جاءت زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، إلى إيران، الأربعاء 8 يناير/كانون الثاني، في ظل منعطف خطير يعيشه العراق، خصوصًا بعد الاشتراطات الأمريكية والأممية الداعية لحل الفصائل المسلحة الموالية لإيران في العراق، والبحث عن مصادر بديلة للطاقة الإيرانية، والأهم إعادة تشكيل العلاقة مع طهران وفق الاستحقاقات الإقليمية التي فرضها سقوط نظام بشار الأسد في سوريا.
رغم أهمية زيارة السوداني لطهران، فإنها تعكس رغبة عراقية في البحث عن مسار جديد مع الجمهورية الإسلامية، فالقوى السياسية العراقية، وتحديدًا المقربة منها، بدأت تفكر بضرورة إنتاج مثل هذا المسار، بعد ما حدث في سوريا ولبنان، إذ من شأن تخفيف مستوى العلاقات مع طهران بقاء هذه القوى مدة أطول في الحكم، خصوصًا أن زيارة السوداني تسبق بأيام قليلة فقط وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للبيت الأبيض.
وفي هذا الإطار فإن الذاكرة السلبية التي يحملها العراق في ذهن ترامب، ستجعل أي مخرجات تتمخض عنها زيارة السوداني إلى طهران، في مرمى السياسة الخارجية الأمريكية حيال بغداد بالمرحلة المقبلة.
ملفات معقدة
إن أحد أبرز الملفات التي دفعت السوداني للذهاب إلى طهران، والتباحث فيه مع المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، هو وضع الفصائل المسلحة الموالية لإيران، التي لم يعد مرغوبًا ببقائها عراقيًا وإقليميًا ودوليًا، خصوصًا بعد الدعوات المتكررة من مرجعية النجف، التي دعت في أكثر من مناسبة لحصر السلاح بيد الدولة، وفرض سلطة القانون، إلا أن هذه الدعوات عادةً ما تواجه برفض إيراني مستمر، وهو رفض ترجمه خامنئي في أثناء تواجد السوداني بطهران، عندما نشر على صفحته الرسمية في منصة “إكس” تغريدة أشار فيها إلى دعم بقاء الحشد الشعبي وتقويته.
ورغم أن النقاش الداخلي العراقي عادةً ما يفرق بين السلاح الذي تحمله الفصائل المسلحة الموالية لإيران، والسلاح الذي يحمله الحشد الشعبي، فإن إيران عادة ما تدمج بين السلاحين، وتعتبر أحدهما مكملًا للآخر، وهو ما جعل العراق يواجه تحديات كبيرة في هذا السياق.
سلاح الفصائل العراقية يمثل قيمة استراتيجية عليا لإيران، والحرس الثوري تحديدًا، وبالتالي فإنه من غير المتوقع أن يكون هناك التزام إيراني صريح بدعم أي تحرك حكومي عراقي لحل تلك الفصائل
الزيارة العاجلة التي قام بها قائد “قوة القدس” في الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني، إلى بغداد قبل يومين، هدفت إلى حد كبير ضبط سلوك الفصائل المسلحة من جهة، وتحديد الأجندة التي سيناقشها السوداني في طهران من جهة أخرى، خصوصًا فيما يتعلق بموضوع حل الفصائل المسلحة، ورغم أن قاآني أشار صراحة إلى دعم إيران لأي قرار تتخذه الحكومة العراقية في هذا السياق، فإن الثابت أن هذا الدعم يتوقف عند الخطوط الحمراء الإيرانية في العراق، وخصوصًا في موضوع بقاء الفصائل المسلحة.
مما لا شك فيه أن سلاح الفصائل العراقية يمثل قيمة استراتيجية عليا لإيران، والحرس الثوري تحديدًا، وبالتالي فإنه من غير المتوقع أن يكون هناك التزام إيراني صريح بدعم أي تحرك حكومي عراقي لحل تلك الفصائل، وتحديدًا الكبيرة منها، والحديث هنا عن كتائب حزب الله العراقي، كتائب سيد الشهداء، حركة النجباء، لواء الطفوف، كتائب الإمام علي، إذ إن بقاء سلاح هذه الفصائل، وتحديدًا الثقيل منه، كالطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية، يمثل هدف إيراني في المرحلة المقبلة، خصوصًا مع النهج المتشدد الذي من المتوقع أن يتخذه ترامب حيال إيران.
