كم يبلغ عدد المنصات الإخبارية التي سمعت عنها؟ كم موقعاً وحساباً إخبارياً تتابعه؟ ثم كم عدد المواد الإخبارية التي تظهر من هذه المصادر في خانة التنبيهات في هاتفك أو في واجهة صفحتك الرئيسية على مواقع التواصل الاجتماعي؟ في الحقيقة سواء كنت تتابع عدداً كثر أو قل من المصادر الإخبارية، فإن ما تطلع عليه من منشوراتها اليومية يعد جزءاً ضئيلاً من إنتاجها الحقيقي.المشكلة هنا ليست فقط في تغييبك عن كثير مما تنتجه هذه المصادر، بل بأن ما يظهر أمامك تم انتقاؤه واجتزاؤه لك من بين أكوام كبيرة من الأخبار، ما قد يحبسك في فقاعة إخبارية صغيرة، ولعلها لا تشبهك!
هذا إذا كنت مستقبلاً للمحتوى الإخباري، فماذا لو كنت صحفياً أو عاملاً في المجال الإعلامي ومساهماً في إعداد الخبر، كيف تضمن مقعداً صغيراً لك في لعبة المقاعد المحتدمة هذه؟ في هذه الأيام، المحتوى هو المحرك الذي يحفز سمعة منصتك الإخبارية ويساعدك في الوصول. ولكن الأمر ليس سهلاً دائماً، لأن إنشاء محتوى مميزاً يتطلب وقتاً ومالاً، ولكي تنتج المحتوى، عليك أيضاً أن تكون على اطلاع على ما يجري حولك وما ينتجه الآخرون، سواء كانوا منافسين لك أو خارج نطاق منافستك.
ليس فقط من الصعب تعقب المحتوى الذي ينتج كل ساعة (تقرير حديث أشار أن 93% من منتجي المحتوى الأصيل قالوا إنهم يعملون على زيادة إنتاجهم خلال العامين القادمين)، ولكن سرعة المعلومات التي تشكل الأساس لهذا المحتوى تزداد باطراد. وقابليتك كصحفي أو كمؤسسة للانتقاء والتحكم والتحقق والمراقبة وسط هذه الأكوام من الأخبار تصبح أيضا أكثر صعوبة، في ذات الآن هناك أسئلة كثيرة تلح عليك: هل أنشر في الشكل الصحيح؟ على الجهاز الصحيح؟ هل هذا الموضوع هو الأنسب لنشره الآن؟ هل هذه هي الزاوية الأنسب لإبرازه منها؟
لا يمكن لمهتم بمجال الصحافة أن يغفل عن أن مقابل كل هذا الازدحام المعلوماتي، هناك ضآلة في عدد المتلقين، وضعفٌ في تركيزهم ومعاناتهم من التشتت بين أعداد متزايدة من المنصات، ما يجعل التوسع لجمهور أكبر مهمة أصعب يوماً بعد يوم، بالتالي فمن الواضح أن إنشاء ونشر المزيد من المحتوى ليس هو الحل في الوقت الذي تكون فيه معدلات المشاركة والتفاعل منخفضة في كثير من الأحيان.
ستصل تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي قريبًا إلى عدد أكبر من المؤسسات، وستؤثر أكثر وأكثر في كيفية إنشاء المحتوى وإدارته وإيصاله إلى شرائح أكبر وأكثر تنوعاً من الجمهور
وعلاوة على ذلك، فإن تقديم تجارب إخبارية مجدية ومتسقة عبر منصات متعددة، يعني أنه يجب على الشركات أن تكون قادرة على العثور على المحتوى الأكثر ملاءمة وتنوعاً ومشاركته مع جمهورها. ولتحقيق ذلك، ستحتاج الشركات إلى اعتماد أحدث التطورات في التكنولوجيا، مع فهم نوع المحتوى الذي يستهلكه العملاء وكيف يستهلكونه. لكن القدرة على القيام بهذه المهام وتلبية سرعة وحجم متطلبات المحتوى المستقبلية هي ببساطة مهمة يستحيل إنجازها بأيدٍ بشرية فقط.
