ترجمة وتحرير: نون بوست
جلب القرار الذي اتخذته إحدى محاكم بغداد الذي يقضي بإعدام فرنسيين لانتمائهما لتنظيم الدولة، تاركين جميع الفرنسيين الأحد عشر الذين تم جلبهم من سوريا في مواجهة المشنقة، الأنظار العالمية إلى النظام القضائي في العراق. علاوة على ذلك، حاكم العراق الآلاف من مواطنيه الذين اعتقلوا على أرض الوطن لانضمامهم إلى تنظيم الدولة، بمن فيهم النساء. كما بدأت إجراءات محاكمة نحو 900 عراقي أعيدوا من سوريا.
وفقًا لتقرير صادر عن منظمة العفو الدولية في أبريل/ نيسان، لا يزال العراق من بين أكثر خمس دول في العالم الأكثر إعدامًا. علاوة على ذلك، زاد عدد أحكام الإعدام الصادرة عن المحاكم العراقية بأكثر من أربعة أضعاف بين عامي 2017 و2018 ليبلغ على أقل تقدير حوالي 271 إعدام.
بعد معركة الموصل وهزيمة تنظيم الدولة، اضطر نظام العدالة الجنائية العراقي إلى تحمل عبء ثقيل، حيث يتعين عليه التحقيق مع الأعداد الكبيرة من معتقلي تنظيم الدولة وملاحقتهم قضائيا
وفقًا لمنظمة العفو في سنة 2018، نُفذت 52 حالة إعدام مقارنة بحوالي 125 خلال العام السابق. وتعرض القضاة في الموصل وبغداد للهجوم مرارًا وتكرارًا بسبب أحكامهم، خاصة وأن المحاكمات لم تدم سوى لعشر دقائق. وعلى الرغم من أنه لا يمكن إنكار أن الكثير من العيوب لا تزال قائمة في نظام فاسد في معظمه وبيروقراطي بشكل كبير، إلا أنه يجب الاعتراف بالتحسينات ومحاولات الإصلاح العملية. وفي الواقع، عارض العديد من القضاة قوانين مكافحة الإرهاب في البلاد، على غرار عقوبة الإعدام.
شرعية القانون البابلي
على رف صغير بجانب مكتبه، يحتفظ سالم نوري، كبير قضاة محكمة الاستئناف في الموصل وأحد القضاة الذين يحاولون إجراء تغيير في النظام، بتماثيل صغيرة لقوانين حمورابي، قانون الشريعة البابلية في بلاد ما بين النهرين القديمة. وأخذ نوري التمثال من الرف ووضعه على كومة من الأوراق على مكتبه، وصرح لموقع “ميدل إيست آي” قائلًا: “هذا هو تاريخ العراق، وقد وُضعت أول مجموعة من القوانين في العالم على هذه الأرض. نحن نؤمن بالعدالة وسيادة القانون، ولهذا السبب كان القضاة في الموصل الهدف الأول لتنظيم الدولة منذ سنة 2014. وفي الوقت الراهن، نحاول العمل على استعادة مجتمعنا”.
في سنة 2014، غادر نوري المدينة رفقة أسرته وانتقل إلى أربيل، عاصمة حكومة إقليم كردستان. وفي سنة 2017، استعاد الجيش العراقي الموصل، بعد هجوم استمر قرابة تسعة أشهر استهدف تنظيم الدولة. وخلال معركة الموصل، قُصف منزل النوري ودمر بالكامل ودُمّرت معه كل “ذكرياته”.
وثقت منظمة “هيومن رايتس ووتش” هذه الانتهاكات، ونددت بأحكام قاسية صدرت في حق المئات من الأشخاص، بما في ذلك أحكام الإعدام الصادرة بموجب قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لسنة 2005.
في الوقت الراهن، أصبح بإمكان نوري العمل مرة أخرى في مدينته، ولكن بعد الانتهاء من العمل، أصبح يتعين عليه السفر إلى أربيل، الأمر الذي لا يمكن لقاضي التحقيق رائد المصلح، وهو قاض إصلاحي آخر، أن يفعله. وعلى العموم، تعيش أسرة مصلح في بغداد، وينام كل ليلة في غرفة صغيرة بجوار مكتب المحكمة الخاصة بقضايا الإرهاب في نينوى التي تبعد 12 كيلومترا شماليّ الموصل.
