عاش المجتمع التركي منذ نشأة الجمهورية عام 1923 أحداث ومتغيرات سياسية عديدة، فخلال ما يقرب من قرن عاشت الجمهورية خمسة تدخلات عسكرية في الحياة السياسية قام بها الجيش التركي سبقها حالة شديدة من الاستقطاب وصلت في بعض مراحلها إلى ما يشبه الحرب الأهلية خاصة في فترة ما قبل انقلاب عام 1980، حيث دارت اشتباكات واسعة بين أحزاب اليمين واليسار.
بالإضافة إلى ذلك شهدت البلاد حركة تمرد واسعة قام بها حزب العمال الكردستاني الذي دخل في مواجهة دموية مع الدولة التركية، كل هذه الأحداث وغيرها وفرت مادة دسمة لصناعة الافلام التركية لتناولها وعكسها للمشاهد التركي.
في هذا التقرير، نلقي الضوء على ثمانية من أبرز الأفلام التركية التي تناولت الحالة السياسية في بلاد الأناضول، خلال الفترات التي كانت تشهد فيها اضطرابات وانقلابات وتحولات كبرى في تاريخها.
1- فيلم الطريق “YOL”
يعد فيلم الطريق من أهم وأجود الأعمال الفنية التي أنتجتها السينما التركية ومن الأفلام التركية القليلة التي نالت قبولاً وتقديرًا على المستوى العالمي، حيث حصل الفيلم على السعفة الذهبية في مهرجان كان للأفلام سنة 1982.
يقارب الفيلم الأوضاع السياسية والاجتماعية في تركيا والمناطق الجنوبية الشرقية التي يتركز فيها الأكراد، من خلال تناول حكاية خمسة مساجين يحصل كل منهم على إذن بالخروج لمدة أسبوع بعد انقلاب 1980، لتجد هذه الشخصيات أن عوالمها الخاصة أصابها الكثير من التحول والتغير.
أُنتج الفيلم عام 1981 أي بعد الانقلاب العسكري بعام واحد، حيث أخرجه المخرج التركي الكردي الكبير يلماز غوني. الفيلم من بطولة الفنان طارق أكان الذي جسد دور سيد علي، والفنانة شريفة سيزر التي جسدت دور زينة زوجة سيد علي، وجسد الفنان نجم الدين تشوبان أوغلو دور عمر، والفنان تونكاي أكشا دور يوسف.
رغم الاهتمام الكبير الذي حازه الفيلم على المستوى العالمي والجوائز التي حصل عليها، ظل محظورًا في تركيا، حيث عرض أول مرة في تركيا بعد 17 عامًا من إنتاجه.
2- أبي وابني Babam ve Oğlum
يعد فيلم أبي وابني من أهم الأفلام التي تناولت حقبة ما بعد الانقلاب العسكري، حيث يصور الفيلم حالة الصراع بين الابن المتمرد على إرادة الأب المتجبر، حيث يظهر في وسطهما حفيد يمثل مستقبل العائلة الجديد في ظل مرض الابن واعتلال صحته بعد سنوات من الاعتقال في سجون النظام العسكري.
يرمز كل من أبطال الفيلم إلى حالة سياسية في تركيا ما بعد الانقلاب العسكري، فبينما يجسد الابن الأحزاب السياسية بطيشها وجموحها العالي يمثل الأب الدولة التركية المتعالية غير الرحيمة بأبنائها المخطئين في حين يمثل الحفيد الجيل الجديد لتركيا الحديثة.
أُنتج الفيلم عام 2005 وأخرجه المخرج تشايان إرماك وشارك في تمثيله كل من الفنان الكبير شيتين تيكندور والفنان فكرت كوشكان والفنانة شريفة سيزر. الجدير بالذكر أن الفيلم حاز عددًا من الجوائز داخل تركيا وخارجه، ونال تقديرًا من النقاد والمشاهدين.
