بنهاية الدوام الرسمي في البنوك السودانية يوم 6 يناير/ كانون الثاني المنصرم، انتهت المهلة التي أعلنتها الحكومة لاستبدال العملة الوطنية، وبموجب ذلك باتت العملة القديمة غير صالحة للتداول أو مبرئة للذمة.
في خطوة تهدف إلى معالجة الأزمة الاقتصادية التي تفاقمت بفعل الحرب في السودان، أطلقت الحكومة السودانية في ديسمبر/ كانون الأول 2024 عملية استبدال العملة الوطنية، في محاولة للسيطرة على الكتلة النقدية.
وجاءت هذه الإجراءات بعد عمليات نهب وتدمير منظمة مارستها ميليشيا الدعم السريع، واستهدفت البنوك ومدخرات المواطنين في مناطق الصراع، لا سيما بالعاصمة الخرطوم (مركز النشاط التجاري سابقًا) والجزيرة (أكبر إقليم زراعي)، علاوة على مزاعم بإمداد الميليشيا بعملات مزيفة جرى إنتاجها في إحدى الدول العربية المتهمة بتمويل الحرب.
أبعاد اقتصادية
تأتي عملية استبدال العملة في إطار استجابة لحالة اقتصادية صعبة كان أبرز مظاهرها هروب نحو 95% من الكتلة النقدية خارج النظام المصرفي، ما ساهم في تفاقم التضخم وتدهور قيمة الجنيه السوداني.
وممّا يزيد من تعقيد الأوضاع الاقتصادية، أن الكتلة النقدية الكبيرة خارج الدورة البنكية لا تُستخدم في أنشطة اقتصادية رسمية، بل يتم توجيهها إلى أنشطة غير خاضعة للرقابة مثل المضاربات، ما يلقي بظلاله السالبة على الاقتصاد ومعاش الناس.
عليه يمكن تفسير التبديل بأنه مسعى جادّ لامتصاص هذه الأموال من السوق وإعادتها إلى النظام المالي الرسمي، وهو الأمر الذي يجعل من عملية تغيير العملة خطوة في طريق السيطرة على الكتلة النقدية المتداولة، وصولًا إلى استقرار قيمة الجنيه السوداني، علاوة على الحد من عمليات التزوير التي أثّرت على الثقة في العملة الوطنية، وخلقت حالة من عدم الاستقرار في الأسواق.
الرأي الحكومي
دافع محافظ بنك السودان المركزي، برعي صديق علي، عن عملية استبدال العملة، وقال في تصريحات صحفية إنها جزء من استراتيجية أوسع لمكافحة عمليات النهب والتزييف التي نفذتها ميليشيا الدعم السريع، ما أثّر بشكل كبير على الاقتصاد السوداني.
وقال إن نجاح العملية يعدّ أمرًا ضروريًا لاستعادة الثقة في العملة الوطنية، وتعافي القطاع المصرفي من تداعيات الحرب المستمرة.
رفض الميليشيا
وكما هو متوقع، رفضت قوات الدعم السريع عملية استبدال العملة، وأشارت إلى سريان العملة القديمة، رافعة سبابة التهديد بحق أي شخص يتعامل بالعملة الجديدة في المناطق الخاضعة لسيطرتها.
وقامت الإدارة المدنية التابعة للميليشيا بإصدار مرسوم يعتبر العملة الجديدة غير مبرئة للذمة، وهو ما دفع بكثير من المنتجين المحليين في هذه المناطق للإمساك عن بيع المحاصيل والماشية، ما أدّى إلى مفاقمة الأزمة الاقتصادية.
استمرَّ الجنيه السوداني في تراجعه أمام سلة العملات الأجنبية، حيث هبط سعره إلى ما دون 2600 مقابل الدولار الأمريكي و690 مقابل الريال السعودي. جاء ذلك في وقت شهد فيه التضخم ارتفاعًا ملحوظًا، متجاوزًا حاجز 200 نقطة، ما يعكس تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد، ويزيد من الضغوط على الأوضاع المالية للمواطنين.
آثار
في وقت تتوقع الحكومة أن تساهم عملية استبدال العملة في تحسين النظام المصرفي، وتسهيل عملية السيطرة على الكتلة النقدية الهاربة، لاحت العديد من التأثيرات الاقتصادية الكارثية.
