تعد قضية الأوقاف في العراق إحدى أهم المشكلات التي تواجه البلاد منذ عام 2003، إذ وبعد الغزو الأمريكي، حلت سلطة الائتلاف المؤقتة وزارة الأوقاف والشؤون الدينية العراقية واستعيض عنها بهيئات وقفية لكل مذهب ودين، ومن بينها ديوان الوقف السني وديوان الوقف الشيعي وديوان للديانة المسيحية وهكذا.
ومع تصاعد وتيرة سعي ديوان الوقف الشيعي الاستيلاء على الأملاك الوقفية التابعة للوقف السني في محافظة نينوى ومدينة الموصل (مركز المحافظة)، يحاول “نون بوست” الوقوف على حقيقة ما يجري في الموصل وهل لدى الوقف الشيعي الحق في الاستيلاء على أملاك الوقف السني أم لا؟
قوانين تفصل بين الوقفين
تشتد حدة الخلافات بين الوقفين السني والشيعي بعد أن سرع الوقف الشيعي من الخطى الرامية لاستملاك عقارات ومساجد تابعة للوقف السني في الموصل، وفي هذا الشأن يقول الخبير القانوني يحيى حسن في حديثه لـ”نون بوست” إن مشكلة الأوقاف في العراق كان من المفترض أن تكون قد حلت منذ عام 2008 بعد أن أصدر مجلس الوزراء قرارًا في شهر يوليو من ذلك العام، وضم بنودًا عديدة يحدد من خلالها تبعية الوقف إن كان للسنة أم للشيعة.
ويضيف حسن أن من جملة ما نص عليه القرار اعتماد الحجة الوقفية للوقف الذي من خلاله يتضح مذهب الواقف، فضلاً عن الاعتماد على القسام الشرعي للميراث، لافتًا إلى أن القرار حدد كذلك تبعية المقابر الأثرية بالاعتماد على مذهب المدفونين فيها إن كانوا سنة أم شيعة.
ويشير حسن إلى أن قانون رقم (19) لسنة 2005 يعتمده ديوان الوقف الشيعي، دون الأخذ بعين الاعتبار قانون عام 2008، إذ ينص قانون رقم (19) في مادته الثانية على أن المزارات الشيعية هي العمارات التي تضم مراقد مسلم بن عقيل وميثم ألتمار وكميل بن زياد والسيد محمد ابن الإمام الهادي والحمزة الشرقي والحمزة الغربي والقاسم الحر وأولاد مسلم وغيرهم من أولاد الأئمة وأصحابهم والأولياء الكرام من المنتسبين إلى مدرسة أهل البيت في مختلف أنحاء العراق.
قائمة بالمواقع المراد الاستحواذ عليها من قبل الوقف الشيعي في الموصل القديمة
ويعتقد حسن أن هذا القانون هو ما يعتمد عليه ديوان الوقف الشيعي في محاولة استيلائه على مراقد الأئمة والعقارات التابعة لها في الموصل، مشيرًا إلى أن هذا القانون كان غامضًا وقانون عام 2008 وضح النصوص الغامضة فيه.
واختتم حسن حديثه لـ”نون بوست” بالإشارة إلى أن الوقف الشيعي يستغل تجيير القضاء لصالحه في الدعاوى التي يرفعها للاستيلاء على الأملاك الوقفية التابعة للوقف السني في مختلف أنحاء العراق.
خلفيات الأزمة
تعود محاولات استيلاء الوقف الشيعي على أملاك ومساجد الوقف السني في الموصل لسنوات عديدة خلت، إذ يقول محافظ نينوى الأسبق أثيل النجيفي في حديث خاص لـ”نون بوست” إنه وفي عام 2010 حاول الوقف الشيعي إرسال كتاب رسمي إلى دائرة التسجيل العقاري (الأيمن) في الموصل من أجل تسجيل 20 مرقدًا وجامعًا باسم الوقف الشيعي وانتزاع ملكيتها من الوقف السني اعتمادًا على قرار الحاكم المدني الأمريكي بول بريمير القاضي بالفك والعزل بين ممتلكات الوقفين.
ويضيف النجيفي أن قرار بريمر آنذاك تضمن عبارة نصها “كل وقف باسم آل البيت أو أوقفه أحد من آل البيت، فإن ملكيته تتحول إلى الوقف الشيعي”، مبينًا أن ذاك القرار كان فيه إجحافًا بحق السنة، إذ إن كثيرًا من العلماء والدعاة والأئمة السنة كانوا من آل البيت.
