برزت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بقدرتها الفريدة على الصمود أمام قوة الاحتلال الإسرائيلي وتفوقه العسكري، حيث تمكنت بنيتها العسكرية من الحفاظ على استمرارية العمليات اليومية، سواءٌ من خلال محاولات التصدي لعمليات التقدم البري أم عبر الضربات الصاروخية المتواصلة.
جرى كل ذلك على مدار عام ونيف، في استعراض لافت للإرادة والقدرة العملياتية، لا سيما أن طبيعة قطاع غزة تمثل تحديًا استثنائيًا، إذ إن بيئته الطبوغرافية مكشوفة و”محروقة”، ما يحد بدرجة كبيرة من القدرة على المناورة العسكرية التقليدية، خاصةً أن القطاع يواجه إطباقًا استخباراتيًا إسرائيليًا شاملًا، إذ تخضع أراضيه كافة لتغطية مستمرة من الرادارات وأجهزة المراقبة المتطورة، إلى جانب الأقمار الصناعية والطائرات المسيرة الأحدث عالميًا.
وضعت هذه الظروف المقاومة أمام مسؤولية ابتكار أساليب دفاعية فريدة ومتكيفة مع الواقع، فاعتمدت استراتيجية صُمِمت للتعامل مع الهجمات الكبرى، خصوصًا القصف الجوي المكثف، حيث ركزت على إلحاق أكبر قدر ممكن من الخسائر بالقوات الغازية مع تقليل استنزاف الأفراد والعتاد إلى الحد الأدنى. ولتحقيق ذلك، تجنبت المقاومة إنشاء خطوط دفاعية ثابتة، وبدلًا من ذلك اعتمدت على تعطيل تقدم العدو بطرق تكتيكية قائمة على الحركة والتخفي.
على الأرض، استندت المقاومة إلى استخلاص دروس حرب المدن حول العالم، وتكييفها مع بيئة غزة وخصائص جيش الاحتلال، فطورت استراتيجية شاملة ترتكز على 4 أضلاع مترابطة: الزمرة العسكرية، والعُقد القتالية، وشبكة الأنفاق، وشبكة الاتصالات الأرضية المغلقة، إلى جانب تطوير الكادر البشري لإعداد أفراد قادرين على تجاوز التعقيدات العملياتية، وتحقيق أعلى كفاءة ممكنة في مواجهة التحديات الميدانية.
قتال المدن والحروب غير المتكافئة
في بحثه الشهير “لماذا تخسر الأمم الكبيرة الحروب الصغيرة”، الذي نُشِر لاحقًا في دورية “السياسات العالمية” في العام 1975، يقدم السياسي الأمريكي، أندرو ماك، تحليلًا جوهريًا للحروب غير المتكافئة، مشيرًا إلى أنه حتى الحرب العالمية الثانية كان المفهوم السائد في النظرية العسكرية يعتمد على أن التفوق في القدرات العسكرية يؤدي تلقائيًا إلى النصر في الحروب.
إلا أن المواجهات الدراماتيكية التي تلت هذه الحرب، خصوصًا في الحقبات اللاحقة، مثل حرب فيتنام والصراعات في العالم الثالث، كشفت عن هشاشة هذا الافتراض، فقد انتهت معظم تلك المواجهات بانهزامات مروعة لقوى عسكرية جبارة، ما أثبت أن التفوق العسكري وحده لا يكفي لتحقيق النصر عندما تواجه القوى الكبرى خصومًا محليين أضعف.
أدت هذه الصراعات إلى سقوط المفهوم التقليدي للحرب، خاصةً في الحالات التي تتورط فيها الجيوش الكبرى في نزاعات خارج أراضيها، إذ غالبًا ما تواجه تلك الجيوش قوى محلية محفزة بدوافع متعددة، ومستعدة للانخراط في قتال طويل الأمد بطابع مختلف، وبأسلوب يتجاوز أسس الحروب النظامية، وهو ما تطور تدريجيًا ليصبح قتال المدن.
يُعد قتال المدن الشكل الأشد تعقيدًا ودموية من قتال العصابات، وأشرس أصناف المواجهة العسكرية، إذ يستنزف القوات المهاجمة بدرجة كبيرة عبر توظيف البيئة الحضرية لصالح المدافعين، وتختلط فيه خطوط التماس وتُفرض معارك ضارية على مستوى الشوارع والأبنية، ما يربك القوات النظامية التي تعتمد على التفوق التكنولوجي والتكتيكات التقليدية.
