرضاوي للإمارات إن أبو ظبي ملتزمة بتأمين المعاملة العادلة والإنسانية للشخص المطلوب استرداده، وهو ما أكده وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد، الذي اتصل بنفسه بنجيب ميقاتي ليطمأنه بخصوص هذا الأمر، في إصرار واضح ومشدد على إتمام صفقة التسليم دون أي معوقات.
ذكرت المسودة كذلك أن الإمارات فازت وللمرة الثالثة بعضوية مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وهو ما تعتبره الحكومة اللبنانية اعترافًا دوليًا بجهود أبو ظبي في تعزيز وحماية الحقوق لكل المواطنين من مختلف التوجهات، كذلك احتلال الدولة الخليجية المرتبة الأولى كأفضل دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في نظام العدالة المدنية والجنائية وفق مؤشر سيادة القانون 2001 الخاص بمشروع العدالة الدولية.
هذا المديح المبالغ فيه وعبارات الغزل المكشوفة التي صاغها ميقاتي وفريق حكومته لسجل الإمارات الحقوقي، رغم عشرات الانتقادات الموجهة له من مئات المنظمات الحقوقية المحلية والإقليمية والدولية، أفرغت القرار من جديته، وحولته إلى ما يشبه نشرات العلاقات العامة التي تروجها اللجان الإلكترونية الممولة من الدولة النفطية لتجميل صورتها المشوهة حقوقيًا والمفضوحة على رؤوس الأشهاد في الداخل والخارج رغم المليارات المنفقة لطمس هذا السجل الأسود.
مخالفة صريحة للقانون الدولي
استندت المذكرة اللبنانية في حيثيات قرار تسليم الناشط المصري التركي إلى دولة الإمارات إلى القانون اللبناني والدولي على حد سواء، وهو ما تثبت الاتفاقيات الحقوقية الدولية زيفه وتناقضه شكلًا ومضمونًا:
– القرار جاء مخالفًا للمادة (3) من اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب (1984)، والتي تنص على أنه “لا يجوز لأي دولة طرف أن تسلم شخصًا إلى دولة أخرى إذا كان هناك أسباب وجيهة تدعو إلى الاعتقاد بأنه سيكون في خطر التعرض للتعذيب”، وكانت العشرات من التقارير الحقوقية الإقليمية والدولية وشهادات المعتقلين السابقين في سجون الإمارات قد وثقت الانتهاكات الممارسة داخل المعتقلات الإماراتية، ما يؤكد تعرض نجل القرضاوي لخطر التعذيب والمعاملة القاسية، حال ترحيله إليها، وهو ما يجعل من قرار تسليمه غير قانوني ويتعارض مع تلك المادة.
– يتعارض مع المادة (7) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966) والتي تنص على أنه “لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة، وعلى وجه الخصوص، لا يجوز إجراء أي تجربة طبية أو علمية على أحد دون رضاه الحر”، وهو ما يتخوف منه حال تسليم الناشط المصري وفق عشرات التقارير الحقوقية.
#عبدالرحمن_يوسف_القرضاوي مواطن تركي،
ارتكب "جريمة" على الارض السورية فاعتقلته لبنان لتحاكمه الإمارات#بلطجة_عربية #قمع_عابر_الحدود pic.twitter.com/Jz2phUv6dM
— حمد الشامسي (@Alshamsi789) January 7, 2025
– تتعارض مع المادة (8) من الدستور اللبناني التي تنص على أن “الحرية الشخصية مصونة وفي حمى القانون ولا يمكن أن يقبض على أحد أو يحبس أو يوقف إلا وفاقًا لأحكام القانون ولا يمكن تحديد جرم أو تعيين عقوبة إلا بمقتضى القانون” كما يناقض القرار التزامات لبنان الدولية والاتفاقيات الموقع عليها ومنها اتفاقية اللاجئين لعام 1951، والتي تحظر تسليم أي شخص قد يتعرض للخطر.
– تجاهل لبنان في قراره العديد من السوابق الدولية في هذا الشأن، منها رفض بريطانيا تسليم الصحفي الأسترالي ومؤسس موقع “ويكيليكس” جوليان أسانج للولايات المتحدة خوفًا من التعذيب، كذلك رفض ألمانيا تسليم السياسي الإسباني كارليس بوتشدمون لحكومة بلاده لعدم ضمان العدالة.
– غضت الحكومة اللبنانية الطرف في أثناء كتابة تلك المسودة عن عشرات التقارير الدولية التي تنتقد السجل الحقوقي الإماراتي أبرزها تقرير منظمة العفو الدولية (2023) الذي وثق استمرار التعذيب والاحتجاز التعسفي في السجون الإماراتية، كذلك تقرير هيومن رايتس ووتش (2022) الذي كشف عن القيود المشددة التي تفرضها الدولة على حرية التعبير ومراقبة الناشطين، هذا بخلاف العديد من قضايا التعذيب المعروفة للجميع منها قضية الناشط الإماراتي أحمد منصور.