الآلة تجمع.. الآلة تنشر
قد يبدو إنشاء المحتوى المؤتمت وتنظيمه وكأنه جزء من فيلم خيال علمي، لكن التقدم في الذكاء الاصطناعي (AI) والتعلم الآلي (ML) يجعل هذا التطور وغيره من التطورات حقيقة. وبفضل هذه التقنيات، بدأنا نسمع بمصطلحات “تنظيم المحتوى” و”تجميع المحتوى”.
ستصل تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي قريبًا إلى عدد أكبر من المؤسسات، وستؤثر أكثر وأكثر في كيفية إنشاء المحتوى وإدارته وإيصاله إلى شرائح أكبر وأكثر تنوعاً من الجمهور (تقرير رويترز حول التوجهات الصحفية لـ2019 والذي شمل 200 مؤسسة إعلامية من 29 دولة حول العالم، بين أن 72% من هذه المؤسسات بدأت بالفعل باختبار تقنيات الذكاء الاصطناعي في تخصيص المحتوى (نصاً وصوتاً وصورة) وإعداده وتجميعه ونشره، بينما تدفع صحافييها للاشتراك بدورات حول الذكاء الاصطناعي وتوفر بعض من أدواته بين أيديهم).
يميل الناس إلى الخلط بين مفاهيم “تنظيم المحتوى” و”تجميع المحتوى”. وبينما نعني بـ”تجميع المحتوى” عملية جمع محتوى مختلف من حول الإنترنت، ثم تنظيمه وجعله قابلاً للعرض في موقع واحد منظم وسهل الوصول
ما المقصود بـ”تنظيم المحتوى”؟
إنها عملية انتقاء المحتوى الإخباري ذي الأهمية والصلة بالجمهور، وضخه له على هيئة عنوان مرفق برابط يحيل إلى المصدر الأصلي، أو إرفاق العنوان والرابط بملخص تقوم أنت بصياغته، أو تستند إلى الـ”بوت” في صياغته (يوجد حالياً أنواع مختلفة من الـbots طورها تقنيون ومنصات إخبارية ريادية، بإمكانها صياغة المختصرات، وحتى صياغتها وفقاً لتحيزات القارئ وميوله السياسية). وهذا النوع من النشر تحديداً، يستند في توسعه على التقدم المتوقع في تقنيات التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي، والتي لها دور كبير في تطوير تجربة إخبارية أفضل وذات جودة أعلى، ويُنتظر منها أن تسمح للشركات بتوليد المحتوى الأكثر ملاءمة لجمهورها.
يميل الناس إلى الخلط بين مفاهيم “تنظيم المحتوى” و”تجميع المحتوى”. وبينما نعني بـ”تجميع المحتوى” عملية جمع محتوى مختلف من حول الإنترنت، ثم تنظيمه وجعله قابلاً للعرض في موقع واحد منظم وسهل الوصول، مثل موجز الأخبار. فإن عملية “تنظيم المحتوى” تذهب إلى أبعد من ذلك، حيث لا يتم فقط جمع المحتوى من مواقع أخرى، بل يتم أيضًا إضافة تعليقات وشروحات خاصة بك كمحرر إخباري انتقى هذه المواد أو أشرف على الأقل على عملية انتقائها.
نماذج عملية
في مضمار التطبيقات الإخبارية القائمة على جمع وتنظيم المحتوى، تأتي التطبيقات الإخبارية الصينية مثل Jinri Toutiao و Qutoutiao و Kuaibao في مقدمة التطبيقات التي توظف الذكاء الاصطناعي (تقنيات التعلم الآلي بشكل أساسي) لتقديم أخبار مخصصة تضخها لمستخدميها من مجموعة مختلفة من المصادر الإخبارية. وهناك أيضاً شبكة Newsdog التي تحقق نجاحاً مبهراً في الهند، أما في أندونيسيا فهناك استثمار بتطبيقات مماثلة من الشركة الأم المالكة لتطبيق Toutiao الصيني.