خاصةً أن المسافة القريبة التي تفرضها ساحة المعركة أكبر المعضلات التي تخشاها الجيوش النظامية، إذ يُحيد الفارق التكنولوجي والغطاء الجوي بفعل الاشتباكات عند “المسافة الصفرية”.
في حالة قطاع غزة، ووفقًا لتقرير نشرته صحيفة “تلغراف” البريطانية، فإن “المقاومة الفلسطينية أخذت بعض التكتيكات الدفاعية الحضرية الشائعة ووضعتها على مستوى لم يره أحد من قبل”، وهو ما وصفه خبير الحرب في المناطق الحضرية في أكاديمية “ويست بوينت” العسكرية بالولايات المتحدة، جون سبنسر، بأن غزة أثبتت أنها واحدة من أصعب المعارك الحضرية في التاريخ، حتى بالمقارنة مع الموصل أو ستالينغراد، مشيرًا إلى أن المقاومة كان لديها “15 عامًا للاستعداد لهذه اللحظة”، وأنها عملت جاهدة “لتحويل كل شبر إلى مشكلة لأفضل جيش في العالم”.
أقل من جيش وأكبر من ميليشيا
ارتباطًا بخلاصات تجارب حروب المدن الكبرى، والتجارب العملية التي خاضتها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، يمكن فهم تطورها الحالي على أنه نتاج تراكم خبرات ومراحل متعددة من المواجهة.
منذ المناورتين البريتين السابقتين لجيش الاحتلال في قطاع غزة، الأولى في العام 2008 والثانية في العام 2014، وعلى الرغم من محدودية هاتين المناورتين، فقد قدمتا للمقاومة دروسًا ميدانيةً قيمةً أضيفت إلى خبراتها السابقة التي تشكلت خلال الاجتياحات الإسرائيلية في فترة انتفاضة الأقصى، إذ كانت تلك العمليات تُنفذ انطلاقًا من المستوطنات الإسرائيلية داخل قطاع غزة.
بناءً عليه، فقد استندت المقاومة إلى تحليل منهجي للمناورات العسكرية التي يجريها الاحتلال، ودراسة خططه التطويرية، في مقابل صياغة خططها الخاصة للتعامل مع سيناريوهات محتملة، أبرزها محاولة الاحتلال إعادة احتلال القطاع بالكامل، وعلى الرغم من أن هذا السيناريو بدا بعيدًا في مراحل متعددة، فإن تقديرات المقاومة الاستراتيجية كانت تدرك إمكانية تحققه في ظل الحكومات الإسرائيلية ذات الطابع العدواني المتعاقب، واستمرار الحصار على القطاع، وجولات الاشتباك التي تندلع بين الحين والآخر.
على مدار السنوات الأخيرة، وسعت المقاومة من تجنيدها وتسليحها وتنظيم بنيتها العسكرية، لتصبح أشبه بجيش صغير متكامل، وقد حققت “كتائب القسام”، بوصفها القوة العسكرية الرئيسية في القطاع، نقلةً نوعيةً في بنيتها، إذ باتت تمتلك هيكلًا هرميًا وهيئة أركان مركزية، وأسلحة تخصصية تشمل وحدات الهندسة، والدروع، والمدفعية، بالإضافة إلى وحدات النخبة.
صُمِمت هذه الوحدات لتكون قادرة على تنفيذ عمليات دقيقة في أصعب الظروف الميدانية، ما جعل الكتائب تبدو في مظهرها أقرب إلى الجيوش الصغيرة. مع ذلك، وعلى الرغم من هذا التطور الهيكلي، نجحت المقاومة في الحفاظ على طبيعتها كميليشيا عسكرية غير نظامية.
وبدلًا من أن تصبح قوة عسكرية ثقيلة يسهل استهدافها أو شل حركتها عبر تعطيل نظامها القيادي الهرمي، وظفت المقاومةُ تكوينها الهجين بين خصائص الجيوش الصغيرة الحديثة والطبيعة اللامركزية للميليشيات، لتحقيق مرونة ميدانية استثنائية، فاستثمرت في تطوير قدراتها الفنية والتقنية، إلى جانب تعزيز الجوانب اللوجستية والاستخبارية، ما مكّنها من إدارة العمليات بطريقة تضمن الحد الأدنى من الاستنزاف من جهة، وتحافظ على عنصري المفاجأة والابتكار في المواجهة من جهة أخرى.
