مرة أخرى يكون الشعب العراقي على موعد جديد لمصيبة جديدة تخص وطنه، وتحدٍ جديد لهويته الوطنية، هذه المرة من خلال النظام القضائي الذي يدير البلد، فالأنباء القادمة من العراق تُفيد بأن من على رأس النظام العراقي، يعزم على تمرير مسودة قانون جديد تتعلق بأعلى هيئة قضائية في العراق، هي المحكمة الاتحادية (الدستورية)، والغاية التي يبتغيها النظام من هذه المحاولة، القيام بمحاكاة ما هو موجود في النظام الإيراني من مؤسسات ونقلها إلى العراق، وأخص بكلامي هذا بالتحديد مؤسسة “مصلحة تشخيص النظام” الإيرانية التي تعطي للنظام الإيراني طبيعته وتحافظ على هويته.
فالتغير الذين ينوون القيام به، هو إدخال أربعة أشخاص جدد من غير القضاة ليكونوا أعضاء في تلك المحكمة، بمسمى جديد هو “الفقهاء المسلمون” ليكون لهم حق التصويت على قرارات المحكمة، وتفسير الدستور حسب ما يريدونه، دون أن تكون لهم خلفية قانونية تؤهلهم لمثل هذا المنصب الخطير، بل والأكثر من ذلك، أنه تم منحهم حق الاعتراض (الفيتو) على أي قرار لا يتوافق مع أحكام الشريعة! وحقيقة الأمر أن اعتراضهم سيكون على أي قرار لا يصب بمصلحة النظام السياسي الحاليّ أو يعرضه للخطر.
ففي الأسبوع الماضي، أحال مجلس الوزراء مشروع قرار إلى البرلمان العراقي لغرض إقراره، يتعلق بالمحكمة الاتحادية، كانت أبرز نقاطه، المتعلقة بزيادة أعضائها من 7 قضاة إلى 11 عضوًا، يكون لهم حق التصويت، بالإضافة إلى إعطاء هؤلاء الفقهاء حق الفيتو على أي قرار تصدره المحكمة دون موافقتهم.
إن الموافقة على تمرير هذا القانون من البرلمان، يعتبر إقرارًا رسميًا بأن المذهب الحاكم في العراق هو المذهب الشيعي، كما هو معمول في إيران
بالإضافة إلى تعيين فقيهين قانونيين اثنين لغرض التشاور معهم، ولا يمتلكون حق التصويت، وهم بالتالي يقللون من أهمية القضاة لصالح أولئك الفقهاء، حينما يعطون للطرف الأول حق الاعتراض وإلغاء أي قرار للمحكمة الاتحادية لا يتوافق مع توجهاتهم الفقهية حسب ما ينص القانون الجديد، وإذا ما علمنا أن المحكمة الاتحادية، أعلى سلطة قضائية في أي بلد، ومن أهم واجباتها تفسير الدستور لذلك البلد وفض النزاعات الدستورية فيه، فإن هذا يعني أن العراق يتحول بشكل رسمي إلى نظام دولة ثيوقراطي بامتياز، أو لنقل بصورة أدق، تحول النظام العراقي، إلى ما يشبه نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيث إن اثنين من هؤلاء الفقهاء الأربع هم من الشيعة، والاثنين الآخرين أحدهما سني عربي، والآخر سني كردي.
وبالتالي فإن الغلبة ستكون للمذهب الشيعي الذي يمثل المرجعية الدينية لنظام الحكم الحاليّ في العراق، لأن عدم موافقتهم سيبطل قرارات المحكمة الاتحادية.
وفي هذه الحالة، فإن الموافقة على تمرير هذا القانون من البرلمان، يعتبر إقرارًا رسميًا بأن المذهب الحاكم في العراق هو المذهب الشيعي، كما هو معمول في إيران، ويعني هذا أيضًا، غبُن لحقوق المذاهب الإسلامية الأخرى والأديان الأخرى غير الإسلامية التي تدين بها باقي مكونات الشعب العراقي.
إن هذا القانون في حالة إقراره، سيجعل النظام القضائي في متاهة كبيرة وغبن كبير لحقوق باقي الأديان والمذاهب، وسيلغي حقوقها لصالح المذهب الشيعي فقط
وإذا كانت حجج أنصار إقرار هذا القانون، هي القول بأن من العسير على القانونيين التعامل بشكل سليم مع القوانيين في حال تعارضها مع الأحكام الفقهية للسنة والشيعة، فلماذا لا يتم مراعاة ذلك للديانة المسيحية؟ وماذا عن الصابئة والشبك والأيزيديين، وغيرها من الأقليات والأديان؟ وإذا كانت المحكمة الاتحادية الجديدة ستحكُمها المحاصصة الطائفية والعرقية والحزبية، بعيدًا عن أي شروط أخرى، كما هو معمول به في كل شيء في عراق ما بعد 2003، أليس من حق الطوائف والعرقيات الأخرى من غير الشيعة والسنة بتمثيل عادل لها بالمحكمة؟
وفي هذا الصدد عبر النائب المسيحي السابق جوزيف صليوا بالقول: “التصعيد السياسي المؤيد لإيران من بعض الأحزاب، تدفع ثمنه الأقليات الدينية في العراق”، وأضاف “هذه الأحزاب تحاول نسخ نظام ولي الفقيه الموجود في إيران، وتطبيقه على طريقة إدارة الدولة في العراق”.
