في أحد المحاضرات التي كان يقيمها المركز الثقافي في مدينة داريا بريف دمشق عام 2008، دخلت فوجدت رجلًا ينقد وبشكل كبير ابن خلدون ومقدمته، وكان المتكلم ينسف الرجل نسفًا على عكس ما يروى لنا عن عالم الاجتماع الكبير، اهتممت كثيرًا بما جاء وقتها في كلامه إلا أن اهتمامي الأكبر كان في شخصية الرجل المحاضر، لأبحث وأنا صغير عمن هو، فكان المؤرخ الفلسطيني والعالم اللغوي محمد محمد حسن شراب الفلسطيني الذي سكن في العاصمة السورية دمشق وقضى 30 عامًا في السعودية مدرسًا ومعلمًا.
لم يحالفني الحظ حينها لصغر سني أن أزوره إلا مرات قليلة كانت في الأعياد ومرةً لحضور درس في اللغة، إلا أنني أدركت أن ما يلقيه شرّاب كان أوسع من أن يحتمله عقل طالب علم مبتدء مثلي، كنت متحمسًا لحضور دروسه عندما أخطو خطوات علمية أكثر وينمو تفكيري وفهمي، إلا أن الأقدار كانت سيدة الموقف، فمع بداية الثورة السورية واشتداد المعارك خرج محمد شرّاب من المدينة التي عاش به ويقضي أجله خارجها.
وُلد محمد محمد حسن شراب في خان يونس من قضاء غزة سنة 1938، من عائلة شهيرة وعريقة، تعلم في خانيونس تعليمًا عامًا، تأثر بشيخه سليم سالم شراب الذي كان محفزًا له للانطلاق إلى الأزهر ونهل العلوم الدينية، وانطلق في رحلته التي كانت عام 1953، ويذكر في مقدمة أحد كتبه أن شيخه عندما استقبله في الأزهر “هيأ له المسكن بجوار الجامع وكانت بداية رحلته في طلب العلم”.
لقاء محمد حسن شراب مع أحد الصحف
توجه شراب إلى سوريا في زمان الوحدة بين مصر وسوريا عام 1959 ودرس في كلية الآداب قسم اللغة العربية بجامعة دمشق، وكان متفوقًا في دراسته، تخرج في الجامعة عام 1963، وفي تلك الحقبة كانت الأمور السياسية في سوريا متوترة إبان انفراط عقد الوحدة مع مصر، إلا أن انصرافه عن السياسة أبعده عن تأثيراتها المباشرة عليه، متابعًا دراسته حتى حصل على دبلوم في التربية.
تأثر شرّاب ببعض المؤرخين الفلسطينين واهمهم محمد عزة دروزة وأكرم زعيتر الذي أبدع في كتابة الأدب السياسي والمذكرات الوطنية، كما كان معجبًا بالشاعر إبراهيم طوقان، يأتي هذا الكلام في ترجمة له كتبها الشيخ عبده كوشك الذي توفي عام 2015 وهو من داريا ولازمه وكان يقرأ عليه كتبًا عديدة، إلا ان هذه الترجمة لم تُنشر ولكن حصلنا في “نون بوست” على الأوراق التي كتبها.
قضى الشراب 30 عامًا من عمره في المملكة العربية السعودية (1964ـ 1994)، متنقلًا بين الدمام وحائل والمدينة المنورة، عاملًا بين التدريس والمحاضرات في النوادي الأدبية والمجالس العلمية، وكتب في صحف المملكة ومجلاتها كمجلة المنهل ومجلة الحرس الوطني وكتب في صحيفتي عكاظ والبلاد، كان مهتمًا بالكتابة عن المدينة المنورة وأخبارها وتاريخها، وعن شعراء السعودية وأدبائها، ونال درجة الماجستير في الدراسات الإسلامية من معهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة عام 1980 في أثناء عمله في السعودية.
كان الشراب صاحب فكرٍ حر ونقاد ولا يسلم بأي شيء يصله مهما اشتهر بين الناس والكتب، فكان أول ما يسأل “من أين هذا الخبر”، وكان “بحاثة له صبر دؤوب على البحث”
قصد الشراب سوريا للعيش فيها بعد حرب صدام حسين على الكويت، واشترى بيتًا في المنطقة الشرقية من مدينة داريا بريف دمشق الغربي، وعاش حقبة التسعينيات بعيدًا عن الأضواء كونه غير حاصل على الأوراق القانونية التي تمكنه من العيش في سوريا، وكان يخشى من انكشاف أمره فيدخل في إشكالات أمنية لا يطيقها، وعاش معه ولده أحمد الذي تخرج في كلية الاقتصاد، وابنته كوثر المتخرجة في جامعة العلوم التطبيقية في تخصص الفيزياء التطبيقية، وله من ولديه أحفاد.