كما عملت المقاومة على تحقيق أقصى استفادة من البيئة الحضرية في قطاع غزة كساحة معركة، حيث يشكّل التداخل بين الاكتظاظ السكاني والبنية التحتية عنصرًا دفاعيًا طبيعيًا يعزز من فاعلية القوات المحلية ويحد من قدرة الجيش النظامي على المناورة.
مربع المقاومة الدفاعي
في ضوء السابق، يمكن استخلاص الاستراتيجية الدفاعية للمقاومة باعتمادها على 4 أضلع رئيسية تُمكنها من إحداث نموذجًا من أكثر نماذج حرب المدن تعقيدًا في العصر الحديث، وقد استند المربع إلى التالي:
الزمرة العسكرية: وفقًا للتعريف العسكري، فإن الزمرة نقطة بداية التشكيل، وهي أصغر وحدة تكتيكية في القوات العسكرية النظامية وغير النظامية، وتتميز بمرونة عالية في التحرك والقيام بمهام مستقلة أو ضمن تشكيل أكبر. في حالة المقاومة الفلسطينية تشكل الزمرة قاعدة الهيكل العسكري للأجنحة المسلحة.
تتكون الزمرة من عدد محدود من المقاتلين يتراوح بين 5 و10 أفراد، يقودهم آمر، ويُختارون بعناية وفقًا لتخصصاتهم وقدراتهم، وتشمل في العادة تنوعًا وظيفيًا بين المقاتلين، مثل متخصص الدروع الذي يمتلك مهارات في استهداف وإعطاب المدرعات والدبابات باستخدام القذائف المضادة، ومتخصص الهندسة المسؤول عن إعداد المتفجرات وزرع العبوات الناسفة لتأمين المناطق أو استهداف القوات المهاجمة.
إلى جانب ذلك، قد تحتوي الزمرة على قناص بارع يتمركز في نقاط استراتيجية لتأمين الغطاء الناري لبقية أفراد الزمرة أو تعطيل تحركات العدو، وقد يُخصص أحد أفراد الزمرة عادةً للاتصال، حيث يكون مسؤولًا عن إدارة قنوات الاتصال الأرضية أو المشفرة، لضمان استمرار التواصل مع القيادة الميدانية أو الزمر الأخرى.
في غالب الحالات أيضًا، تضم الزمرة فردًا مخصصًا للإعلام والتوثيق أو يخضع أحد أعضائها لتدريب على التعامل مع أدوات الإعلام، يعمل على تسجيل العمليات القتالية بهدف تعزيز الروح المعنوية وبناء سرد إعلامي يعكس قوة المقاومة، مع ضمان الالتزام بمعايير التوثيق الأمني وعدم الكشف عن المواقع أو الشخصيات.
العُقد القتالية: موقع عسكري محصن ومُعد بعناية، تتمركز فيه مجموعة من المقاتلين لتنفيذ مهام قتالية محددة ضمن إطار خطة تكتيكية أو استراتيجية، وهي وحدة دفاعية وهجومية في آن واحد، مصممة لاستثمار الموقع الجغرافي والبيئة المحيطة لإيقاع أكبر ضرر ممكن بالعدو، مع ضمان الحماية النسبية للمقاتلين داخلها، وقد سبق أن أشار إليها الناطق باسم “كتائب القسام” في عدد من الإعلانات عن عمليات وكمائن ناجحة.
تعمل العقدة القتالية بوصفها وحدة تكتيكية مستقلة أو كجزء من خطة عملياتية أوسع، وقد تشغل العقدة زمرة عسكرية واحدة أو أكثر، حسب طبيعة المهمة والاحتياجات العملياتية، ما يمنحها مرونة تكتيكية عالية تمكنها من التكيف مع متغيرات المعركة. في العديد من الحالات، قد تشترك أكثر من عقدة قتالية في تنفيذ كمين واحد أو عملية كبيرة، لتنسيق الضربات وتوسيع نطاق الاشتباك ضد قوات الاحتلال.
في بعض الكمائن، مثل “كمين البراء” في حي تل الهوا، كمنت العقدة القتالية في موقعها لما يقارب 8 أشهر وفقًا لإعلان “كتائب القسام”، منتظرةً وصول قوات الاحتلال إلى النقطة المستهدفة، وهو ما يعكس استعداد المقاتلين لتحمل ظروف قاسية لفترات ممتدة، مع الحفاظ على السرية الكاملة والجاهزية القتالية العالية لضمان نجاح مهمتهم.
