“الحكاية لعبة خطرة قد تفلت من أيدينا في ذروة ما نعتقد أننا نملكها، وللحكايات باب واحد نلج منه ثم ندور في عالمه إلى الأبد ولا نجاة من الحكايات التي نتورط فيها”.
في روايته “رغوة سوداء” يحكي لنا الأديب الإريتري حجي جابر عن معاناة المهاجرين الأفارقة وأحلامهم المجهضة في البحث عن عالم أفضل بعد أن لفظتهم أوطانهم، يسرد جابر رحلة البؤس التي خاضها البطل سعيًا للسفر إلى أرض الخلاص والميعاد “إسرائيل”.
تبدأ رحلة داوود أو ديفيد أو داويت أو أدال من غوندار في إرتيريا مرورًا على مخيم إنداغابونا في إثيوبيا ثم حي نافيه شأنان في تل أبيب وأخيرًا شقة مشتركة في القدس، وبعد أن خاض البطل الذي غير اسمه كثيرًا هربًا من موطنه وأملًا في مستقبل أفضل رحلته الطويلة والشاقة لم يجد في “إسرائيل” المعاملة التي لطالما حلم بها، فكونه واحدًا من يهود الفلاشا جعل المجتمع الإسرائيلي ينبذه بشده لينتهي به الأمر مقتولًا على يد قوات الشرطة الإسرائيلية.. ومن هنا يبدأ الواقع.
أحد أفراد الشرطة الإسرائيلية يقتل فتى يهودي من أصل إثيوبي
مساء الأربعاء 3 من يوليو ثارت حالة من الغضب في جميع ربوع دولة الاحتلال “إسرائيل” وذلك على إثر مقتل سلومون تيكا، وهو فتى إسرائيلي من أصول إثيوبية يبلغ من العمر 18 عامًا على يد أحد أفراد الشرطة الإسرائيلية، وفور مقتله اشتبك الآلاف من يهود الفلاشا ذوي الأصول الإثيوبية مع قوات الشرطة الإسرائيلية في عدة مواقع، حيث أغلقوا الشوارع الرئيسية على نطاق واسع وأحرقوا سيارات الشرطة، ووفقًا لتقديرات وسائل الإعلام الإسرائيلية فقد شارك في الاحتجاجات نحو 60 ألف من يهود الفلاشا واعتقلت الشرطة ما يقارب 136 شخصًا منهم.
يضعنا حجي جابر من خلال روايته في قلب التمزقات الداخلية التي يعانيها بطل الرواية: ماذا يفعل بعد أن وصل أرض الميعاد؟ هل ينسى جميع آلامه ويبدأ صفحة جديدة؟ هنا يقرر البطل الاستناد على حائط المبكى مفكرًا في رحلته الطويلة
ودعا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المتظاهرين إلى الانضباط وحل المشكلات في إطار القانون، كما دعا إلى اجتماع وزاري لمناقشة مشكلات أقلية يهود الفلاشا ووصف عملية غلق الطرق العامة وحرق سيارات الشرطة بالأعمال غير المقبولة.
رغوة سوداء: المهاجرون الأفارقة يضيعون في جحيم أرض الميعاد
يضعنا حجي جابر من خلال روايته في قلب التمزقات الداخلية التي يعانيها بطل الرواية: ماذا يفعل بعد أن وصل أرض الميعاد؟ هل ينسى جميع آلامه ويبدأ صفحة جديدة؟ هنا يقرر البطل الاستناد على حائط المبكى مفكرًا في رحلته الطويلة.
وحين تقرأ لحجي جابر لا يمكنك أن تعرف تحديدًا متى ينتهي الخيال ومتى يبدأ الواقع، فالمعروف عن جابر منذ بداية مشواره الأدبي مع رواية سمروايت ومرورًا بمرسى فاطمة ولعبة المغزل أنه يطعم السرد الجمالي الأدبي بالحقائق التاريخية، كما أنه كرس قلمه من أجل الكتابة عن الصراعات السياسية في القارة الإفريقية.
وفي رواية “رغوة سوداء” يقص لنا جابر حكاية يهود الفلاشا كاملة، بداية القصة كانت من اعتناقهم للمسيحية عنوة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ثم عملية نقلهم سرًا من إثيويبا إلى تل أبيب في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين وكان يُطلق عليهم وقتها اسم “بيتا إسرائيل” وتعني جماعة “إسرائيل”، ولكن بعد عملية نقلهم فوجئ يهود الفلاشا أنهم لا يتمتعون بنفس الحقوق التي يتمتع بها باقي أفراد المجتمع الإسرائيلي، فهم مواطنون من الدرجة الثانية، وبعد مرور السنوات اكتشف الفلاشا أن “إسرائيل” تعاني من انقسامات عرقية حادة.