وفي أوروبا، تستخدم منصة MittMedia السويدية مبدأ تنظيم المحتوى، لتلبية طلب جمهورها على الأخبار المحلية، فإضافة إلى ما يعده صحفيوها، تضخ المنصة مواد من مصات مختلفة، وفي مقابلة مع مدير قسمها الإلكتروني، صرّح بأن المؤسسة توظف مطورين تقنيين ومبرمجين وخبراء في التعلم الآلي وعلماء بيانات، إضافة إلى طاقمها الصحفي من محررين في المكاتب وصحفيين يعملون في الميدان.
كيف يعمل؟
لن تصبح منصتك جاهزة للانتقال إلى مرحلة أتمتة المحتوى فجأة، أو بمجرد اتخاذك القرار، فالوصول إلى أتمتة ناجعة وسلسة وصحيحة، يفرض عليك في البداية أن تجلس مع فريقك وأن تضع بوضوح أهدافك من الأتمتة، والفرص التي ستجلبها لمنصتك، آخذاً بالاعتبار أن معرفة تفضيلات الجمهور خطوة أساسية كي تكون منصتك قادرة على إنشاء محتوى مُتابع باستمرار. سيحدث ذلك بمساعدة خوارزميات مدعومة بالذكاء الاصطناعي، والتي ستبحث عن موضوع معين بين كم هائل من المحتوى الإخباري المتاح أونلاين، ثم تقوم بتحليل هذا المحتوى وتصنيفه، ثم إرفاقه بإشارات تعريفية.
تقوم هذه الخوارزميات بتحليل المئات من المتغيرات للتنبؤ، بقدر كبير من الدقة، بالمشاركات التي من المرجح أن يعلق عليها المستخدم أو يخفيها أو يميزها كمحتوى غير مرغوب فيه أو ما شابه. ومن خلال القيام بذلك، يمكن تنظيم المحتوى في موضوعات، وإعادة ترتيبه استنادًا إلى بيانات وسلوك الجمهور، مع الدفع التلقائي إلى الواجهة بالمحتوى الأكثر طلبًا، لزيادة معدلات الوصول والتفاعل وتحسين التجربة الإخبارية.
هذه العملية يتم استخدامها حرفيًا من قبل الشبكات الاجتماعية مثل فيسبوك وتويتر وانستغرام ، والتي تدعي أنها تسمح للمستخدمين بمشاهدة المشاركات التي يهتمون بها فقط.
تعد البيانات كلمة السر وحجر الأساس في نجاح أي مشروع أتمتة للمحتوى، لا يعني ذلك البيانات الخام من تصفح المستخدمين لمنصتك وتتبع سلوكهم فيها فقط، بل يعني بشكل أكبر أن تقوم بتحليل وتنظيم وإعادة فرز هذه البيانات بما يضمن جدوى الأتمتة، وإلا فستكون مشروعاً مكلفاً مادياً وزمنياً. ومن الضروري بالطبع قبل القيام بهذه الخطوة الحصول على إذن المستخدم في توظيف بياناته، والشفافية معه حول الطريقة التي يتم بها استخدامها، وإلا فإنك ستكون معرضاً لمسائلة قانونية وانفضاض مستخدميك عنك حال ظهر للعلن أنك تستخدم البيانات دون إذن.
يتوقع الاتحاد الأوروبي زيادة استخدام أدوات أتمتة المحتوى، وإن كنت تدير منصة إخبارية، أو تنوي ذلك، فإن من الواجب عليك أن تبدأ بالتصالح مع الخوارزميات وتضع خططاً لتوظيفها بعملك
وعند الحديث عن الآلة، قد يعتقد البعض، مخطئين، أننا أمام برمجية معزولة عن العوامل النفسية البشرية والطباع الإنسانية (التحيز، العنصرية، المحبة، الكراهية، الخ)، لكن الحقيقة أنه ما دام هناك بشري يصمم هذه الخوارزمية ويوجهها، فإنها ستبقى أسيرة لأفكاره وتحيزاته وتوجهاته، وحالياً، فإن مصممي الخوارزميات بشكل أساسي هم رجال بيض يقطنون في وادي السيلكون، حيث يتركز رأس المال الغربي وتدشن أبرز أدوات الاستعمار الحديث.
