يشكل ملف المخدرات أحد أكثر الملفات الأمنية تعقيدًا في العراق، لا سيما بعد الانتهاء من مرحلة مكافحة الإرهاب واستعادة الأراضي العراقية من تنظيم داعش واستتباب الأمن، حيث بات هذا الملف الشغل الشاغل لوزارة الداخلية مع كشفها يوميًا عن إلقاء القبض على تجار ومواد مخدرة في مختلف المحافظات العراقية.
ويعد ملف المخدرات في العراق حديثًا نسبيًا، إذ إن البلاد كانت قبل الغزو الأمريكي عام 2003 من أكثر البلدان البعيدة عن التعاطي والإتجار بالمخدرات، إلا أنه ومع الغزو وانفتاح الحدود الدولية للبلاد وتراجع الوضع الأمني، ازدادت نسبة التعاطي والإتجار بمختلف أنواع المواد المخدرة، حتى باتت خطرًا جسيمًا على البلاد بحسب مسؤولين عراقيين.
إحصائيات رسمية
لم يتوقع أي من المتابعين للشأن العراقي وضعًا أكثر تشاؤمًا من الوضع الحالي في البلاد فيما يتعلق بقضية المخدرات، فوزارة الداخلية الاتحادية أحصت نهاية العام الماضي أعداد المعتقلين في البلاد والكميات التي ضبطتها الوزارة من مختلف أنواع المواد المخدرة.
وبعد أن كان يشار للعراق طيلة العقود الماضية على أنه ممر لعبور المخدرات من أفغانستان وإيران إلى أوروبا ودول الخليج، تشير البيانات الحكومية إلى أنه بات مستهلكًا نهمًا للمخدرات كذلك.
ووفق بيان للداخلية، فإن الكميات المضبوطة من المخدرات في عام 2024 بلغت أكثر من 6 أطنان، فيما بلغ عدد المعتقلين الإجمالي أكثر من 14 ألف معتقل من بينهم 512 ألقي القبض عليهم بتهم زراعة وتصنيع واستيراد وتصنيع المواد المخدرة، بما يشكل 3.5% من المجموع.
فيما بلغ عدد المعتقلين بتهم حيازة المواد المخدرة والمتاجرة بها نحو 7 آلاف معتقل بما يشكل 50% من إجمالي عدد المعتقلين، فيما ألقي القبض على نحو 6 آلاف معتقل آخر بتهم التعاطي الشخصي وبما يشكل نحو 44%.
وأعلن القضاء العراقي عن إجمالي عدد المحكومين الذي بلغ 8930 محكومًا، وبنسبة 62% من إجمالي عدد المعتقلين، حيث كشف القضاء عن أحكام بالإعدام بحق 144 معتقلًا و434 حكمًا بالسجن المؤبد، فيما توزعت بقية الأحكام بالسجن وعلى فترات مختلفة.
تهديد إرهابي
في مايو/أيار الماضي أعلن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أن حكومته ستتعامل مع قضايا المخدرات على أنها “تهديد إرهابي”، وأنها وضعت استراتيجية وطنية مكثفة لمكافحتها للسنوات 2023-2025 ضمن خطة موسعة نحو عراق خالٍ من المخدرات، في الوقت الذي يشكل الكريستال والكبتاغون أكثر أنواع المخدرات المتداولة.
في غضون ذلك، أكد الخبير الأمني صفاء الأعسم أن خطر المواد المخدرة يتجاوز خطر الإرهاب بنحو 12 ضعفًا، مبينًا أن انتشارها والإتجار فيها بدأ بعد عام 2006، ويتركز انتشارها وتعاطيها في محافظات العراق الجنوبية، وأكثرها محافظة البصرة تليها العاصمة بغداد، فيما تنتشر تجارتها وسط وجنوب العراق وأيضًا بعض المحافظات الغربية.