في العمليات الكبرى، قد تتعاون عدة عقد قتالية ضمن خطة تكتيكية موحدة لتحقيق أهداف معقدة أو لتوسيع نطاق الاشتباك، يسمح هذا التنسيق للمقاومة بزيادة الضغط على قوات الاحتلال، وخلق مناطق اشتباك متعددة تُربك خطط العدو وتجبره على توزيع قواته.
على سبيل المثال، قد تنفذ عقدة قتالية كمينًا مركزيًا يستهدف قوة متقدمة، بينما تشارك عقدة أخرى في تأمين خطوط الانسحاب أو استهداف الإمدادات اللوجستية، وقد ظهر هذا في العديد من توثيقات المقاومة لعدد من الكمائن الكبيرة.
شبكة الأنفاق: في التعريف العسكري، فإن الأنفاق بنى تحتية تحت الأرض تستخدم للأغراض الدفاعية والهجومية، ولضمان مرونة الحركة والتمويه، بما يُمكّن القوات من تنفيذ عملياتها مع تقليل الخسائر البشرية والمادية.
في حالة المقاومة الفلسطينية، تحولت الأنفاق إلى شبكة معقدة تُغطي مناطق واسعة من القطاع، ما جعل غزة بيئة مناورة شديدة التعقيد و”عالمًا تحت الأرض” مخفيًا عن أعيُن الاحتلال، يصعب على أجهزته الاستخباراتية ومعداته التقنية تعقبه ومواجهته.
حولت المقاومة الفلسطينية الأنفاق إلى عنصر استراتيجي يغير قواعد المواجهة مع الاحتلال، فلم تعد الأرض المكشوفة العامل الوحيد في الاشتباك، إذ خلقت الأنفاق، التي تمتد لعشرات الكيلومترات وتتشعب بطرق محصنة، بُعدًا تحت الأرض يربك الاحتلال، ويصعّب عليه تعقب حركة المقاتلين أو تعطيل قدراتهم.
تتعدد مهام الأنفاق في حالة المقاومة الفلسطينية لتشمل التالي:
الأنفاق الدفاعية: تُستخدم هذه الأنفاق لتمكين المقاتلين من التنقل بين مواقع الاشتباك والدفاع عن المناطق الاستراتيجية، وتتيح تنفيذ الكمائن المفاجئة، والانسحاب الآمن بعد إتمام المهمة، ما يُربك قوات الاحتلال ويمنعها من تحقيق تقدم ميداني سلس.
الأنفاق الهجومية: تُعد هذه الأنفاق أداة حيوية للمقاومة، إذ تُستخدم لاختراق خطوط العدو وتنفيذ عمليات نوعية داخل الأراضي المحتلة، وتشمل ممرات تصل إلى خلف خطوط العدو، ما يمنح المقاتلين ميزة المباغتة والقدرة على تنفيذ هجمات مؤثرة ضد المواقع العسكرية أو المستوطنات، وقد استُخدم عدد منها في عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
أنفاق القيادة والسيطرة: تُخصص هذه الأنفاق كمراكز قيادة محصنة تُمكّن القيادات العسكرية من اتخاذ القرارات وإدارة العمليات الميدانية، وتحتوي على غرف عمليات مزودة بالمعدات اللازمة لضمان استمرار التواصل بين مختلف العقد القتالية حتى في ذروة القصف المكثف.
أنفاق مقاسم الاتصال: تُستخدم هذه الأنفاق لضمان التواصل بين مراكز القيادة والوحدات الميدانية، يجري عبرها تمديد شبكات اتصال مغلقة وآمنة، ما يتيح تبادل المعلومات وتنسيق العمليات بعيدًا عن الرقابة الإسرائيلية.
وصلات الأنفاق للوحدات الصاروخية ومرابض الهاون: تمثل الأنفاق وصلات استراتيجية تصل بين وحدات إطلاق الصواريخ ومرابض الهاون من جهة، ومخازن التذخير والنقل اللوجستي من جهة أخرى، وتتيح هذه الوصلات نقل الذخائر والمقاتلين، وضمان تنفيذ الهجمات الصاروخية دون انكشاف مواقع الإطلاق، ما يعزز من استدامة القدرة الهجومية للمقاومة.
