في 7 أكتوبر/تشرين الاول 2018، أعلنت مفوضية الانتخابات في البوسنة فوز الصربي القومي الموالي لروسيا ميلوراد دوديك، وشفيق ظافروفيتش مرشح حزب العمل الديموقراطي المحافظ، أبرز الأحزاب المسلمة، بالمقعدين المخصصين لطائفتيهما في المجلس الرئاسي الثلاثي، لينضما إلى مرشح الحزب الاجتماعي الديموقراطي الكرواتي المعتدل زليكو كوميتش، الذي شغل المقعد لولايتين متتاليتين، ليصعب مع هذه الانتماءات المتباينة حتى الآن إيجاد قاسم مشترك بين الرؤساء الثلاثة.
وبعد أكثر من شهر، وتحديدًا في 20 نوفمبر/تشرين الثاني، أدَّى الرؤساء الثلاثة اليمين الدستورية في هذه الدولة التي تعيقها الانقسامات القومية والطائفية بعد ربع قرن من الحرب، آملين أن تمثل هذه الرئاسة الثلاثية، المنصوص عنها في “اتفاق دايتون” الذي أنهى النزاع، المجموعات الرئيسية الثلاث ذات الانتماء القومي والطائفي في بلد يسكنه 3.5 ملايين نسمة، نصفهم بوسنيون مسلمون، وثلثهم من الصرب الارثوذوكس، وحوالي 1% يمنتمون إلى الكروات الكاثوليك.
منذ ذلك الحين، بدا الوضع السياسي تحديًا إضافيًا لمؤسسات هذا البلد الصغير الفقير في البلقان الذي يعاني من المحسوبية والفساد والبطالة، وبعد 9 أشهر من الانتخابات العامة، لم تشكل البوسنة حكومتها بعد، وذلك بسبب الخلاف بين الرئاسة الثلاثية حول عضوية حلف شمال الأطلسي “الناتو”، فقد علقت البلاد على مفترق طرق منذ أن دعا أكبر تحالف عسكري في العالم البوسنة للانضمام إلى خطة العمل المتعلقة بمنح العضوية، الأمر الذي من شأنه أن يضعها على الطريق الصحيح للانضمام إلى التحالف.
إبعاد البوسنة عن “الناتو”
يقول الأعضاء البوسنيون والكروات إن عضوية “الناتو” ستوفر السلام والاستقرار في بلد، في بلد يستمر التوتر فيه بعد ربع قرن من الحرب المدمرة في التسعينيات، لكن الأعضاء الصرب مثل ميلوراد دوديك، رئيس مجلس الرئاسة في البوسنة، ما زالوا يعارضون بشدة عضوية “الناتو” منذ أن استهدف التحالف العسكري القوات الصربية في عام 1995 في محاولة لوقف الحرب ثم قصف صربيا عام 1999 لطرد القوات الصربية من كوسوفو.
في أواخر شهر مايو/أيار الماضي، حظر دوديك تقديم البرنامج الوطني السنوي إلى “الناتو”، والذي كان من شأنه تفعيل خطة العمل المتعلقة بمنح العصوية إلى البوسنة، ثم حذّر في الشهر التالي من أن الخطوات الأحادية الجانب التي اتخذت تجاه عضوية “الناتو” ستعني نهاية البوسنة.
بعد محاولات لزرع القتنة في مقدونيا الشمالية، انتقل التركيز إلى البوسنة باعتبارها الجديدة مركز حروب البلقان بين الناتو وروسيا
استخدم الرئيس الانفصالي – الذي وعد الكيان الصربي في جمهورية صربسكا بالانفصال عن البوسنة وأكد على إنشاء “صربيا الكبرى” – حق النقض ضد أي مبادرة نحو الانضمام إلى التحالف العسكري منذ سنوات، لكنه لم يفعل ذلك بمفرده. فوفقًا للمحللين، عرقل دوديك – الذي سبق أن أدرجته واشنطن في قوائم الممنوعين من السفر بسبب مواقفه السلبية من تطبيق اتفاق “دايتون” – انضمام البوسنة إلى الهياكل الأوروبية الأطلسية بمساعدة بعض البلدان الغربية، وعلى رأسها روسيا، التي يحظى بحمايتها، ويدين لها بصعوده الخاطف قبل أن يتنكر لها، وهو ما أكده مؤخرًا خلال استقباله وفدًا روسيًا رفيعًا تقوده رئيسة مجلس الاتحاد الروسي فالنتينا ماتفيينكو.