وإلى جانب سلاح الفصائل، يطرح موضوع الطاقة الإيرانية نفسه كملف آخر معقد يحاول السوداني حله بسبب الضغوط الداخلية العراقية، بعد تراجع معدلات التجهيز بالطاقة الكهربائية، فإلى جانب الإشكالات الفنية والتقنية التي تواجهها إيران في عملية تصدير الطاقة إلى العراق، بسبب تهالك أنابيب تصدير الغاز بفعل العقوبات الأمريكية على قطاع الطاقة الإيرانية، فإن العقوبات الأمريكية أيضًا عقّدت من مسألة دفع المستحقات المالية العراقية لإيران، ومن المتوقع أن تتفاقم هذه المعضلة مع وصول ترامب للبيت الأبيض، الذي سيشدد العقوبات أكثر على إيران، ورغم إعلان السوداني عن توقيع عدة اتفاقات طاقوية مع طهران على هامش زيارته، فإن مسألة تفعيل هذه الاتفاقات ستصطدم بالرفض الأمريكي، بسبب انتهاكها لسياسة العقوبات الأمريكية.
ماذا يريد السوداني؟
إن الهدف الأبرز الذي يطمح من خلاله السوداني عبر زيارته لطهران، هو تهذيب السلوك الإيراني في العراق، مستغلًا حالة الضعف العسكري والاقتصادي الذي تمر بها إيران اليوم، ويندفع السوداني في تحقيق مثل هذا الهدف بحاجة إيران لفترة إنتقالية تُعيد من خلالها التوازن لدورها الإقليمي الذي عانى من صدمات استراتيجية كبيرة جدًا في الفترة القليلة الماضية.
نجاح السوداني في مثل هذا المسعى، سيتوقف على مدى التجاوب الإيراني مع الأجندة التي ناقشها مع المسؤولين الإيرانيين، إذ إن نجاح السوداني في التوفيق بين رغبات إيران ورغبات دول الإقليم، سيؤدي بما لا يقبل الشك إلى تأمين الساحة العراقية من أي هزات مقبلة، ويشير إعلان السوداني خلال المؤتمر الصحفي الذي جمعه مع الرئيس الإيراني مسعود بزشيكيان، في قصر سعد آباد، إلى سعي العراق لعقد مؤتمر قمة بغداد العام الجاري، الذي يهدف من خلاله لطرح مشروع للسلام الإقليمي بين إيران وباقي دول المنطقة، وجعل العراق جزءًا من الحل وليس جزءًا من المشكلة في المنطقة.
إن محاولة السوداني إظهار نفسه بمظهر رجل الدولة القادر على إنتاج مبادرات إقليمية، يعكس رغبته الشخصية أيضًا بالحصول على قبول إقليمي للفوز المبكر بالولاية الثانية، فزياراته المتكررة لأنقرة والرياض وطهران، تعكس إدراكه الشخصي لأهمية هذه العواصم الثلاثة في تأمين وضعه الداخلي.
أين تقف الولايات المتحدة؟
تدرك الولايات المتحدة أهمية إنجاح مساعي السوداني في تعزيز السيادة العراقية، وكذلك إعادة تشكيل دور العراق ليكون أكثر اتساقًا مع التوجهات الأمريكية في المنطقة، وتحديدًا فيما يتعلق بالعلاقة مع إيران، إذ إن الولايات المتحدة لا تزال تعتبر أن الدور الإيراني في العراق، أفقد الولايات المتحدة فرصة خلق بيئة اقتصادية واستثمارية واعدة في العراق، والأهم تحويل العراق من دولة غير مستقرة أمنيًا، إلى شريك أمني فاعل للولايات المتحدة في المنطقة.
التحدي الكبير الذي تواجهه الولايات المتحدة في العراق، يتمثل باستمرار التهديدات التي تتعرض لها القوات والمصالح الأمريكية في العراق، وهذه التهديدات لن تنتهي دون تعديل سلوك إيران في العراق، ففي الوقت الذي تتمسك فيه إيران بالفصائل المسلحة، تحاول الولايات المتحدة تمديد عمل قواتها العسكرية في العراق، وهو ما يجعل السوداني يواجه تحديًا كبيرًا في هذا السياق، وتحديدًا في كيفية التوفيق بين الرغبتين الإيرانية والأمريكية في العراق.
إن مرحلة ما بعد زيارة السوداني إلى طهران ستكون مليئة بالتحديات، خصوصًا إذا ما فشل السوداني في مسعى إيجاد حل لوضع الفصائل المسلحة، ما بين حلها أو دمجها في صفوف القوات الأمنية، وبغض النظر عن مخرجات زيارة السوداني إلى طهران، فإن العراق سيكون الجبهة الرئيسية للمواجهة بين طهران وواشنطن في المرحلة المقبلة، ما سيجعل الساحة العراقية أمام تحديات كبيرة في المرحلة المقبلة.