أنفاق التأمين الاستراتيجي: تُعد هذه الأنفاق عنصرًا حساسًا في بنية المقاومة، إذ تُخصص لتأمين مكونات استراتيجية مهمة، كالأسرى النوعيين خاصةً فئة الجنود الإسرائيليين الأسرى الذين يُشكلون الوزن التفاوضي الأثقل، كما تؤمّن هذه الأنفاق الأصول الاستراتيجية الأخرى مثل كوادر القيادة العملياتية المركزية، أو مخازن ذات طبيعة نوعية سواء للتسليح أم قدرات التصنيع والتطوير التكنولوجي واللوجستي. وتكون هذه الأنفاق في العادة في مواقع شديدة السرية، معزولة عن الشبكة الرئيسية لضمان عدم كشفها، ومزودة بوسائل تأمين اضافية.
وفقًا للكاتب دافني ريتشموند بارا، الذي نشر مقالًا في مجلة مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية، فإن استخدام حماس للأنفاق متقدم للغاية، لدرجة أنه يشبه إلى حد كبير كيفية استخدام الدول للهياكل تحت الأرض لحماية مراكز القيادة والسيطرة أكثر مما هو معتاد بالنسبة إلى الجهات الفاعلة غير الحكومية.
شبكة الاتصال الأرضية: تُعد هذه الشبكة أداة حيوية لضمان استمرار التواصل بين مراكز القيادة والعمليات الميدانية، حتى في ظروف الحرب والقصف المكثف، وهي مصممة لتكُون مؤمنة ومغلقة بالكامل وبعيدة عن محاولات التنصت أو التشويش الإلكتروني، ومعزولة عن قدرات الاحتلال الإسرائيلي التقنية والاستخباراتية على اختراقها، وذلك من خلال اعتمادها على كابلات أرضية مدفونة بعناية داخل شبكة الأنفاق.
تربط هذه الشبكة العقد القتالية مع غرف القيادة والسيطرة والعمليات وخلايا الاستخبارات والإعلام، ما يُتيح للمقاومة التواصل الآمن بين مراكز القيادة ومواقع المقاتلين الميدانيين ووحدات الإطلاق الصاروخي ومرابض المدفعية.
تُعد هذه الشبكة هدفًا استراتيجيًا للاحتلال الإسرائيلي، الذي حاول مرارًا استهدافها واختراقها، وقد كانت إحدى أبرز هذه المحاولات في عملية وحدة “سيريت متكال” الخاصة في العام 2018، إذ حاولت الوحدة التسلل إلى مدينة خانيونس لاختراق الشبكة الأرضية وزرع أجهزة تجسس تهدف إلى تعطيلها أو فك شيفراتها، إلا أن العملية باءت بالفشل عندما كشفتها المقاومة، وتمكنت من قتل قائد الوحدة الإسرائيلية وإفشال المهمة.
كانت هذه العملية واحدة من سلسلة محاولات إسرائيلية تستهدف الشبكة، بما في ذلك هجمات إلكترونية أو قصف مكثف للمناطق المشتبه باحتوائها على كابلات الاتصال، وأمام كل هذا الاستهداف، أظهرت الشبكة مرونة كبيرة في مواجهة هذه الهجمات، واستمرت في أداء دورها الحيوي، ما جعلها أحد أسباب “العمى الاستخباراتي” الذي يعاني منه الاحتلال في غزة.
إدارة المخاطر في البنية العسكرية للمقاومة
وضعت المقاومة الفلسطينية نصب أعينها المخاطر المتعددة التي قد تخلقها بيئة العمليات الحربية، كجزء أساسي من استراتيجيتها الدفاعية وتشكيلها المرن، مدركةً أنه لا يمكن لأعتى المخططين العسكريين استشراف الاستراتيجيات الهجومية للعدو استشرافًا كاملًا.
بناءً على هذا، تجهزت المقاومة للتعامل مع أسوأ السيناريوهات لضمان سلامة البنية العسكرية واستمرارية القدرة على الصمود والتكيف مع التطورات. في هذا السياق، واجهت المقاومة معضلتين أساسيتين كانتا تشكلان تهديدًا كبيرًا في معركتها الكبرى مع الاحتلال:
الأولى إمكانية تعرُض مخازن التسليح المركزية لضربة مباغتة، ما قد يؤدي إلى فقدان أدوات المواجهة الرئيسية، والثانية تتعلق بإمكانية توجيه ضربة مركزة لغرف القيادة المركزية والثانوية، ما قد يُحدِث فراغًا قياديًا يضع آلاف المقاتلين في الميدان دون تسليح أو توجيه.