لم تخف روسيا نفسها معارضتها للسياسة الهادفة إلى حصول البوسنة على عضوية حلف “الناتو”، ففي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أكد مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، إلى تمسك روسيا، كدولة عضو في مجموعة الاتصال حول البوسنة، “لم تأخذ على عاتقها أي التزامات فيما يخص جر هذا البلد إلى الهياكل الأوروبية الأطلسية“، مشيرًا إلى أن الخطوات بهذا الاتجاه “ليس من شأنها سوى أن تزيد من حدة التناقضات داخل البلاد وتصرف اهتمام الأطراف البوسنية عن العمل في مجال الإصلاحات“.
رؤساء المجلس الرئاسي في البوسنة: زيليكو كومسيتش (يسار) وميلوراد دوديك (وسط) وشفيق جعفروفيتش (يمين) أثناء حفل تنصيبهم
من منظور أوسع، يبدو أن منطقة البلقان راسخة في الكتلة العسكرية والاقتصادية الغربية، فجمهوريات يوغوسلافيا السابقة (كرواتيا وسلوفينيا والجبل الأسود) جميعها أعضاء في حلف شمال الأطلسي، كما أن مقدونيا الشمالية على وشك الانضمام بعد توقيعها البروتوكول في فبراير/شباط الماضي، لتصبح العضو رقم 30 بالتحالف العسكري.
يُضاف إلى ذلك أن بقية دول البلقان (ألبانيا وبلغاريا واليونان ورومانيا) هي أيضًا أعضاء في “الناتو”، في حين تبقى الدول الثلاث الوحيدة التي لم تنضم بعد إلى حلف الناتو هي البوسنة وصربيا وكوسوفو (أعلنت استقلالها عن صربيا منذ 11 عامًا ولا يزال وضعها معلقًا في الأمم المتحدة).
يكشف ذلك عن الخلاف المتصاعد بين “الناتو” وروسيا، ففي حين يتحدى “الناتو” روسيا بضم أعضاء من دول البلقان، يتوعد الكرملين بالرد على مواصلة الحلف التوسع شرقًا في هذه المنطقة، وقد اعتبرت فالنتينا ماتفيينكو خلال حديثها أمام المجلس الأعلى لبرلمان البوسنة أن ذلك “لن يؤدي إلا إلى مزيد من زعزعة الاستقرار للوضع في المنطقة، وتقويض نظام الأمن الأوروبي”.
ساحة المعركة الجديدة
في عام 2014، أعرب وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف عن قلقه عندما وصف توسع “الناتو” في البوسنة ومقدونيا الشمالية والجبل الأسود بأنه “خطأ، بل أمر استفزازي بطريقة ما”، معتبرًا أن ما يقوم به “الناتو” شرقًا “سياسة غير مسؤولة تقوِّض الجهود العازمة على بناء نظام أمني مشترك ومتساوي في أوروبا، على قدم المساواة للجميع بغض النظر عما إذا كان البلد عضوصا في هذه الكتلة أو تلك”.
ويبدو من ذلك أن نفوذ موسكو تضاءل أمام سعي جمهوريات يوغوسلافيا السابقة للانضمام إلى التيار الأوروبي والحصول على عضوية في حلف “الناتو” والاتحاد الأوروبي، وهو ما يفسر معارضة موسكو لأي توسع للناتو في المناطق الشيوعية السابقة في شرق وجنوب شرق أوروبا، في إطار التنافس على النفوذ الجغرافي الاستراتيجي منذ نهاية الحرب الباردة، والذي تمثل بالتزامن مع تصريحات لافرورف في الصراع الحالي في أوكرانيا.
يرى الروس مصلحتهم في رؤية هذه النزاعات دون حل، مثل استمرار نزاع صربيا وكوسوفو، بالإضافة إلى إبقاء النزاع بين مقدونيا واليونان دون حل، وهذا يمنحهم وسيلة لممارسة النفوذ
وبعد فشل مؤامرة انقلاب قام بها 14 شخصًا من بينهم ضابطان في المخابرات العسكرية الروسية في تشكيل قيادة موالية لروسيا ومناهضة لحلف الناتو في “الجبل الأسود” في عام 2016، وبعد محاولات لزرع القتنة في مقدونيا الشمالية، انتقل التركيز إلى البوسنة باعتبارها الجديدة مركز حروب البلقان بين الناتو وروسيا.