نقاد وبحاثة
كان الشراب صاحب فكرٍ حر ونقاد ولا يسلم بأي شيء يصله مهما اشتهر بين الناس والكتب، فكان أول ما يسأل “من أين هذا الخبر”، وكان “بحاثة له صبر دؤوب على البحث”، كما ذكر رامي السقا وهو أحد طلاب الشراب لـ”نون بوست”، ويذكر السقا أن الشراب “لم يكن يقف فقط عن البحث والنقد إنما كان أيضًا يهتم بعرض الأخبار التاريخية على آخر ما توصلت له العلوم الحديثة”.
وكما في الفقه شيوخ متمذهبين وآخرون يريدون الانفتاح على كل الشريعة، كان الشراب يرى عدم التعصب اللغوي ويريد الانفتاح على التراث اللغوي كاملًا وعدم الوقوف على مسائل البصريين والكوفيين أوغيرهم كما يذكر السقا، وبحسب طالبه فإن الشيخ له “وفاء منقطع النظير لفلسطين ولقومه ولكل ما يمت بصلة لأرضه وبرز هذا الشيء في الكثير من كتبه، وكان حريصًا على الانتماء للتراث الإسلامي وتنقيته من الإسرائيليات”.
اعتبر الشراب عالمًا في اللغة وله مؤلفات فريدة في بابها، ومن أهم كتبه معجم بلدان فلسطين وكتاب معجم الشوارد النحوية وشرح الشواهد الشعرية وكتاب المدينة النبوية فجر الإسلام وكتاب عز الدين القسام
يقول عنه المدير العام لمؤسسة فلسطين للثقافة الدكتور أسامة جمعة الأشقر: “الأستاذ شراب شخصية علمية خاصة، تعيش تفاصيلها في شخصيات أخرى كتب عنها وتأثر بها، وتشكلت له شخصية خلافية استثنائية، فهو شخص شديد النفور عظيم السخط قاسي الملاحظة يحط من قدر مَن أمامه لخلاف صغير في الرأي، ويعزي نفسه بأنه لا حياء في العلم ولا مهادنة في الحقيقة ولا مجاملة في الصواب”.
يُحسن الشراب الاستماع، لكنه لا يحسن المجاملة ولا يعرف طريق الدبلوماسية، “ولم ينفعه المخزون اللغوي الذي يمتلكه، ولا المعرفة البيانية التي ينقدها ويعرف دروبها بين سطور الكتب، في إنشاءها بين الناس من حوله” كما يذكر الأشقر.
مؤلفاته
ألف محمد حسن شراب ما يقرب من 40 كتابًا أفرد منها 20 لتاريخ فلسطين، ومعظمها منشور مشهور، وبعضها أوصى ألا يطبع إلا بعد وفاته لما فيها من نقد لاذع للكثير من الشخصيات المعاصرة له، ويعتبر الشراب عالمًا في اللغة وله مؤلفات فريدة في بابها، ومن أهم كتبه معجم بلدان فلسطين وكتاب معجم الشوارد النحوية وشرح الشواهد الشعرية وكتاب المدينة النبوية فجر الإسلام وكتاب الأخبار التوراتية اليهودية خرافات تكدر ينبوع التراث الإسلامي.
– معجم بلدان فلسطين، يعترف الشراب بأن معجمه عالة على المعاجم التي سبقته، ولكن ما دعاه إلى إعداده هو تفرق المواد بين الكتب والمطولات وبذلك يصعب الوصول إليها. وفي هذا الكتاب رتب مدن فلسطين وقراها بحسب ترتيب المعجم، وقام بتزويد الكتاب بالخرائط والرسومات الهادية إلى مواقع القرى والأودية والجبال، ووجهة عناية خاصة إلى القرى والمدن التي كانت مأهولة بالسكان في بداية العهد البريطاني.
– معجم الشوارد النحوية، يعتبر الشراب كتابه هذا خلاصةً لتجربته وحصاد سنوات طويلة في التنقيب من كتب النحو واللغة والأدب، لكن الكتاب خالٍ من الحواشي التي تعزو المادة إلى مصدرها، إلا أنه كان يرجع إلى مصادر موثوقة تعد من أمهات الكتب ويعد أصحابها من أهل الفتوى في اللغة والنحو.
كتب ألفها محمد حسن شرّاب
– شرح الشواهد الشعرية، جمع فيه الشواهد الشعرية النحوية، ورتَبها على حروف المعجم، فبلغت أربعة آلاف شاهد، من الهمزة إلى الياء، جمعها من أمَات كتب النحو، مبتدئًا بكتب سيبويه، ومنتهيًا بكتاب جامع الدروس العربية للشيخ مصطفى الغلاييني.
– المعالم الأثيرة في السنة والسيرة، يتحدث شرّاب في هذا الكتاب عن تحديد معالم السيرة النبوية، إذ أنه ضبط اسم المعلم وحدد مكانه بالقياس إلى أحد المراكز الكبرى الثابتة، وحدد المسافات بالأكيال، وذكر مسماه الجديد إن حصل للاسم تغيير، وهل هو موجود أم مندثر. وزودت المعجم ببعض المصورات.