قرار خلية الازمة في نينوى لوقف اجراءات الوقف الشيعي في الموصل
وبيّن النجيفي أن كثيرًا من مساجد الموصل القديمة والحديثة تحمل أسماءً لرموز وشخصيات من آل البيت، كاشفًا أنه وبعد تحويل القرار لمجلس المحافظة، اتخذ المجلس قرارًا بإيقاف العمل بكتاب ديوان الوقف الشيعي ومنع نقل ملكية أي وقف إلا بعد التثبت من أحقية الوقف الشيعي في نقل الملكية من عدمه.
وعلى إثر ذلك، كشف النجيفي لـ”نون بوست” أن الوقف الشيعي وبدل أن يطعن في قرار مجلس المحافظة أمام المحكمة الاتحادية، عمد إلى رفع دعوى جزائية ضده (أثيل النجيفي) على اعتبار أن المحافظ تسبب بإيقاف كتاب الوقف الشيعي وحولت القضية إلى النزاهة واتهامه بإهدار أموال الوقف، ويستطرد النجيفي بالقول مشيرًا إلى أن الدعوى التي رفعت ضده بسبب منعه استيلاء الوقف الشيعي على ممتلكات نظيره السني استمرت حتى عام 2017 عندما صدر حكم قضائي يدينه غيابيًا.
وعن تجدد محاولات الوقف الشيعي للاستيلاء على الأوقاف في الموصل، يؤكد النجيفي في ختام حديثه لـ”نون بوست” أن لا حجة قانونية لدى الوقف الشيعي، فلكل وقف سني حجة وقفية يتبين من خلالها أسباب وقف الواقف ومذهبه وشروطه، وبالرجوع لهذه الحجة تنتفي المشكلة من أصلها، متهمًا مجلس محافظة نينوى الحاليّ بعدم الاكتراث بما يجري في الموصل خوفًا من تبعات سياسية، مؤكدًا أن ما يحصل سيعزز من التعقيدات الطائفية في المدينة.
تجاوزات بعد استعادة الموصل من داعش
وبالانتقال إلى ديوان الوقف السني في الموصل ومديرها أبو بكر كنعان، إذ يؤكد في حديثه لـ”نون بوست” أن ما يحدث من تجاوزات على أملاك ومساجد وعقارت الوقف السني تكرر مرة أخرى بعد استعادة الموصل من سيطرة تنظيم الدولة (داعش)، معتبرًا أن ما يحدث من تجاوزات على الوقف السني يعكس صورة سلبية عن الوضع في المدينة التي خرجت للتو من حرب مدمرة.
وكشف كنعان أن ديوان الوقف السني في نينوى تلقى كتابًا يضم 17 مرقدًا ومقامًا يطالب بها الوقف الشيعي اعتمادًا على تسمية هذه الأضرحة وجميعها تقع في مدينة الموصل القديمة التي يعرف الجميع أن ليس من بين سكانها أي شيعي.
كتاب من الوقف السني في نينوى إلى رئاسة الوقف السني في بغداد يشرح ما يقوم به الوقف الشيعي في الموصل القديمة
وعن الإجراءات التي اتخذتها الأوقاف تجاه ما يحصل، أضاف كنعان أنه وبعد عدة اجتماعات مع مجلس محافظة نينوى، أصدر المجلس قرارًا بإيقاف جميع الإجراءات لحين التثبت من الحجج والبراهين، لكن قرار مجلس المحافظة طبق على الوقف السني فقط دون الشيعي.
سلسلة تجاوزات على الوقف السني في الموصل، بدأت بحسب كنعان من جامع النبي يونس والمقبرة في الجانب الأيسر من مدينة الموصل العام الماضي، مشيرًا إلى أن الوقف الشيعي عرض المقبرة القديمة للإيجار وبالفعل أجرت من أشخاص مجهولين.
مخاوف من حدوث شحن طائفي نتيجة سياسة وضع اليد التي يقوم بها الوقف الشيعي
وكشف كنعان كذلك عن محاولات حثيثة للوقف الشيعي للاستيلاء على عدة عمارات تجارية ومحال في المدينة القديمة، ومنها عمارات تجارية في باب الطوب والدواسة وباب السراي وسوق الصياغ، إضافة إلى المراقد والأضرحة في الموصل القديمة، بحسبه.
وعن سوق الصياغ ومحاولة الاستيلاء عليه من الوقف الشيعي، كشف كنعان أن السوق تابع لوقف بنات الحسن، وهو مسجد صغير بني قبل عشرات السنين، إلا أن من بناه هم عائلة موصلية معروفة وهم بيت (شهيدو) الموصلي، وهناك ورثة موجودون يؤكدون ذلك، فضلاً عن وجود الحجة الوقفية الأصلية وشرط الواقف وهم من أهل السنة والجماعة في الموصل وليسوا شيعة.