كما اكتسبت البوسنة أهمية بالنسبة لموسكو في أعقاب الأحداث التي وقعت في الجبل الأسود ومقدونيا الشمالية، حيث ترى فيها موسكو “الثقب” الأكثر أهمية في الوجود الإقليمي لحلف “الناتو”، خاصةً بالنظر إلى موقف بلغراد المناهض لحلف الناتو، وربما سيكون من الصعب على الروس أن يخسروا فيها، حيث يتمتع دوديك – الذي يعد شخصية محورية منذ حوالى 20 عامًا – بحق النقض (الفيتو) ضد أي تحرك باتجاه “الناتو”.
ويتبين من تصريحات المسؤولين الروس أن موسكو تحاول تقويض الاستقرار من أجل إبعاد البوسنة عن “الناتو”، فهي تعتبر البلقان “ساحة معركة” حيث يمكنها محاولة عرقلة توسع “الناتو” والاتحاد الأوروبي في هذه المعركة، وفي سبيل ذلك، يرى الروس مصلحتهم في رؤية هذه النزاعات دون حل، مثل استمرار نزاع صربيا وكوسوفو، بالإضافة إلى إبقاء النزاع بين مقدونيا واليونان دون حل، وهذا يمنحهم وسيلة لممارسة النفوذ.
مؤيدو الأحزاب اليسارية الصربية البوسنية يرفعون صور بوتين خلال تجمع حاشد لدعم الحكومة في بانيا لوكا في 14 مايو 2016
وإلى جانب دوديك المعروف بدعوته للتقارب مع روسيا، دأبت موسكو على دعم الاتحاد الديمقراطي الكرواتي، الحزب الحاكم في كرواتيا، والحزب البوسني الذي يدعو إلى مزيد من الحكم الذاتي للسكان الكروات في البوسنة، وعلى مر السنين، طالب رئيس مجلس الرئاسة السابق، والزعيم الوطني للحزب الكرواتي الرئيسي في البوسنة دراجان كوفيتش مرارًا وتكرارًا بإنشاء كيان كرواتي ثالث، وهو ما رفضه المجتمع الدولي وقومية البوشناق (مسلمو البوسنة وجوارها) والعديد من الكروات أيضًا.
ومن خلال السعي لتغيير قانون الانتخابات في البوسنة، اتُهمت كرواتيا بانتظام بمحاولة تقويض سيادة البوسنة والتدخل الخطير في شؤونها السياسية، استمرارًا لأهدافها غير التقليدية التي سعت إليها خلال الحرب، وعززت نتائج الانتخابات الرئاسية في البوسنة، وخاصة مقعدها الكرواتي، الخلاف الدبلوماسي بين البلدين، خاصة بعد إعلان فوز زعيم الحزب الاجتماعي الديمقراطي زليكو كوميتش، بالمقعد الكرواتي متغلبًا على الرئيس السابق دراجان كوفيتش.
وفي شهر سبتمبر/أيلول عام 2018، أي قبل شهر من الانتخابات العامة في البوسنة، أفاد موقع الأخبار البوسني المستقل “زورنال” أن المخابرات الروسية كانت ترعى تزوير الانتخابات لضمان فوز دوديك وكوفيتش، وقد تحدث السفير الروسي في البوسنة بيتار إيفانكوف لصالح موقف كوفيتش وعارض بشدة طريق البوسنة نحو “الناتو”، وخلال خلال سلسلة من الاجتماعات مع زعماء جمهورية صربسكا، تحدث أيضًا عن دعم استفتاء صرب البوسنة المثير للجدل في يومهم الوطني، على الرغم من أن المحكمة الدستورية في البوسنة حظرته، وأدانه الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مرارًا وتكرارًا.