وفي هذا الصدد، قال المصلح مشيرا إلى أكوام من الأوراق: “يجب علي أن أدرس جميع الملفات وأن أزور المعتقلين حديثًا، للتحقق من الإجراءات. في المقابل، لأسباب أمنية، لا أسافر سوى كل 40 يومًا لزيارة أسرتي لقضاء عطلة نهاية الأسبوع”.
محاكمات العشر دقائق
بعد معركة الموصل وهزيمة تنظيم الدولة، اضطر نظام العدالة الجنائية العراقي إلى تحمل عبء ثقيل، حيث يتعين عليه التحقيق مع الأعداد الكبيرة من معتقلي تنظيم الدولة وملاحقتهم قضائيا. في المقابل، سرعان ما أصبح نظام العدالة الجنائية هدفًا للانتقاد من جانب منظمات حقوق الإنسان الدولية بسبب وجود عيوب في محاكمة أعضاء تنظيم الدولة المشتبه بهم.
في هذا الصدد، وثقت منظمة “هيومن رايتس ووتش” هذه الانتهاكات، ونددت بأحكام قاسية صدرت في حق المئات من الأشخاص، بما في ذلك أحكام الإعدام الصادرة بموجب قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لسنة 2005.
وفقا لمنظمة العفو الدولية، لا يزال العراق من بين أكثر خمس دول في العالم الأكثر إعداما
أثارت ما يسمى بمحاكمات العشر دقائق التي أُجريت في المحكمة الجنائية المركزية في الرصافة ببغداد، العديد من الانتقادات. وفي هذا السياق، أفاد المنتقدون أنه لم يتم تتّبع الإجراءات القانونية مع المتهمين، ما أثار غضب وسائل الإعلام الدولية العام الماضي. ولكن ما لم يلاحظه أحد إلى حد كبير، التحقيقات التي جرت قبل هذه الجلسات. وفي الآونة الأخيرة، سجل تقرير لهيومن رايتس ووتش تحسينات في الإجراءات، وخاصة العمل المنجز في تلكيف، حيث كان معظمه تحت إشراف المصلح.
في هذا الصدد، قال المصلح لموقع “ميدل إيست آي”: “يستند التحقيق الخاص بنا إلى أدلة وثائقية وليس فقط إلى الاعترافات: لدينا شهادات شهود للضحايا والناجين، فضلا عن أشرطة فيديو نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، ومواد جنائية ناهيك عن جميع أنواع الأدلة التي من شأنها أن تدعم التحقيق. ولكن في بعض الأحيان، تدمر وسائل الإعلام عملنا الاستقصائي. علاوة على ذلك، نحن بحاجة إلى دعم دولي لأن الإرهاب يشكل خطرا على جميع دول العالم”.
في شهر تموز/ يوليو الماضي، شارك المصلح في برنامج تدريبي رائد في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بهولندا، بدعم من مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة
كما أخبر ديفيد مارشال، قائد الفريق السابق لقسم المساءلة وإقامة العدل في بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى العراق، موقع “ميدل إيست آي” في تشرين الثاني /نوفمبر الماضي أن مجرد انتقاد نظام العدالة العراقي “غير عادل إلى حد ما”. والجدير بالذكر أن مارشال قد حضر العديد من جلسات المحكمة في مدينة الكرخ ببغداد، حيث كانت العملية أكثر احترافية بكثير من تلك التي وقعت في الرصافة. وفي هذا الإطار، قال مارشال: “هناك عدد كبير من ملفات التحقيقات، كما أن المحاكمات التي تستغرق 10 دقائق هي جلسات الاستماع النهائية التي لخصت أشهرا من تقصي الحقائق والتحقيق الذي يتكون بدوره من عدّة جلسات”.
دعم لاهاي
في شهر تموز/ يوليو الماضي، شارك المصلح في برنامج تدريبي رائد في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بهولندا، بدعم من مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة. وكان موضوع الورشة يتمثل في: “مساءلة تنظيم الدولة في العراق: جمع الأدلة والمحاكمات والتعاون الدولي”. ومن جهته، ساهم المصلح مع رئيس المجلس الأعلى للقضاء ورئيس القضاة فائق زيدان في شرح تحديات التحقيقات وجمع الأدلة وطريقة إجراء المحاكمات.