الابتزاز المالي وشراء الذمم.. استراتيجية الإمارات المعروفة
بات واضحًا أن ما حدث داخل أروقة الحكومة اللبنانية، والخروج نهاية الأمر بقرار تسليم نجل القرضاوي لأبو ظبي رغم كل هذا العوار القانوني والحقوقي الواضح، وآلاف المناشدات والاستغاثات الصادرة عن المنظمات الحقوقية الدولية، ورغم التحذيرات من تداعيات مثل تلك الخطوات على سمعة الدولة وسيادتها واستقلالية قرارها السياسي، هو رضوخ لابتزاز إماراتي قوي، عبر استراتيجية المال والنفوذ.
ولا يخفى على أحد تفوق أبناء زايد في هذا الأمر، فهم يجيدون لغة الابتزاز المالي والسياسي وتوظيف أرباح النفط لخدمة أجندتهم ومؤامرتهم التي يسعون من خلالها لتوسيع دائرة نفوذهم الإقليمي والدولي بما يعوض تواضعهم الجغرافي والسياسي والتاريخي، وبات المال هو السلاح الأبرز الذي اعتادت أبو ظبي إشهاره في كل معارك النفوذ التي تخوضها منذ رحيل الشيخ زايد آل نهيان عام 2004.
واكد: "كله بالفلوس يا أرخص سياسيين في العالم".. ترحيل #عبدالرحمن_يوسف_القرضاوي إلى الإمارات. pic.twitter.com/WqgYx2kVXb
— مجلة ميم.. مِرآتنا (@Meemmag) January 7, 2025
ونجح الإماراتيون عبر هذا السلاح في شراء ولاءات حكومات بأكملها وذمم كبار المسؤولين في العديد من الدول، بل وفي بعض المنظمات الدولية، بما ساعدهما على تكوين جيش من المتواطئين والمتعاونين العاملين في خدمة أجنداتها حتى ولو على حساب مصالح بلدانهم، ورغم أن هذا الأمر بات مفضوحًا، فإن أبناء زايد لا يتورعون عن توسيع رقعته مهما كانت الانتقادات.
وفي الحالة اللبنانية، حيث الأزمة الاقتصادية الخانقة، وهشاشة المشهد الاقتصادي في ظل الفراغ الرئاسي وحالة الفوضى التي تخيم على الأجواء الضبابية سياسيًا، وجد الإماراتيون الفرصة مواتية لتحقيق أهدافهم ومآربهم، التي تأرجحت بين وضع أقدامهم في مرفأ بيروت، بما يضعهم على خريطة المنافسة على طريق النقل البحري العالمي، وبالأخص على طريق الحرير بعد بناء الصين ميناء جودار في باكستان الذي استحوذ على نسبة مهمة من عمليات ميناء جبل علي، وصولًا إلى التغلغل في مفاصل الدولة السياسية واستمالة بعض التيارات الفاعلة هناك.
الشيخ إبراهيم الإبراهيم يؤكد من داخل #لبنان اتجاه حكومة بلاده إلى ارتكاب جريمة تسليم #عبدالرحمن_يوسف_القرضاوي إلى #الإمارات، التي ليس لها علاقة قانونية بالقضية، ويكشف اسم الشخصية التي مارست الضغط على الحكومة من أجل تسليمه. #صيدنايا_مصر #سجون_الامارات_السريه pic.twitter.com/t1KyEhZRFi
— د. محمد الصغير (@drassagheer) January 7, 2025
واتساقًا مع هذا المنهج، كشف الداعية اللبناني الشيخ إبراهيم البراهيم في مقطع مصور له بثه على منصات التواصل الاجتماعي أن القيادي اللبناني ورئيس الحكومة الأسبق، سعد الحريري، المقرب من أبناء زايد، مارس دورًا محوريًا في قرار تسليم نجل القرضاوي، إذ ضغط بشدة على رئيس الحكومة نجيب ميقاتي – صاحب التاريخ الحافل مع عائلة الأسد – لتمرير هذا القرار، وهو ما تم بالفعل، على حد قوله.
لم يكن لبنان الساحة الوحيدة التي مارست فيها الإمارات سياسة الابتزاز المالي والسياسي، لتحقيق أهدافها، مستندة إلى نفوذها وإمكانياتها المادية الكبيرة، إذ لم تكن هناك دولة إقليمية تعاني من أوضاع اقتصادية هشة إلا ودخلها أبناء زايد، مستغلين تلك الهشاشة لتنفيذ مخططاتهم، في مصر واليمن والسودان وسوريا وتونس والصومال وغيرها من بلدان الإقليم، بل تجاوزت الجغرافيا العربية إلى أدغال إفريقيا في إثيوبيا ودول الساحل وجنوب القارة.
وفي المحصلة.. ربما تحقق الإمارات انتصارًا سياسيًا من وجهة نظرها حال تسلمها الناشط عبد الرحمن يوسف القرضاوي، لكنه الانتصار المغموس بالخزي بعدما افتُضحت سياسة الابتزاز التي تمارسها مع كل الأنظمة والحكومات الضعيفة، لكن في المقابل سيظل عار الانبطاح والخذلان يلاحق العديد من الأطراف الأخرى التي غضت الطرف عن تلك الجريمة، مرتكزة إلى مقارباتها الخاصة التي فضحت الازدواجية والشعارات الجوفاء.