3- فيلم أجنحة الليل “Gecenin Kanatları”
تقوم أطروحة فيلم أجنحة الليل على فكرة أن جزءًا أساسيًا من مصادر العنف السياسي يأتي من رد فعل على عنف سياسي آخر يتعرض له أفراد المجتمع سواء من الدولة أم أي الفواعل السياسية القائمة، فيروي حكاية الفتاة “gece” التي تتعرض عائلتها لمذبحة على يد قوات مكافحة الإرهاب سيئة الصيت خلال سبعينيات القرن الماضي الأمر الذي يشكل دافعًا وحافزًا للفتاة للانتقام والعزم على تنفيذ عملية انتحارية، حيث ترتحل الفتاة إلى إسطنبول لهذا الغرض لتقابل الشاب يوسف الذي سيكون لوجوده الأثر الكبير في حياة الفتاة.
أُنتج الفيلم عام 2009، حيث أخرجه المخرج سردار أكار، وسيناريو محسن قرمزي غول وبطولة الفنانة بيرين سات التي قامت بدور “gece” والفنان مراد أنالمش الذي جسد دور “يوسف”، إلى جوارهم شارك الفنان التركي الكبير يافوز بينغول والفنان أركان بتك قايا.
4- لتكن هذه الأخيرة “Bu Son Olsun”
ينتمي فيلم “لتكن هذه الأخيرة” لفئة الأفلام السياسية التي تتناول الانقلاب العسكري عام 1980 الذي يعد الحدث الأهم الذي عاشته الدولة التركية منذ تأسيسها، حيث يروي الفيلم بصيغة كوميدية حكاية مجموعة من المتشردين وكيفية تعاملهم مع قرار حظر التجوال الذي اتخذته السلطات العسكرية، فهؤلاء المتشردون ليس لهم غير الشوارع مسكنًا ومأوى، الأمر الذي يضعهم تحت طائلة الاعتقال في معسكرات الاعتقال التي امتلأت بالنشطاء السياسيين بمختلف توجهاتهم يمينًا ويسارًا، كما يسرد الفيلم كيفية تعامل هذه المجموعة مع النشطاء السياسيين وخاصة الناشط اليساري سنان.
أُنتج الفيلم عام 2012 وأخرجه المخرج التركي أورتشون بنلي، وبطولة الفنان التركي إنجين ألتان دوزياتان الذي جسد دور أرطغول في المسلسل التاريخي قيامة أرطغرل، وإلى جواره مصطفى أوزيلماز، والفنانة هازال كايا.
5- فيلم لغتان وحقيبة سفر “iki Dil Bir Bavul”
يسلط فيلم “لغتان وحقيبة سفر” الضوء على أهم القضايا المتعلقة بالمسألة الكردية في تركيا أي استخدام اللغة الكردية في التعليم، حيث يروي الفيلم حكاية معلم تركي قادم من مدن الغرب التركية ليمارس مهنة التدريس في قرية كردية في ولاية شانلي أورفة جنوبي شرق الأناضول ذات الأغلبية الكردية، حيث يواجه صعوبة بالغة في التعامل والتواصل مع أطفال القرية الذين لا يجيدون غير اللغة الكردية، فيما التعليم الرسمي في تركيا لا يتم إلا باللغة التركية.
كما يناقش الفيلم الأوضاع المعيشية الصعبة التي تعاني منها قرى الأناضول ومدى تراجع البنى التحتية والخدمات فيها.
ورغم الصعوبات المادية التي واجهت فريق الإنتاج والإخراج فإن الفيلم أُنتج عام 2008، حيث أشرف على إنتاجه وأخرجه أوزجور دوغان وأورخان أسكي كوى، عند بداية عرض الفيلم كان يحمل اسم الطريق إلى المدرسة، لكن تم تغييره لاحقًا ليحمل اسم “لغتان وحقيبة سفر”، حيث تشير لغتان إلى اللغة الكردية والتركية أما حقيبة السفر فهي تشير إلى وحدة المكان من القرية والمدرسة والمدينة والدولة.