القاضي رائد المصلح، على اليمين، في اجتماع مع المحامي الجنائي الدولي وحقوق الإنسان كريم أسد خان
في هذا السياق، قال المصلح: “نحن في حاجة إلى تحالف لمحاربة تنظيم الدولة: ندعو الدول في العالم إلى تبادل جميع المعلومات. وإذا كانوا لا يريدون الحكم على المقاتلين الأجانب في بلدانهم الأصلية، فسنحكم عليهم هنا، وهو ما يعدّ أمرا ضروريا”. في الواقع، أتاح جمع القضاة العراقيين في لاهاي بنظرائهم من المحاكم الجنائية الدولية فرصة تبادل الخبرات فضلا عن تسليط الضوء على البعد الدولي للمحاكمات الجنائية التي تجري في لاهاي.
في أيار/ مايو من العام الماضي، عيّن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس كريم أسد خان مستشارًا خاصًا ورئيسًا لفريق تحقيق لدعم الجهود العراقية المحلية لمحاسبة تنظيم الدولة عن أفعالها. ونشأ الموقف عن قرار صدر سنة 2017 يدعو إلى إنشاء مثل هذا الفريق “لدعم الجهود المحلية لمحاسبة تنظيم الدولة من خلال جمع وحفظ وتخزين الأدلة في العراق من الأفعال التي قد ترقى إلى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية التي ارتكبتها المجموعة الإرهابية”. وتجدر الإشارة إلى أن خان، محام جنائي دولي ومحام في مجال حقوق الإنسان، يعمل حاليًا بالتعاون مع الحكومة العراقية والمحاكم لمدة عامين.
قانون مكافحة الإرهاب عرضة للانتقادات
في إشارة إلى القانون عدد 13، صرّح محامي الدفاع فراس الخزعلي لموقع ميدل إيست آي قائلا: “تكمن المشكلة في قانون [مكافحة الإرهاب] الصادر سنة 2005. فوفقًا لهذا القانون، كل شخص متهم باضطلاعه بدور، سواء كان رئيسيا أو ثانويا، في منظمة إرهابية يعتبر مذنبا ويمكن الحكم عليه بالسجن مدى الحياة [20 سنة في العراق] أو الإعدام”. وأضاف الخزعلي قائلا: “يشعر القضاة والمحامون العراقيون بالضغط الشديد والتهديد لأنهم في حال دافعوا عن متهم أو منحوه العفو، فيمكن اعتبارهم من داعمي تنظيم الدولة. نحن في حاجة ماسة لإصلاح القانون”.
يتمتع القضاة والمدعون العامون في العراق بخبرة كبيرة في القضايا المتعلقة بالإرهاب لدرجة أنهم يمكنهم التعرّف في بعض الأحيان على بعض المتهمين الذين وقفوا أمامهم في محاكمات سابقة
فضلا عن ذلك، أعرب قاضي آخر في بغداد، طلب عدم الكشف عن هويته، عن عدم ارتياحه لقانون مكافحة الإرهاب العراقي. وفي هذا الصدد، قال القاضي: “أنا ضد عقوبة الإعدام، لكن في بعض الأحيان، استنادا للأدلة التي جرى جمعها خلال التحقيقات، وباتباع القانون، ينبغي علي أن أصدر على بعض المتهمين الحكم بالإعدام. هذا لا يعبّر عن كياني؛ إنه لا ينتمي إلى ثقافتي”.
أوضح القاضي ذاته أنه في بعض الحالات يتوصّل خلال جلسات الاستماع إلى أن بعض النساء لا تربطهن أي صلة بتنظيم الدولة، وبالتالي أمر بالإفراج عنهن. ولكن بعد ذلك أُعيد النظر في هذه القضايا، وكان عليه أن يصدر عليهن أحكاما لمجرد انتماء أزواجهن إلى هذا التنظيم.
الوجوه القديمة ذاتها
يتمتع القضاة والمدعون العامون في العراق بخبرة كبيرة في القضايا المتعلقة بالإرهاب لدرجة أنهم يمكنهم التعرّف في بعض الأحيان على بعض المتهمين الذين وقفوا أمامهم في محاكمات سابقة. وفي هذا السياق، كشف قاضي تحقيق سابق ويشغل حاليا منصب قاضي جنائي في الرصافة، جواد حسين، مستخدما الاسم المختصر باللغة العربية “لتنظيم الدولة” أن “العديد من المتهمين في مجزرة سبايكر فروا من سجن أبو غريب سنة 2013 ولجؤوا إلى الصحراء في الأنبار، ثم انتقلوا للعيش في جميع المحافظات عندما استولى تنظيم الدولة على السلطة”.