وأبدى مدير الوقف السني في الموصل أبو بكر كنعان خوفه من الاستيلاء على عقارت الوقف السني بعد ورود معلومات عن نية الوقف الاستيلاء على مزيد من العقارات والمساجد مثل سوق السجن والمساجد التي تحمل أسماءً لآل البيت، مشيرًا إلى أن ضعف الحكومة المحلية السابقة أدى إلى توغل الوقف الشيعي في الموصل.
وعدَّ كنعان أن حجج الوقف الشيعي للاستيلاء على عقارات السنة في الموصل تشبه (مسمار جحا)، إذ لا يوجد شيعي واحد في الموصل القديمة، متسائلاً عن إمكانية مطالبة الوقف السني بالأملاك الوقفية في النجف وكربلاء.
وفي ختام حديثه لـ”نون بوست” أشار كنعان إلى أن مشكلة الوقف الشيعي أنه يعتمد على قانون رقم (19) لسنة 2005 دون الاكتراث بقانون عام 2008 الذي نظم وفصل في مواده جميع الإجراءات القاضية للفصل بين أملاك الوقفين.
يقول أحد المستأجرين في العمارة التجارية في منطقة الدواسة – يحاول الوقف الشيعي الاستيلاء عليها -: “بعد استعادة الموصل من داعش باشرنا بدفع الايجارات لديوان الوقف السني”، ويضيف قائلاً: “لدينا عقود إيجار مع الوقف السني ونحن مستأجرين في هذه العمارة منذ عام 1961، إلا أن مستأجري العمارة فوجئوا بسيارات رباعية الدفع ومسلحين يرتدون الزي العسكري قدموا إلينا ووجهوا إنذارًا قانونيًا من كاتب العدل في الموصل يقضي إما بدفع الإيجار لصالح الوقف الشيعي أو الإخلاء القسري من العمارة”، وأشار المصدر الذي فضل عدم كشف هويته إلى أن الوقف الشيعي أعلمهم بأن عائدية العمارة باتت للوقف الشيعي وأن مستثمرًا استأجر العمارة بالكامل.
نموذج من انذار صادر من الوقف الشيعي لاصحاب المحلات التابعة للوقف السني في الموصل
كان لا بد من التواصل مع الوقف الشيعي في محافظة نينوى للوقوف على حقيقة الاتهامات الموجهة لهم، واستطاع فريق “نون بوست” الاتصال بمسؤول الوقف الشيعي في نينوى ويدعى باسم البياتي، إلا أنه وعند طرح الموضوع عليه، اعتذر عن الإجابة بحجة أنه لا يملك تخويلاً بالحديث لوسائل الإعلام عن هذا الموضوع.
من جانبه يقول المفكر الإسلامي محمد الشماع في حديثه لـ”نون بوست” إن الوقف الشيعي لا يملك أي حجة شرعية أو قانونية للاستيلاء على عقارات ومساجد الوقف السني في محافظة نينوى.
المفكر الإسلامي محمد الشماع الوقف الشيعي لا يمتلك في الموصل سوى حسينية واحدة بمنطقة الفيصلية
وأضاف الشماع أن الحجج الوقفية تبطل كل ادعاءات الوقف الشيعي سواء في الموصل أم في غيرها، لافتًا إلى أن جميع المزارات التي يدعي الوقف الشيعي أنها تابعة لآل البيت لا أصل لها في الحقيقة ولا توجد أي شواهد تاريخية لها، إذ إنه وفي عام 630 للهجرة قام الحاكم الشيعي بدر الدين لؤلؤ بخيانة رئيسه نور الدين أرسلان الذي كان حاكمًا للموصل في زمن الدولة الأتابيكية، وعمد بعدها إلى تحويل أسماء مساجد ومدارس أهل السنة (الشافعية والحنفية المالكية) إلى أسماء لرموز من آل البيت في محاولته نشر التشيع في الموصل.
وعن رأيه في موقف الحكومة المحلية ومجلسها من محاولات الوقف الشيعي الاستيلاء على أملاك الوقف السني في الموصل، أكد الشماع أن على أهل الموصل أن يغسلوا أيديهم من المحافظ ومجلس المحافظة، فلا نصرة لهم لأهل الموصل.
تحذيرات من تدهور الوضع الأمني
على الرغم من اتخاذ مجلس محافظة نينوى في وقت سابق من هذا العام قرارًا بإيقاف إجراءت الوقفين السني والشيعي لأجل التثبت من حجة كليهما، لم يذعن الوقف الشيعي لقرار مجلس المحافظة، فكان لا بد من الحديث مع مجلس محافظة نينوى، إذ يؤكد عضو مجلس محافظة نينوى حسام الدين العبار في حديثه لـ”نون بوست” أن الوقف الشيعي ضرب بعرض الحائط قرار مجلس المحافظة، وهناك توجه واضح لدى الوقف الشيعي للاستيلاء على أملاك الوقف السني مستغلين الوضع السياسي في المحافظة.
