أين السوريون؟ ما الذي يجعل البلاد الجريحة، تلجأ إلى غير أبنائها، بعدما تحملوا كل هذا القهر على مدار 9 سنوات؟ ولماذا كوريا الشمالية تحديدًا؟ أسئلة دارت في أدمغة كل الذين تابعوا تصريحات وزير الخارجية السوري وليد المعلم التي ألمح فيها إلى سعى سوريا للحصول على عمالة مناسبة من كوريا الشمالية، لإعادة بناء وتطوير دمشق على وجه الخصوص، دون أن يقدم المزيد من التفاصيل عن واقع السوريين في البلاد ومستقبل العمالة السورية المهاجرة في ظل هذه المخططات الغريبة.
ما الذي حدث؟ وكيف يعيش أبناء سوريا الآن؟
أطلق المعلم تصريحات مثيرة، أشار فيها إلى استعداد كوريا الشمالية لإرسال عمالة متخصصة لإعادة تطوير دمشق، بالتزامن مع ما سماه تأهب العاصمة السورية لإطلاق عجلة إعادة الإعمار بشكل واسع، فور انتهاء أتون الحرب الدائرة في البلاد، وبصفة خاصة محافظات وبلدات الشمال.
كشف وزير الخارجية السوري الخطة الجديدة لإعادة الإعمار، كنتاج أولى لتدشين لجنة “التشاور السياسي” مع كوريا الشمالية، والزيارات المكثفة لوفد الحكومة السورية، ولكن الذي لم يفصح عنه، مصير أكثر من 6 ملايين سوري خرجوا من بلادهم بعد اشتعال نذر الحرب وتفسخ البلاد إلى جماعات وأنصار ومعارضين، إثر رفض بشار الأسد الاستسلام لتوسونامي الربيع العربي الذي ضرب معظم بلدان المنطقة منذ مطلع عام 2011، وكان خروجه سلميًا من منصبه، كفيلاً بتجنيب البلاد كل ما حدث.
تذوق السوريون كل أنواع الشتات في البلدان المجاورة، ورغم التقديرات الدولية المتفاوتة عن أعداهم، فإن الحكومة السورية نفسها، لا تملك إحصاءات دقيقة عن اليد العاملة المهاجرة خارج البلاد، خاصة بعد فرار عدد هائل من العمال والصناعات، وحتى المصانع نفسها.
ومثل هذا التصريحات ـ إن لم تكن مجرد تمويه وضربة استخباراتية للتغطية على وجود الكوريين لأغراض عسكرية ـ لن تعني إلا أن عودة اللاجئين ستطول وستتعقد مشكلاتهم في دول الجوار التي أصبحت تمثل لهم القضية أزمة كبرى، وفي بيروت على وجه الخصوص، التي تتزايد فيها المطالبات بالحد من العمالة السورية وترحيل أغلبها سوريا.
المثير أن العرض السوري، يأتي في وقت تشتكي فيه كوريا الشمالية من حض الولايات المتحدة دول العالم على إعادة العمال الكوريين الشماليين إلى بلدهم، ما يؤكد أن الأسد أصبح مشغولاً بشدة بتسديد فواتير حلفائه الذين ساعدوه خلال السنوات الماضية، وعلى رأسهم كوريا الشمالية، ورد الجميل لهم، حتى لو كان ذلك على حساب مزيد من الضغوط الأمريكية التي ستترتب على مثل هذا القرار إذا تم تنفيذه على أرض الواقع.
العمالة الكورية في ميزان العالم
بحسب تقديرات أممية، تصدر كوريا الشمالية عشرات الآلاف من العمال إلى الخارج كل عام، يتجه معظمهم إلى الصين وروسيا، حيث يعملون في ظروف غير آدمية بالمرة، لجلب عائدات بالعملة الصعبة إلى بيونغ يانغ، فداءً للطموح المجنون للرئيس الكوري وعائلته، لذا حذرت الأمم المتحدة عبر قرارات عدة، من إبرام أي عقود جديدة مع العمال الكوريين الشماليين، وطالبت جميع الدول التي لديها عمال من كوريا إعادتهم بحلول نهاية العام الحاليّ 2019.
ويعيش آلاف العمال الكوريين الشماليين، حالة من عدم الاستقرار، بسبب عقوبات الأمم المتحدة التي بدأت الإشارة إليها قبل أعوام مضت، ولكن زاد الحديث عنها منذ عام 2017، ومعظمهم حتى الآن يعيش في روسيا والصين، والأخيرة امتثلت بالفعل لترحيل الكثير منهم، هربًا من عقوبات الأمم المتحدة، بسبب البرنامج النووي لكوريا الشمالية.
ووفقًا لإحصاءات دولية، يعمل بالفعل أكثر من 85% من المهاجرين من كوريا الشمالية في البناء، كما يجيدون أيضًا صناعة الملابس والزراعة وقطع الأشجار والمطاعم والطب التقليدي، ويتقاضى الكوريون خارج بلدانهم متوسط دخل 415 دولارًا في الشهر، وهي من أقل أسعار العمالة الخارجية في العالم، وبعض البلدان تتغاضى عن التعامل معهم بمعاملة متساوية لتلك التي يحصل عليها أي رعايا دول في العالم.