وفقا للقانون، يحق للمتهم الدفاع عن نفسه، كما يحق له أن يحظى بمحاكمة عادلة، لكن غالبا ما يقرّ المتهم بأنه اعترف بارتكابه للجرائم الموجهة إليه تحت التعذيب
وتابع المصدر ذاته قوله: “أنا أعرفهم شخصيا، لقد أدنت البعض منهم سنة 2010. وكان شقّ آخر منهم يقضون عقوباتهم في السجن المحلي في محافظة صلاح الدين، حيث كنت أتعامل مع قضاياهم. لقد فروا من السجن في العاشر من حزيران/ يونيو سنة 2014، ولإثبات ولائهم لتنظيم الدولة، أُمروا بالمشاركة في القتل الجماعي لطلاب القوة الجوية في قاعدة سبايكر بعد مرور يومين على فرارهم”. وفي 12 حزيران/يونيو سنة 2014، قتل تنظيم الدولة حوالي 1700 من طلاب القوة الجوية العراقية، الذين ينتمون إلى الطائفة الشيعية، في هجوم على قاعدة سبايكر الواقعة في مدينة تكريت.
خطأ في تحديد الهوية
وفقا للقانون، يحق للمتهم الدفاع عن نفسه، كما يحق له أن يحظى بمحاكمة عادلة، لكن غالبا ما يقرّ المتهم بأنه اعترف بارتكابه للجرائم الموجهة إليه تحت التعذيب. ومن جانبها، قالت محامية الدفاع نور خالد، التي كانت تتعامل مع قضايا الإرهاب على مدى السنوات الخمس الماضية: “لقد اكتسبت ثقة العائلات، لذلك اتصلوا بي. أنا أتولى القضايا حين أكون متأكدة من أن المتهم بريء وأنه زُجّ به في السجن ظلما”، مضيفة “ينبغي عليّ تقديم تقرير طبي لإثبات أن موكلي تعرض للتعذيب حتى يعترف بجرائم لم يرتكبها”.
خلال التحقيقات، ينبغي التحقق من صحّة جميع المعلومات والإقرارات لبلوغ الحقيقة. فضلا عن ذلك، يجب على القاضي فتح تحقيقات في حال وجود مزاعم بتعرض المتهم للتعذيب على الرغم من أن ذلك في الحقيقة يعد نادر الحدوث
بعد جلسة المحكمة، كان أحد موكّليها، الذي تحدث إلى موقع ميدل إيست آي وطلب عدم ذكر اسمه، لاعب كرة قدم سابق، حيث قال: “لقد وُجّهت إلي تهم بوضع قنبلة يدوية في سيارة تابعة للجيش، لكنني بريء من هذه التهم”. وأكدت المحامية أنه ربما وقع ضحية لخطأ في تحديد الهوية. وفي هذا الإطار، قال فراس الخزعلي: “لدينا العديد من الأسماء المتشابهة في العراق، والكثير من الرجال الأبرياء يقبعون داخل السجون من أجل هذا السبب”. وأردف الخزعلي قائلا: “هناك مشكلة أخرى تتمثل في وجود المخبرين السريين، فبعضهم تابع لأجهزة الأمن، والبعض الآخر مجرّد مواطنين عاديين بإمكانهم اتهام أحد جيرانهم لخدمة مصالحهم الشخصية”.
أن يظل رجل مذنب طليقًا خير من أن يُسجن أحد الأبرياء
خلال التحقيقات، ينبغي التحقق من صحّة جميع المعلومات والإقرارات لبلوغ الحقيقة. فضلا عن ذلك، يجب على القاضي فتح تحقيقات في حال وجود مزاعم بتعرض المتهم للتعذيب على الرغم من أن ذلك في الحقيقة يعد نادر الحدوث. ما زال خالد المشهداني، الذي يشغل منصب رئيس استئناف محاكم الكرخ في بغداد، يملك ثقة في عمل القضاة.
في هذا الصدد، قال المشهداني: “لقد عملت في الأنبار منذ سنة 2006، وأعمل على الجرائم التي ارتكبها المنتمون إلى تنظيم القاعدة. وأنا ملمّ بالأساليب والطرق التي يتبعونها، لكن من الصعب للغاية إصدار أحكام في كل هذه القضايا”. وبيّن المشهداني لموقع ميدل إيست آي أنه “في ظل وجود صعوبات أو عدم اليقين، سنستمر في إدانة أو إطلاق سراح رجل أو امرأة في هذا البلد”. وأضاف المشهداني قائلا: “نحن نتبع المبدأ الذي كُتب في الحديث النبوي، والذي يعني “أن يظل رجل مذنب طليقا خير من أن يُسجن أحد الأبرياء”.
المصدر: ميدل إيست آي