من أبرز هذه التأثيرات هو عجز سكان المناطق الخاضعة لسيطرة الدعم السريع من نقل أموالهم للمناطق التي لا تزال في قبضة الجيش جراء الحصار المفروض عليهم، وتوسع عناصر الميليشيا في عمليات السلب والنهب الممنهجة ضد المدنيين العزل.
عليه، ومع الآجال التي وضعها المركزي، فإن رؤوس أموال الموجودين في هذه المناطق صارت، بتاريخ 6 يناير/ كانون الثاني المنصرم، محض حبر على ورق.
ولإكمال قتامة المشهد، فإن رفض الميليشيا لعملية استبدال العملة، أو بدء التعامل بعملات أجنبية مثل الدولار، والفرنك التشادي، يؤدي إلى تعزيز الانقسام، ليس في النظام النقدي وحسب، إنما ضمن الأطر السياسية، خاصة في ظل اتجاه تشكيل حكومة موازية للسلطة القائمة في بورتسودان، ما يعني الانزلاق نحو سيناريو التقسيم بصورة خطيرة.
تبايُن آراء
فيما يتفق العديد من الخبراء على أهمية عملية استبدال العملة كإجراء اقتصادي ضروري في المرحلة الراهنة، إلا أن هناك أيضًا من يعارض هذه الخطوة بسبب الظروف التي تمرّ بها البلاد.
المحلل الاقتصادي محمد عبد القيوم، أشار إلى أن تغيير العملة خطوة ضرورية لتحسين النظام المصرفي وضبط الكتلة النقدية، وقال في حديثه لـ”نون بوست” إن هذه العملية تساعد في استقرار سعر الصرف وتقليل معدلات التضخم.
وأوضح أن الاعتماد على الحلول الإلكترونية مثل المحافظ الرقمية سيكون أحد الأساليب الرئيسية للتغلب على التحديات التي قد تطرأ في المناطق الريفية والنائية، وحتى تلك الواقعة في نطاق سيطرة الميليشيا.
في المقابل، عبّر الخبير الاقتصادي التجاني طيفور عن تحفظاته على توقيت تنفيذ هذه العملية. حيث اعتبر أن الظروف السياسية والاقتصادية الراهنة قد تجعل من الصعب تنفيذ هذا الإجراء بشكل فعّال.
وأكّد لـ”نون بوست” أن الظروف الحالية، بما في ذلك رفض الدعم السريع لتداول العملة الجديدة، قد تؤدي إلى زيادة الانقسام الاقتصادي بين المناطق التي تخضع لسيطرة الحكومة والمناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع. كما أكد أن التركيز على إصدار فئات نقدية جديدة بدلًا من تغيير العملة بالكامل، كان ليكون أكثر فعالية في ظل الوضع الراهن.
وبطرح تساؤل عن مصير مدخرات الأهالي في مناطق الدعم السريع، يطالب عبد القيوم بإيجاد معالجات لهذا الوضع مستقبلًا، تتضمن الاستبدال عقب التحقق الدقيق من مصدر الأموال، لتجنّب تغذية أرصدة الميليشيا.
بينما يرى طيفور أنَّ الحكومة تخلت عن مواطنيها في مناطق الدعم السريع، وعاملتهم معاملة جنود الميليشيا، محذرًا من مغبّة هذه الخطوة على إضعاف موقف الجيش في حربه لتحرير البلاد من الميليشيا والمرتزقة الأجانب على حد قوله.
وفي خطوة ذات أبعاد سياسية وعسكرية، أعلنت قوات الدعم السريع في وقت سابق صرف مرتبات عناصرها بالدولار الأمريكي بدلًا من الجنيه السوداني، ما يعدّ تكريسًا للانقسام الحادث باعتماد عملتَين ونظامَين اقتصاديَّين، وربما لاحقًا دولتَين.
تشكل عملية استبدال العملة خطوة هامة في صعيد مواجهة تحديات السودان الاقتصادية والأمنية، ولن يكون في مقدور الميليشيا استخدام الأموال المنهوبة الطائلة في تمويل الحرب وشراء الولاءات.
لكن ذلك الإنجاز يحتاج إلى تدعيم بإيجاد معالجات للمتأثرين بالخطوة في مناطق سيطرة الميليشيا، وإحكام القبضة على الكتلة النقدية بعد دخولها النظام المصرفي، مع تعزيز الحلول الرقمية، وإلا كان نتاج ذلك كله تبديد المال وتكريس الانقسام.