وعن مصادر المخدرات، يشير الأعسم إلى أن مصادرها الرئيسية هي دول الجوار المتمثلة بإيران ولبنان، وسوريا التي أصبحت مركزًا لتصدير عقار الكبتاغون، فضلًا عن دخول بعض أنواع المخدرات الأخرى مثل الكريستال عبر المياه الدولية من بعض دول الخليج وأيضًا من باكستان وأفغانستان، مبينًا أن نسب تعاطي المواد المخدرة بين فئة الشباب تجاوزت 25% نهاية عام 2023.
وفيما يتعلق بالإجراءات الحكومية، أوضح المتحدث باسم المديرية العامة لشؤون المخدرات في وزارة الداخلية العراقية حسين يوسف التميمي، أن وزارته ستعمل خلال العام الحالي وفق استراتيجية حكومية مصادق عليها، مع تبني القضاء العراقي أحكامًا رادعة بحق من يتاجر وينتج ويتعاطى المواد المخدرة.
وفي حديثه لوكالة الأنباء العراقية الرسمية “واع”، أكد التميمي أن مديريته ستعمل هذا العام بتنسيق أمني مشترك إقليمي ودولي لتوسيع عمل مكافحة المخدرات، بهدف الوصول إلى الشبكات المجرمة، خاصة على مستوى الشرق الأوسط، التي تحاول تهريب المواد المخدرة إلى العراق.
وفي ختام حديثه، أكد التميمي أن المراكز الخاصة بتأهيل متعاطي ومدمني المخدرات التابعة لوزارة الداخلية تمكنت من إعادة إدماج 3 آلاف متعاطٍ ومدمن بالمجتمع بعد شفائهم التام وفق برنامج طبي ونفسي بالتنسيق مع وزارة الصحة.
أسباب الانتشار
يشير العديد من الخبراء والباحثين إلى أسباب عديدة لانتشار المخدرات في العراق، إذ يرى رئيس المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق فاضل الغراوي، أن هناك أسباب عديدة ومعقدة لانتشار المواد المخدرة في البلاد، من بينها ضعف التوعية والرادع الديني والظروف الاقتصادية والبطالة والاستهداف الممنهج للشباب من عصابات الجريمة المنظمة.
كما بين أن ارتفاع معدلات العنف الأسري والتراكمات الناتجة عن الحروب والسلوك الجمعي والتأثر المباشر بالإعلام ومواقع التواصل والسلوكيات غير النمطية، كلها اجتمعت لتؤدي إلى زيادة تعاطي المخدرات، بما يتطلب تعديلًا جوهريًا لقانون مكافحة المخدرات في البلاد.
من جهته، يشير الخبير القانوني مصطفى العبيدي إلى أن قانون المخدرات المعمول به في العراق رقم 50 لسنة 2017 يضم عقوبات تصل إلى الإعدام، مبينًا أن المادة 27 تنص على عقوبات قاسية، حيث يعاقب بالإعدام أو المؤبد كل من يتورط بزراعة المخدرات والصناعة والاستيراد والتصدير، فيما تنص المادة 28 من القانون على عقوبات بالسجن المؤبد أو المؤقت بحق كل من يتاجر بالمخدرات محليًا سواء في نقل المخدرات أم ترويجها.
ويرى العبيدي في حديثه لـ”نون بوست” أهمية تعديل القانون ليشمل عقوبة الإعدام بحق كل من يروج ويتاجر بالمخدرات عمليًا، لا سيما أن الأجهزة الأمنية سجلت انتشارًا ملحوظًا للمخدرات في الجامعات والمدارس.
وكان مجلس النواب العراقي قد شرع قانون المخدرات والمؤثرات العقلية رقم 50 لسنة 2017، حيث يضم القانون 51 مادة قانونية تفصل في الجرائم المتعلقة بالمواد المخدرة وعقوباتها، وجاء تشريع القانون الذي يعد موسعًا، نتيجة دخول العراق في معاهدات دولية عديدة لمكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية.