ما الذي يجمع الأسد وكوريا الشمالية؟
كان الملف السوري أحد أهم الملفات التي أشعلت المزيد من التوتر، منذ وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، إذ كان دائم الحديث عنه في أي مقاربة يتحدث فيها عن السلاح النووي بكوريا الشمالية، ويشملهما معًا في تهديداته الدائمة، وهي تصعيدات كان يرد عليها الزعيم الكوري بعنف واستهانة، قبل أن يقرر فجأة انتهاج طريق آخر مع الولايات المتحدة ورئيسها، يدفع عملية السلام بينهما إلى مناطق آمنة.
الربط المكثف بين كوريا والأسد لدى ترامب، فتح الطريق لوسائل الإعلام العالمية، للبحث خلف علاقات الأسد والزعيم الكوري، ومواقع عدة مثل “كوارتز الاقتصادي العالمي” كشف أن الحرب السوري عادت بالنفع على كوريا، إذ باعت استشارات عسكرية وأسلحة متطورة وأنظمة دفاعية إلى دمشق، وهي خلاصات ذهبت إليها أيضًا مجلة سلايت الأمريكية التي أكدت أن الحرب على الأسد وكيم، والصمود أمام الضغوطات العالمية، أفادت كوريا للغاية، ولكنها ليست الأولى، ولا هي طرف الرباط الوثيق بين الحكومتين، بل هي جيدة بالأساس منذ عقود، إذ التقى حافظ الأسد بمؤسس النظام الكوري الشمالي كيم إل سونغ في السبعينيات، وكانت تجمعهما آنذاك، العلاقات القوية مع الاتحاد السوفياتي.
لا تتوقف المجاملات الداعية لتقويه العلاقات بين البلدين، مهما كانت الضغوط الدولية، ويكشف ذلك رسائل الدعم التي أرسلها كيم إلى الأسد، بعد الهجوم الكيماوي على خان شيخون
وتوجد سفارة لسوريا في بيونغ يانغ منذ عام 1970، ودشنت مع استلام حزب البعث للحكم في البلاد، وساهم الكوريون الشماليون منذ هذا التوقيت في تطوير قدرات الجيش السوري، وخاصة في بعض أنظمة الصواريخ والطيران، لذا هي المتهم الأول حاليًّا، بإمداد الأسد بصواريخ سكود المتطورة، أو على أقل تقدير، منح نظام الأسد التكنولوجيا الخاصة لإنتاج الصورايخ، وهذه المزاعم هي التي استخدمها الطيران الإسرائيلي لشن غارة كبرى عام 2007، على مصنع نووي في دير الزور، قال وقتها إن سوريا تقيمه بمساعدة من كوريا الشمالية.
ولا تتوقف المجاملات الداعية لتقويه العلاقات بين البلدين، مهما كانت الضغوط الدولية، ويكشف ذلك رسائل الدعم التي أرسلها كيم إلى الأسد، بعد الهجوم الكيماوي على خان شيخون، فالمشتركات بينهما كثيرة، كأنهما أولاد عمومة، إذ يهيمن على حكم سوريا وكوريا الشمالية، أفراد أسرة كل رئيس منهما، وهم الذين يديرون أنشطة مؤسسات القوة في البلاد، من جيش وشرطة، كما يتعامل النظامان مع المعارضة دون رحمة، وتتحكم الأسرتان أيضًا في اقتصاد الدولة بمعزل عن أي معنى للشفافية والمحاسبة، كما أن ظروف تولي حكم العائلين متشابهة.
استولى حافظ الأسد على السلطة عام 1970 عبر انقلاب ناعم، وبمساعدة بعض القادة العسكريين، وخلال نحو 3 عقود تولى فيها الحكم، قوض القوى الشعبية، واحتكر سياسة الدولة، وجهز ابنه الأكبر لوراثته، وبعد أن توفي في حادث سيارة، جهز الابن الثاني له – بشار الأسد – للحكم، لتولي السلطة بعد وفاته، وهو ما حدث عام 2000.
وهي ظروف شبيهة بما حدث في كوريا الشمالية، أصبح كيم إيل سونج، جد أسرة كيم الرئيس الحاليّ، رئيسًا شبه أبدي للبلاد، ومكن أسرته من التعامل بأطر ملكية مع الحكم بمساعدة الاتحاد السوفيتي له، واستمر كيم الجد في منصبه حتى توفي عام 1994 إثر نوبة قلبية، فانتقل الحكم لابنه كيم جونج إيل الذي توفي عام 2011، ليصل ابنه الأصغر كيم جونج أون، الحاكم الحاليّ لكوريا الشمالية.
يتبادل النظامان طوال الوقت ما يؤكد على التضامن الشامل، وفي عز الغضب الدولي على النظام السوري، كان نظيره الكوري الشمالي، يؤكد له التحالف التام معه، وهي طريقة في العلاقات الدولية تزعج إدارة ترامب، وجعلت من كلًا النظامين هدفًا لها، وعملت بشكل قوي ولا تزال، على عزل بشار وكيم، والحشد لفرض عقوبات والتهديد بالتدخل العسكري في البلدين إذا لزم الأمر.