كذلك فإن الخوازرميات ما تزال مبتدئة في التفاعل مع المعاني الضمنية، التهكم، والتشبيهات، ما يجعل أداءها غير فعال مع المواد الأدبية ومقالات الرأي وغيرها من المحتوى ذي اللغة والمضامين غير المباشرة. ما يعني أن مهمة مراقبة هذا النوع من المحتوى، إعداد العناوين والختلاصات له، كذلك تصنيفه وإرفاقه بإشارات ( Tags) من الأفضل إبقاؤها على عاتق البشر.
إيجابيات
يتوقع الاتحاد الأوروبي زيادة استخدام أدوات أتمتة المحتوى، وإن كنت تدير منصة إخبارية، أو تنوي ذلك، فإن من الواجب عليك أن تبدأ بالتصالح مع الخوارزميات وتضع خططاً لتوظيفها بعملك خلال العقد المقبل، وإلا فإنك تغامر بأن تفقد منصتك الرشاقة والتنظيم والدقة المفترضة في منصات المستقبل القريب. وهناك العديد من فوائد تجميع وتنظيم المحتوى، تشمل:
مساعدة الصحفيين على التركيز على كونهم العقل الصحفي المدبر الذي تستند له الآلة والخوارزميات في عملها.
توفير الوقت، بحيث يتيح لك إمكانية الاستفادة من المحتوى عالي الجودة المعد من قبل منصات أخرى، مع الحفاظ على تفاعل جمهورك مع منصتك.
يساعدك في العثور على المحتوى الذي يهم شرائح أكثر اختلافاً وتنوعاً، والحصول على تفاعلهم ومشاركاتهم.
يبقيك متماشياً مع أهم وأحدث الزوايا الإخبارية وآليات النشر والتحرير، في الوقت الذي يسمح به بمزيد من الوقت لفريقك للتركيز على إنشاء محتوى عالي الجودة وخاص بمنصتك.
تعزيز تصنيف موقعك على صفحات نتائج محرك البحث (SERPs).
تقديم اقتراحات أكثر تخصيصًا لزائريك، استنادًا إلى تواريخ البحث والإجراءات والمزيد.
تحديات ومخاطر
هناك إيجابيات كثيرة، لا شك، لكن هذا الميدان الصحفي يحمل في طياته أيضاً مشاكل حقيقية لا يستهان بها، خاصة إذا تم اللجوء له دون إرفاقه بطاقم تحريري يتولى مهام المتابعة والتدقيق والتحقق من المصداقية والتوافق مع المعايير المهنية. صحيح أن توظيف الخوارزميات لتجميع المواد من عدد أكبر وأكثر تنوعاً من المصادر يجلب معه معدلات وصول وتفاعل أعلى، لكنه في ذات الوقت يقلل من قدرة منصتك على الرقابة الأمنية ومنع انتشار روابط “صيد النقرات” (Clickbait headlines)، وتلك التي تحيل لمقاطع فيديو/ صور/ تغريدات تحمل إساءات أخلاقية أو تعلب على إثارة الحواس لجلب المشاهدات.
وهناك فعلياً تجربة مسجلة لهذه المخاطر، أثرت على عمل أحد أشهر تطبيقات تجميع الأخبار بالعالم، وهو تطبيق Toutiao الصيني، ذو الـ120 مليون مستخدم مسجل، ففي أبريل 2018، أوقفت الحكومة الصينية عمل التطبيق بتهمة نشر مواد مبتذلة وغير حقيقية، ما أثر على سمعته وانتشاره وأرباحه.
المصدر: مدونة اسطرلاب