لتفادي هذه المخاطر، اتبعت المقاومة استراتيجية توزيع الموارد العسكرية والتسليح توزيعًا أفقيًا ولا مركزيًا يغطي أرجاء قطاع غزة كافة، وبدلًا من الاعتماد على مخازن تسليح مركزية، اعتمدت المقاومة توزيعًا استراتيجيًا يضمن امتلاك كل لواء في هيكلها التنظيمي تسليحه الكامل، موزعًا على كتائبه وسراياه، وصولًا إلى الزمر العسكرية.
لم يقتصر الأمر على التجهيز الأساسي، بل شملت هذه الخطة تجهيز كل عقدة قتالية بالتسليح اللازم لتنفيذ مهامها الميدانية مع توفير خطوط دعم معروفة للتزويد المستمر، ضمن نهج يضمن استقلالية كل وحدة ميدانية في استخدام وتسليح عتادها، ما أفشل بدرجة كبيرة محاولات الاحتلال الإسرائيلي الرامية إلى القضاء على القدرات التسليحية للمقاومة عبر ضربات جوية مركزة، وهي ضربات كان يُفترض بها أن تشل البنية العسكرية للمقاومة، إلا أنها انتهت بنتائج محدودة للغاية بسبب هذا النظام اللامركزي، ما أتاح استمرار العمليات القتالية دون انقطاع.
على مستوى القيادة والسيطرة، أدركت المقاومة مبكرًا أن الاعتماد على منظومة مركزية بالكامل قد يشكل نقطة ضعف كبيرة. لذلك، استثمرت استثمارًا عميقًا في العنصر البشري، مع التركيز على بناء كادر قيادي يمتد من القاعدة إلى القمة، يكون قادرًا على العمل بمرونة ميدانية حتى في أسوأ الظروف.
كان كل قائد زمرة قتالية يتلقى تدريبات مكثفة تمكّنه من اتخاذ قرارات ميدانية مستقلة، وتطوير استراتيجيات لحظية تتناسب مع طبيعة الاشتباك الميداني، ما يضمن الاستمرارية في العمليات حال انقطاع الاتصال بالقيادة العليا، ويحوّل كل تشكيل قاعدي إلى وحدة قيادية قادرة على العمل ككيان مستقل عند الضرورة.
ضمن هذا الإطار، دشنت المقاومة أكاديميات تدريب تخصصية، وكان أبرزها لدى “كتائب القسام”، التي وضعت مناهج تعليمية متكاملة تغطي جميع الجوانب العسكرية والاستراتيجية والعقائدية، وتضمنت بناء نظريًا وفكريًا يسعى إلى تشكيل مقاتلين يتمتعون بوعي عميق وقدرة على التعامل مع التحديات الميدانية كافة.
لم تقتصر المناهج على التدريب الميداني، بل شملت أيضًا تشكيل وعي سياسي وعقيدة عسكرية متكاملة تُمكّن المقاتلين من سد أي فراغ قيادي قد ينشأ نتيجة استهداف القيادات العليا. وقد كشف الاحتلال الإسرائيلي أنه صادر في بعض عملياته نسخًا منها، ونشر صورًا تُظهر مدى عمق الإعداد الفكري والاستراتيجي الذي يخضع له كوادر المقاومة.
أثبتت هذه التحضيرات فعاليتها في خلال المعارك الكبرى مع الاحتلال، فطوال أشهر الحرب استمرت العقد القتالية في العمل بكفاءة، فنفذت عمليات نوعية دون تأثُر يُذكر بالاستهدافات المركزة، وقد أمنت الطبيعة اللامركزية لمنظومة القيادة التقليص الأقصى لتأثير عمليات الاغتيال التي استهدفت القادة الميدانيين، وحافظت على التناغم العملياتي بين مختلف وحدات المقاومة.
بفضل هذا النظام اللامركزي والتأهيل المكثف للعناصر القيادية، نجحت المقاومة في تحويل تحديات بيئة الحرب إلى فرص عززت من قوتها واستدامة عملياتها، وفعالية غير معهودة في مواجهة جيش يملك قدرات تقنية واستخباراتية متفوقة.