ومن خلال دعم القوميين، تهدف موسكو إلى ضمان بقاء البلاد مجزأة عرقيًا، كما يقول المحللون، حيث يعتمد الارتباط بين روسيا والاتحاد الديمقراطي الكرواتي في البوسنة على المصالح المتبادلة، فالروس يدعمون اقتراح قانون الانتخابات التمييزي المدعوم من قِبل الاتحاد الديمقراطي، ومن ناحية أخرى، يعمل الاتحاد علانية على زعزعة استقرار التكامل بين “الناتو” والبوسنة، وهذا يتجاوز المستوى المعتاد من التعاون، إلى شراكة خطيرة قد لا تسبب فقط قضايا سياسية ضخمة، بل قضايا أمنية ودفاعية أيضًا.
دسيسة في البلقان
في يناير/كانون الأول 2018، تصاعدت التوترات بعد ورود تقارير تفيد بأن قوة شبه عسكرية تدربها روسيا تعرف باسم “الشرف الصربي” كانت ناشطة في البوسنة، تعمل لدعم دوديك الانفصالي، وهو ما أكده وزير الأمن البوسني دراغان ميكيتش، وهو عضو في الحزب الديمقراطي الصربي المعارض لجمهورية صربسكا، بالحديث لوسائل اﻹعلام المحلية عن خضوع أفراد هذه القوات على ما يبدو للتدريب في صربيا وروسيا، بينما اكتسب بعضهم خبرة عسكرية في القتال إلى جانب الانفصاليين الروس في أوكرانيا.
إذا استطاعت روسيا أن تبقي البوسنة مزعزعة للاستقرار بشكل دائم من خلال علاقاتها بالوكالة مع أمثال ميلوراد دوديك، فبإمكانها أن تزعزع استقرار المنطقة بأسرها بشكل فعال
في السنوات الأخيرة، أُعلن عن العديد من الروس كمصدر للتهديدات الأمنية، ومُنعوا من دخول البلاد، بما في ذلك كونستانتين مالوفييف، الملقَّب “برجل الظل” في الكرملين، والمدرج في قائمة الولايات المتحدة، والذي يمول الأنشطة الانفصالية في شرق أوكرانيا، وهو أحد المصادر الرئيسية لتمويل الروس الذين يروجون للانفصالية في القرم، كان في طريقه إلى لقاء مع دوديك في 30 مايو/أيار 2018 عندما تم ترحيله من المطار في بانيا لوكا بالبوسنة، باعتباره تهديدًا أمنيًا.
ولا تزال الجهود الروسية المناوئة للناتو مستمرة، فقد شهدت وكالة الاستخبارات في البوسنة زيادة في النشاط الروسي في البلاد في أعقاب الانقلاب الفاشل في الجبل الأسود، وبصرف النظر عن ضباط المخابرات الروس الذين يعملون تحت غطاء دبلوماسي، هناك الكثير ممن يعملون “بشكل غير رسمي”، كما زاد عدد المواطنين الروس الذين يمرون عبر البوسنة منذ أوائل عام 2018.
صور لقوات ترتدي الملابس عسكرية دربتها روسيا في شوارع بانيا لوكا
إعلاميًا، أشار موقع “راسكرينكافانيي” البوسني لتقصي الحقائق، وهو مصدر معلومات للقراء في صربيا وجمهورية صربسكا ومؤثر على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى أن النسخة الصربية من وكالة “سبوتنيك” المملوكة لروسيا، استخدمت 36 مرة معلومات مضللة في 16 مقالة على مدار عام واحد، وفي تقرير بعنوان “التضليل في المجال على الإنترنت” الذي نُشر في أبريل/أبريل 2019، وُجد أن العديد من دول الاتحاد الأوروبي وخاصة حلف “الناتو” عُرضت في مقالات “سبوتنيك” كتهديد للصرب أو جمهورية صربسكا أو دوديك.
هذه الجهود تتعزز فقط من خلال وجود دوديك في رئاسة الدولة، الأمر الذي أعطاه فرصًا إضافية للحفاظ على العلاقات الأمنية والدبلوماسية الموازية مع روسيا وعملائها الآخرين، وإذا استطاعت روسيا أن تبقي البوسنة مزعزعة للاستقرار بشكل دائم من خلال علاقاتها بالوكالة مع أمثال ميلوراد دوديك، فبإمكانها أن تزعزع استقرار المنطقة بأسرها بشكل فعال.