إن هذا القانون في حالة إقراره، سيجعل النظام القضائي في متاهة كبيرة وغبن كبير لحقوق باقي الأديان والمذاهب، وسيلغي حقوقها لصالح المذهب الشيعي فقط، حيث يرى خبراء قانونيون، أن تحديد عدد فقهاء القانون باثنين فقط وبصفة استشارية، يضعف موقفهم في مواجهة خبراء الشريعة الإسلامية الأربع الذين هم بصفة أعضاء أصليين بالمحكمة، وسيرسل رسائل سلبية إلى بقية المكونات العراقية، بعدما ادعت اللجنة القانونية في مجلس النواب أن هدف وجود فقهاء القانون، حماية حقوق غير المسلمين.
بل وذهب آخرون، إلى أن القانون إذا أقر بنقاطهِ الحاليّة، فإنه يؤسس وبشكل رسمي لنظام حكم إسلامي شيعي، وتتحوّل الهيئة القضائية إلى مجلس ديني تسيطر عليه الأحزاب الإسلامية الشيعية.
أخطر فقرات القانون الجديد تعطي لأولئك الفقهاء الإسلاميين “حق الفيتو”، حيث ورد في نص المشروع بالمادة 12/ثانيًا، اشتراط موافقة ثلاثة أرباع خبراء الفقه الإسلامي على أي قانون
بالمقابل، فإن المدافعين عن هذا القانون، يتذرعون بنص الدستور الذي هو بالأساس ملغم بفقرات مبهمة وغير واضحة، تتيح بتفسيره وفق ما يشاء المفسر، وخلق مشاكل ضخمة عصيَّة عن الحل، حيث يقول المدافعون، إن نص المادة الدستورية 92 تقول “تكون المحكمة الاتحادية العليا من عددٍ من القضاة، وخبراء في الفقه الإسلامي، وفقهاء القانون، يُحدد عددهم وتنظم طريقة اختيارهم وعمل المحكمة بقانونٍ يُسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب“.
وانطلاقًا من هذا النص، فإن إدراج أربعة أعضاء ليسوا قضاة للمحكمة الاتحادية بصفة فقهاء إسلاميين، واثنين آخرين بصفة مستشارين قضائيين ولكن ليسوا بقضاة، هو متوافق مع نص الدستور، وهذا يعني أن المشكلة الحاليّة بالقانون الجديد، هي بالأصل مشكلة موجودة بهذا الدستور الأعرج الذي جاءوا به بعد الاحتلال.
ومن هنا تأتي أخطر فقرات القانون الجديد، التي تعطي لأولئك الفقهاء الإسلاميين “حق الفيتو”، حيث ورد في نص المشروع بالمادة 12/ثانيًا، اشتراط موافقة ثلاثة أرباع خبراء الفقه الإسلامي على أي قانون، وهذا يعني عمليًا أن من حق أي عضوين من خبراء الفقه الإسلامي، استخدام الفيتو لرد أي قانون “يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام” من وجهة نظرهم، بما يعني أن الفقيهين الشيعيين يمكنهما التحكم بقرارات المحكمة الاتحادية بشكل كامل، وهذا بالضبط ما هو مطلوب إيرانيًا.
المشكلة الأخرى التي تتعلق بهذا القانون الجديد، أنه يخول الوقف الشيعي والوقف السني ترشيح الفقهاء الذين سيكونون أعضاءً في المحكمة الاتحادية، والجميع يعرف أن هذين الوقفين هما مؤسسات إدارية الغرض منها إدارة الأوقاف السنية والشيعية واستثمار أموالها ورعاية المؤسسات ذات الطابع الديني، ولا علاقة لها بتقييم مدى خبرة هؤلاء الفقهاء أو كفاءتهم الفقهية، مما يعني أن اعتماد هؤلاء الفقهاء، سيكون خاضعًا للأهواء السياسية والشخصية وبعيدًا عن الكفاءة المطلوبة لمثل هكذا منصب مهم.
إن تاريخ المحكمة الاتحادية التي تشكلت منذ 2003 ولحد الآن، ينبئنا كيف كان السياسيون مسيطرين عليها وعلى قراراتها، فما بالك إذا أُقر القانون الجديد؟
مشكلة أخرى تتعلق بالقضاة السبع الأصليين في تلك المحكمة وآلية اختيارهم، حيث أناطها القانون لرئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ورئاسة البرلمان، مما يعني أن أولئك القضاة، سيكونون خاضعين لأهواء السياسيين، وستكون سلطة السياسيين أعلى من سلطة القضاء، وهذا يخالف ما هو معمول به في كل دول العالم المتحضر، من وجوب فصل السلطات القضائية، عن أي تأثير سياسي.
إن تاريخ المحكمة الاتحادية التي تشكلت منذ 2003 ولحد الآن، ينبئنا كيف كان السياسيون مسيطرين عليها وعلى قراراتها، فما بالك إذا أُقر القانون الجديد؟ بالتأكيد ستكون سيطرة السياسيين أكثر وأكثر عليها، وستفسر أحكام الدستور بالشكل الذي يتوافق مع أهوائهم، وترسم ملامح النظام السياسي الذي تريده إيران ويتوافق مع متطلباتها من العراق، وستذهب أمنيات تأسيس نظام قضائيٍ عراقيٍ قوي لديه القدرة على مواجه الفاسدين الأساسيين من السياسيين الحاليّين ومحاسبتهم، أدراج الرياح، ويبقى حلمًا صعب المنال.
إن الحقيقة الماثلة أمامنا هي أن العراق على أعتاب مرحلة جديدة للتغير، ليس ديمغرافيًا وثقافيًا وفكريًا فحسب، بل إن جميع تلك التغيرات، سيتم تأطيرها بإطارٍ قانوني، وهذا أخطر ما في الموضوع.