– شعراء من المملكة العربية السعودية، نظرا لاهتمام شرّاب باللغة والأدب لفت انتباهه كثرة الشعراء السعوديين فقام بتقصي أخبارهم وجمع تراجم عنهم حتى تكدس في ملفه تراجم وأشعار لـ 261 شاعرًا مما تركوا آثارا مطبوعة قام بدراسة أشعارهم واستخلص آراء قيمة في نهضة الشعر في السعودية، حتى أنه في هذا الكتاب كتب مقدمةً في النقد وهي خلاصة متقدمة في هذا المجال.
ردّه على شوقي أبو خليل
يروي ماهر خولاني لـ “نون بوست”، وهو أحد من ارتادوا بيت محمد شرّاب للاستفادة من علمه، أن الشرّاب انتقد كتاب أطلس القرآن للدكتور شوقي أبو خليل، ورد عليه في كتاب لم توافق دور النشر على طباعته وهو باسم “أبو خليل يجسد الإسرائيليات من الفرات إلى النيل”، ويقول خولاني إن شرّاب يعتبر في كتابه أن تجسيد مواقع الأنبياء سليمان وداوود في فلسطين إنما هو تبنٍ للإسرائيليات وتوافقًا مع الرواية التي تقول بان أصل سكان فلسطين هم من اليهود.
ولم يجزم خولاني بقطعية ما يقوله شرّاب، لأنه حسب ما يذكر اعتمد على مراجع خاصة به كمؤرخ، مضيفًا، “إن الشرّاب كان حادًا برأيه ومايؤصل له من روايات كان لا يحتمل خطًأ بحسب مايرى”.
يقول الشراب عن نفسه إنه عظيم الاطلاع كثير القراءة يحب التدوين ويقضي حياته الأخيرة في الكتابة يعيش في أوراقه ويمضي وقته بينها، وهو جهير الصوت
آراؤه
للشرّاب آراء كثيرة في مختلف القضايا التي يكتب فيها باللغة والتاريخ، وكان حادًا عند رأيه، فيرى ألاَ يؤخذ التاريخ الإسلامي من القصائد أو الشواهد الشعرية، لأن رواة الشعر وجدوا نصوصًا يرويها الناس، وليس معها قصة، فحرصوا على أن يكون لكل بيت قصة، فوقعوا في الوضع والكذب والاختلاق والظن.
ومن أهم آرائه في التاريخ، أن يهود اليوم لا ينتمون إلى اليهود الذين كانوا في عصر النبوة بصلة، ويهود عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمتون إلى قوم موسى وهارون بصلة بل هم بعض الناس الذين جمعهم الملك الفارسي قورش في القرن الرابع قبل الميلاد وأسكنهم في فلسطين، كي يكون هناك حلفاء للفرس في فلسطين. ورفض الشراب تقسيم العرب إلى عاربة ومستعربة، ويرى أن العرب هم عربٌ واحدة، كما ذكر طالبه رامي السقا لـ”نون بوست”.
وبحسب الدكتور أسامة جمعة الأشقر في مقاله على مؤسسة فلسطين الثقافية “وقع لسانُ الشراب في كثير من الأدباء والكتاب وقد أغلظ في مرة كثيرًا للباحث العراقي الدكتور فاضل الربيعي صاحب كتاب فلسطين المتخيلة وأفتى بحرمة الاطلاع على كتابه لجهل صاحبه، وأعلن ذلك أمام الدكتور فاضل بحضور جمع من الباحثين والأدباء مما أثار الناس ضده رغم موافقة بعضهم لما يقوله”.
توفي الشراب يوم الخميس 31 من أكتوبر 2013 بعد نزوحه من بيته جراء الحملة العسكرية من النظام السوري على مدينة داريا التي كان يعيش بها
يقول الشراب عن نفسه إنه عظيم الاطلاع كثير القراءة يحب التدوين ويقضي حياته الأخيرة في الكتابة يعيش في أوراقه ويمضي وقته بينها، وهو جهير الصوت، وإذا تحدث في مسألة عادية أمام ملأ يخطب بهم ولا يتوقف حتى ينهي ما يريد قوله ولو اعترض المعترضون، فإن حصروه في وقت خرج من المجلس ثائرًا ذامًا.
فقر الحال والوفاة
يقول الشيخ عبده كوشك في ترجمته عنه أن محمد شرّاب، كان فقره فقر اختيار لا فقر إجبار، إذ أنه كان يملك بيتًا في منطقة المهاجرين بدمشق ولم يسكن به، لأنه يريد الابتعاد عن ضجيج الحياةن فاختار السكن في الريف.توفي الشراب يوم الخميس 31 من أكتوبر 2013 بعد نزوحه من بيته جراء الحملة العسكرية من النظام السوري على مدينة داريا التي كان يعيش بها، بعد مسيرة علمية حافلة بالمؤلفات والتصنيفات، التي تخدم المسار العلمي للتاريخ واللغة العربية.