غزة وإعادة تعريف حروب المدن
أثبتت التجربة العسكرية في غزة خلال المواجهات المتكررة مع الاحتلال الإسرائيلي، و”طوفان الأقصى” على نحو الخصوص، أن المقاومة الفلسطينية قادرة على تحويل أكثر البيئات المكشوفة والمراقبة إلى واحدة من أعقد ساحات القتال في العالم.
استندت الإضافة التي شكلتها تجربة غزة إلى تكتيكات مبتكرة واستراتيجيات خاصة ستعيد تعريف مفهوم حروب المدن، وتضع غزة نموذجًا متقدمًا على قدرة القوى غير النظامية على التكيف مع بيئات العمليات الصعبة، مستفيدةً من مزيج بين العقيدة القتالية والابتكار في استخدام البيئة الحضرية.
تُجسّد المقاومة الفلسطينية في غزة جوهر ما وصف ماو تسي تونغ به حرب العصابات، حين قال: “عندما يتقدم العدو، فإننا نتراجع، وعندما يخيم نناوش، وعندما يتعب نهاجم، وعندما يتراجع نطارده”، إذ عملت المقاومة على تجنب الدخول في مواجهات مباشرة وفقًا لشروط الاحتلال، تطبيقًا أيضًا لما أشار إليه الأمريكي أندرو مارك في قاعدته الأساسية: “رفض قوى التمرد مواجهة العدو النظامي وفقًا لشروطه، بل وفقًا للقواعد التي تناسبها والظروف التي تختارها”.
وتحت عنوان “دروس من حروب إسرائيل على غزة”، خلُص مركز “راند” إلى أن العمليات الإسرائيلية في غزة منذ العام 2009 أظهرت مدى صعوبة قراءة المشهد في الشرق الأوسط، فقد نجحت المقاومة الفلسطينية في استغلال الضغوط السياسية والاقتصادية داخل “إسرائيل” لصالحها، بينما جعلت من بيئة غزة نموذجًا للتكيف مع التحديات غير التقليدية.
إحدى أبرز الأدوات التي جعلت غزة نموذجًا فريدًا، شبكةُ الأنفاق التي حولت بيئة القطاعِ المكشوفة إلى عالم تحت الأرض معقد ومخفي عن الاحتلال، وكما ذكرت “فورين بوليسي”، فإن “الأنفاق أثرت على العمليات في غزة بطرق لا حصر لها، فقللت من أهمية السطح، وقوضت احتمال تحقيق نصر إسرائيلي سريع، وأبطأت وتيرة العمليات، وجعلت إنقاذ الأسرى أكثر صعوبة”.
اضطر الجيش الإسرائيلي إلى استخدام “جميع أنواع الحيل الباطنية لإخراج مقاتلي حماس من تحت الأرض”، كما أشارت “فورين بوليسي”، ودفعت رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق، تامير هايمان، إلى الاعتراف بأن الحرب الحالية “الأصعب في تاريخ إسرائيل”، مشيرًا إلى أن المقاومة متغلغلة فوق الأرض وتحتها، ما يجعل من غزة بيئة قتالية لا يمكن السيطرة عليها بسهولة.
ختامًا، سيُخلد القتال في غزة بوصفه واحدًا من أبرز وأهم نماذج القتال الحديثة في الحروب غير المتكافئة، فقد تمكنت المقاومة من تحويل التحديات الكبرى إلى فرص، وصنعت بوسائلها المتواضعة معادلة جديدة في مواجهة الجيوش الأكثر تفوقًا في العالم وليس الجيش الإسرائيلي فقط.
هذه التجربة الفريدة ثمرة قادة نشأوا في ميدان القتال، وعملوا في ظل ظروف أمنية شديدة التعقيد، وتحت حصار مطبق امتد لعقود، قاتلوا وصمدوا بسلاح مُصنع محليًا، وأنفاق حفرها أبطال الإعداد بأياديهم العارية، وشبكات اتصال سلكية حمت سرية عملياتهم، وعقول جبارة فكرت وخططت، وعزائم لم تعرف يومًا التراجع أو التردد.
في قلب هذه المعركة الملحمية، ظهرت روح التضحية منقطعة النظير التي أضافت بُعدًا أخلاقيًا وإنسانيًا لنضال غزة، لتُصبح نموذجًا خالدًا يُلهم الشعوب المستضعفة حول العالم في نضالها من أجل الحرية والكرامة.