6- فيلم وداعًا للغد “Hoşçakal Yarın”
يروي فيلم “وداعًا للغد” حكاية نهاية رموز يساريي الحركة الطلابية التركية في ستينيات القرن الماضي دنيز جيزميش وأصدقائه يوسف أرسلان وحسين عنان بعد إلقاء الدولة التركية القبض عليهم ومحاكمتهم بتهم متنوعة أفضت إلى إعدامهم، وتحولهم لاحقًا لرموز يتغنى بها الشباب التركي.
أُنتج الفيلم عام 1998، وأخرجه المخرج التركي ريس جليك، وشارك في بطولته برهان سيمسيك بدور دنيز جيزميش ومزلوم سيمن بدور يوسف أرسلان وبولنت كولاك بدور حسين عنان.
7- آلام من الخريف “Güz Sancısı”
يتناول فيلم “آلام من الخريف” أعمال الشغب الموجهة للأقليات اليونانية غير المسلمة التي شهدتها مدينة إسطنبول في سبتمبر/أيلول 1955 أو ما عرف لاحقًا بـ”بوغروم إسطنبول” من خلال تناول حكاية الحب التي تنشأ بين بهجت ابن رجل الدولة القومي والفتاة اليونانية إيلينا التي تعمل كفتاة ليل، فتغضب هذه العلاقة والد بهجت ورفاقه في الحزب، حيث تسير أحداث الفيلم إلى أن تتكثف في لحظة هجوم وعملية التدمير التي تتعرض لها محلات ومنشآت وبيوت الأقليات الأمر الذي يحمل نهاية تراجيدية لحكاية العشق المتجاوز لحدود الإثنيات.
يعد فيلم آلام من الخريف امتدادًا لفيلم لآلئ السيدة سالكيم المنتج عام 1999 الذي تناول ضريبة الثروة التي فرضت على الأقليات التركية، واقتبس من رواية للكاتب التركي يلماز كاراكويونلو، الذي ارتكز فيلم آلام من الخريف على روايته التي حملت نفس الاسم.
أخرج الفيلم المخرجة التركية تومريس جيريتلي أوغلو التي أخرجت فيلم لآلئ السيدة سالكيم، وشارك في التمثيل الفنان التركي مراد يلدرم بدور بهجت والفنانة التركية بيرين سرت بدور إيلينا.
8- حياة خفية “Saklı Hayatlar”
يسلط الفيلم الضوء على أزمة العلويين في الجمهورية التركية من خلال تناول حكاية عائلة تركية علوية اضطرت للهجرة إلى مدينة إسطنبول بعد مجزرة مدينة جرورم عام 1980، حيث تجد العائلة نفسها في وضع دائم لإخفاء هويتها وأصولها العلوية.
أنتج الفيلم عام 2011، وأخرجه آي هالوك أونال، وشارك في تمثيله الفنان يوسف أكغون والفنانة جيرين هندستان، بالإضافة إلى الفنانة زيرين سومر.
ختامًا، لسنوات طويلة ظلت الكثير من القضايا والمسائل السياسية رهنًا للرواية السائدة في المجتمع التركي والمقدَّمة من الدولة وأجهزتها البيروقراطية، دون أن يمنح أصحاب القضية فرصة سرد الرواية، لكن السنوات الأخيرة وبفضل جهود حكومات حزب العدالة والتنمية لموائمة معايير كوبنهاغن للانضمام للاتحاد الأوروبي وما تبعها من انفراج على مستوى الحريات السياسية، استطاعت السينما التركية طرق مساحات جديدة، كان تناولها مدعاة لجلب المتاعب، فظهرت عدد من الأفلام التي تناولت المسائل السياسية بمقاربات جريئة مثل فيلم رأيت الشمس للمخرج الكردي محسون قرمزي غول، الذي قارب الصراع الدامي ما بين الدولة التركية وحزب العمال الكردي من منطلق إنساني.
وبالرغم من حجم ونوعية النقلة التي حققتها السينما التركية في السنوات الأخيرة، الإ أنه ما زال أمام السينما التركية الكثير من المساحات والموضوعات لتناولها وطرقها.