رفض معظم رؤساء وزراء “إسرائيل” مثل ديفيد بن غوريون وليفي إشكول وغولدا مائير وموشيه شاريت هجرة اليهود الجماعية إلى “إسرائيل”
والحقيقة أن الأمر لم يقتصر على نبذ المجتمع لهم ولكنه امتد إلى الحكومات أيضًا، فوفقًا ليعقوب وينشتاين المسؤول في الوكالة اليهودية الذي زار إثيوبيا عام 1949 وطلب الاستعجال بهجرة اليهود منها، فإن الحكومة الإسرائيلية في هذا الوقت عارضت طلبه لأنها ظنت أن اليهود المهاجرين يحملون أمراضًا معدية.
ورفض معظم رؤساء وزراء “إسرائيل” مثل ديفيد بن غوريون وليفي إشكول وغولدا مائير وموشيه شاريت هجرة اليهود الجماعية إلى “إسرائيل” كما وصل الأمر إلى إبعاد الموجودين بالفعل منهم في “إسرائيل” منذ سنوات طويلة بحجة عدم انطباق “قانون العودة” عليهم وبحجة أنهم مسيحيون، ولكن خلال عام 1975 وافق رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين على هجرة يهود الفلاشا وبدأت الهجرة الجماعية في الفترة الزمنية من 1979-1990 حيث وصل حينها 16 ألف يهودي إثيوبي إلى الأراضي الإسرائيلية في عمليتين سريتين هما “عمليتا موسى وسليمان”.
وبعد وصولهم ظل يهود الفلاشا في عزلة عن باقي المجتمع الإسرائيلي لأن القادمين في الهجرات الجماعية كان أغلبهم من الفقراء الأميين وفي ذلك الوقت بلغت نسبة البطالة بينهم نحو 80% وعاشوا في أفقر أحياء “إسرائيل” في مناطق معزولة عن الأشكناز والسفارديم.
عنصرية الدولة الإسرائيلية ضد يهود الفلاشا
في نوفمبر 2015 صوتت الحكومة الإسرائيلية على السماح بهجرة 9100 شخص من يهود الفلاشا، ولكن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ألغى القرار لأسباب تتعلق بميزانية الدولة، وفي مارس 2016 تظاهر المئات من يهود الفلاشا احتجاجًا على إلغاء قرار السماح لأقاربهم بالهجرة إلى “إسرائيل” واتهموا الحكومة الإسرائيلية بممارسة العنصرية ضدهم.
بعيدًا عن حوادث العنصرية التي يشتبك فيها يهود الفلاشا بشكل مباشر مع أجهزة الشرطة، هناك ممارسات عنصرية أخرى مثل رفض أبناء يهود الفلاشا في بعض المدارس الإسرائيلية وعدم السماح لهم ببيع أو تأجير البيوت في بعض الأحيان
في 3 من مايو 2015 تعرض جندي إسرائيلي من يهود الفلاشا للضرب المبرح على يد اثنين من قوات الشرطة دون أدنى سبب وعليه اندلعت مظاهرات واحتجاجات حينها هزت أركان تل أبيب، حيث أغلق يهود الفلاشا الطرق العامة بعد نشر فيديو يظهر فيه الجندي الإثيوبي وهو يتعرض للضرب وتحولت الاحتجاجات إلى مواجهات عنيفة بين الشرطة ويهود الفلاشا أسفرت عن إصابة 20 شرطيًا إسرائيليًا واعتقال 6 من يهود الفلاشا.
وبعيدًا عن حوادث العنصرية التي يشتبك فيها يهود الفلاشا بشكل مباشر مع أجهزة الشرطة، هناك ممارسات عنصرية أخرى كأن يُرفض أبناء يهود الفلاشا في بعض المدارس الإسرائيلية ولا يُسمح لهم ببيع أو تأجير البيوت في بعض الأحيان بل ووصل الأمر إلى رفض طلب التبرع بالدم من يهود الفلاشا خوفًا من الأمراض المعدية مثل فيروس نقص المناعة المكتسب “الإيدز”، ولهذا ففي الـ10 من يناير 2012 اقتحم أكثر من 3 يهود من الفلاشا مقر الكنيست رافعين شعارات “دمنا الأحمر يصلح فقط للحروب” و”وجوهنا سود ولكن قلوبنا بيضاء، وأنتم وجوهكم بيضاء ولكن قلوبكم سوداء”، وقال أحد المتظاهرين حينها “أن تكون إثيوبيًا في “إسرائيل” يعني أن تكون منبوذًا ومستضعفًا، وموضع شك”.