طرق التهريب
تتنوع طرق تهريب وإدخال المخدرات إلى العراق، وتعد إيران وسوريا المصدران الرئيسيان للمخدرات في البلاد خلال السنوات الماضية، فبسبب طول الحدود العراقية المشتركة بين البلدين، غزت المواد المخدرة البلاد بشكل غير مسبوق.
وتورط نظام الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد في توريد المخدرات للعراق خلال السنوات التي أعقبت بدء الثورة السورية عام 2011، لا سيما في السنوات الأخيرة، حيث اعتمد النظام السوري المخلوع على صناعة الكبتاغون وتصديره باعتباره “مورد الدخل الوحيد” الذي اعتمد عليه بعد العقوبات الدولية التي فرضت على نظامه.
ويلاحظ خبراء الأمن في العراق عدم تسجيل السلطات العراقية في الأسابيع الماضية التي أعقبت سقوط نظام الأسد أي عملية تهريب من الأراضي السورية، وذلك وفقًا لعضو الفريق الوطني لمكافحة المخدرات في مستشارية الأمن القومي العراقي حيدر القريشي.
ويشير القريشي إلى أن الكبتاغون الذي دخل من سوريا كان يشكل نحو 90% من الكميات المتداولة في العراق، فيما كشف عن وجود سياسيين متنفذين وعصابات مسلحة تدير عمليات تهريب المخدرات وتوزيعها في العراق وتصديرها إلى تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي.
من جهته، يؤكد الخبير الأمني رياض العلي، أن النظام السوري المخلوع كان قد جعل سوريا عاصمة صناعة الكبتاغون في العالم، لا سيما مع الكشف عن المصانع العملاقة التي كان يديرها ماهر الأسد في ضواحي دمشق والمدن السورية الأخرى.
وفي حديثه لـ”نون بوست” يرى العلي أن تجارة المخدرات وإدخالها إلى العراق لا يمكن لها العبور لولا وجود بعض الثغرات الحدودية وتسهيل تهريبها إلى البلاد من جهات مسلحة، مؤكدًا أنه بعد سقوط النظام السوري بات العراق يسجل عجزًا في مادة الكبتاغون المخدرة بفعل انقطاع الإمدادات من الجانب السوري.
ولا يعد الكبتاغون المادة المخدرة الوحيدة في البلاد، إذ إن مادة الكريستال التي تعرف أيضًا بالميثامفيتامين، تنتشر في العراق في مناطق واسعة، ووفقًا لعضو الفريق الوطني لمكافحة المخدرات في مستشارية الأمن القومي العراقي حيدر القريشي الذي تحدث لموقع “الحرة”، فإن إيران تعد أحد أبرز منافذ دخول الكريستال والحشيش إلى البلاد.
ويضيف القريشي أن محافظات بغداد والبصرة وميسان وواسط وديالى والسليمانية تعد الأكثر تأثرًا بالكريستال والحشيش المهرب من إيران، فيما تتأثر محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين القريبة من الحدود السورية بالكبتاغون.
وبالعودة إلى الخبير الأمني رياض العلي، يشير إلى أن تجار المخدرات باتوا يعتمدون أساليب حديثة ومتطورة لتهريب المخدرات من العراق وإليه، مبينًا أن الأجهزة الأمنية العراقية كانت قد أعلنت في مرات عديدة عن رصدها وسيطرتها على طائرات مسيرة “درون” تعمل على تهريب المخدرات من العراق وإليه.
وبين العلي أن مخاطر المخدرات في البلاد باتت تؤرق المجتمع العراقي، والكثير من الجرائم الجنائية التي تقع في البلاد غالبًا ما تكون نتيجة قيام متعاطين بعمليات سرقة وقتل وسلب للحصول على الأموال لشراء المخدرات، التي يبدو أنها ستقتصر حاليًا على مادة الكريستال والأنواع الأخرى بعد تحييد الكبتاغون السوري نتيجة سقوط نظام الأسد في سوريا.