وضع رايات شيعية من قبل عناصر أمنية على ركام جامع النبي يونس في الموصل
وكشف العبار أن هناك جلسة قريبة لمجلس المحافظة من أجل ردع تجاوزات الوقف الشيعي وعدم مبالاته بقرار المجلس، محذرًا من تبعات ما ستؤول إليه الأوضاع في الموصل من جهة زيادة التوترات الطائفية وتراجع الوضع الأمني بسبب تصرفات الوقف الشيعي.
وفي ختام حديثه لـ”نون بوست” أكد العبار أنه من الواجب على محافظ نينوى الحاليّ منصور المرعيد أن يكون له موقف واضح وصريح تجاه الوقف الشيعي، وإلا فإن جهات أخرى ستتجاوز، مشيرًا إلى أن أهالي الموصل بدأوا يستشعرون مدى التجاوزات التي تشهدها المدينة، وذلك سيعني عودة الاحتقان الطائفي في المحافظة.
أما النائب عن محافظة نينوى شيروان الدوبرداني فقد طالب رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي بالتدخل الفوري للحد من اغتصاب الأراضي في نينوى من ميليشيات مسلحة خارجة عن القانون، في إشارة إلى الوقف الشيعي، مؤكدًا أن التجاوزات تحصل من أكثر جهة مرفوضة من نواب نينوى وسكانها وأن بعض النواب سيكون لهم موقف حازم تجاه مثل هذه الانتهاكات بحق نينوى، مشيرًا في حديثه لإحدى وسائل الإعلام أن لجنة تقصي الحقائق في نينوى كشفت الكثير عما يتعلق بالأوقاف وسرقات وتهريب النفط ووجود مكاتب اقتصادية تدار من جهات تابعة للحشد الشعبي في محافظة نينوى.
محاولات الوقف الشيعي في محافظات أخرى
ليست الموصل وحدها التي تشهد محاولات الوقف الشيعي الاستيلاء على عقارات ومساجد الوقف السني، فبحسب ما نقلت صحيفة “الخليج أون لاين” عن مصدر في الوقف السني، فإن الوقف الشيعي استولى على عدة مساجد في بغداد، وخاصة تلك التي تقع في مناطق مهمة وتجارية وتضم محلات تجارية، كجامع القزاز في زيونة وجامع السيدسة في شارع 14 رمضان في المنصور وسط العاصمة بغداد.
ويضيف تقرير الصحيفة نقلاً عن المصدر أن هناك محاولات تجري على قدم وساق لتزوير وثائق المِلكية في دوائر التسجيل العقاري لمجموعة من المساجد والجوامع في بغداد وديالى وسامراء وبابل والموصل، وتحويل مِلكيتها إلى الوقف الشيعي.
نموذج من حالات وضع اليد على اراضي الوقف السني في الموصل
يشار إلى أن إحصاءات الوقف السني في بغداد وحدها تشير إلى أنه كان يوجد قرابة 3500 جامع موزع على جانبي الكرخ والرصافة، إلا أن هذا العدد تناقص بشكل كبير خلال السنوات الماضية، إذ دمر بعضها واستولت الميليشيات التابعة للأحزاب على بعضها الآخر، ومنها ما تمت مصادرته بشكل رسمي عبر قانون رقم (19) لسنة 2005 الذي يقضي بتحويل بعض أوقاف السُّنة إلى الوقف الشيعي وفق التسمية.
وفي سامراء أيضًا، يشتكي سكان المدينة من توغل الوقف الشيعي واستيلائه على أوقاف السنة، فضلاً عن إغلاقه ومنذ سنوات الطرق المؤدية إلى المدينة القديمة، إذ ونتيجة لذلك رفع رئيس مجلس محافظة صلاح الدين “أحمد الكريم” في فبراير/شباط الماضي دعوى قضائية ضد رئيس ديوان الوقف الشيعي علاء الموسوي وأمين عام العتبة العسكرية ستار المرشدي محملاً إياهما المسؤولية عن إغلاق مدينة سامراء القديمة وإلحاق أضرار فادحة بسكانها ومصالحهم.
وتشير دعوى الكريم المرفوعة إلى محكمة سامراء أن الضرر البالغ الذي لحق بسكان سامراء بعد إغلاق الوقف الشيعي للمدينة القديمة التي تضم عشرات الفنادق وما لا يقل عن 2500 محل تجاري.