أظهرت بيانات وزارة التجارة والصناعة المصرية أن 313 شركة مصرية صدرت منتجاتها إلى السوق الإسرائيلي خلال الأشهر الماضية، حيث تنوعت البضائع المصدرة ما بين مواد غذائية ومستلزمات طبية وملابس ومنسوجات ومواد بناء ومنتجات زراعية وأسمدة وزيوت ومنظفات وصناعات هندسية وإلكترونية ومشروبات غازية.
المتابع لنوعية تلك المنتجات يجد أنها تلبي بشكل كامل جميع احتياجات المواطن الإسرائيلي والحكومة العبرية معًا، هذا في الوقت الذي يعاني فيه سكان قطاع غزة المحاصرين منذ أكثر من 450 يومًا من الجوع والعطش والمرض والعراء والنزوح والتشريد، مستقبلين الموت بصدور عارية، إما قصفًا وإما جوعًا وإما بردًا، في تناقض يفضح الخذلان الأقرب للتواطؤ.
تتطابق بيانات التجارة الخارجية المصرية مع بيانات المكتب المركزي للإحصاء الإسرائيلي في أغسطس/آب الماضي، التي كشفت عن تسجيل نمو كبير في حجم التبادل التجاري بين القاهرة وتل أبيب، ووصل إلى 246.6 مليون دولار خلال الأشهر الست الأولى من 2024، بنسبة نمو 53% مقارنة بالفترة نفسها من 2023، بحسب ما أورده “معهد السلام لاتفاقات إبراهام”.
استثمار على جثث الفلسطينيين.. إصرار ممنهج
وفق مكتب الإحصاء الإسرائيلي فإن حجم التبادل بين مصر و”إسرائيل” زاد بشكل كبير منذ عملية “طوفان الأقصى” وبداية حرب غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، مقارنة بما كان عليه قبل ذلك، حيث حقق نموًا خلال الأشهر الست الأولى من 2024 بنسبة 53% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2023، كما زاد في المجمل خلال 2023 بنسبة 10% مقارنة بعام 2022.
وتعليقًا على هذا النمو الواضح في حجم التبادل التجاري بين البلدين، قال “معهد السلام لاتفاقيات أبراهام” إن تلك الأرقام تعكس ديناميكية العلاقات التجارية في المنطقة، لافتًا إلى أن تعزيز التعاون الاقتصادي الإقليمي عامل أساسي في تحقيق الاستقرار والازدهار والسلام في الشرق الأوسط على المدى الطويل.
تعكس تلك الأرقام إصرار الجانب المصري على المضي قدمًا في تعزيز التعاون الاقتصادي مع الكيان المحتل، بصرف النظر عن حرب الإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون على أيدي جيش الاحتلال، فالمكاسب المادية هنا مقدمة على أي اعتبارات، إنسانية كانت أو سياسية أو عروبية أو حتى دينية وأخلاقية.
ورغم حملات المقاطعة التي تناشد الحكومات العربية بتجميد علاقاتها الاقتصادية مع الاحتلال كرد فعل إزاء ما يتعرض له الفلسطينيون، حيث أكثر من 150 ألف مواطن بين شهيد ومصاب، ومليوني شريد ونازح، وتدمير ما يزيد على 80% من البنية التحتية للقطاع، فإن الحكومة المصرية كغيرها من حكومات دول المنطقة تصم آذانها عن تلك الاستغاثات التي لا تتوقف، وتفتح الباب على مصراعيه أمام التبادل التجاري بشتى السبل.
تواطؤ وخذلان
في 29 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي طالب رئيس الوزراء الأيرلندي سايمون هاريس حكومات الاتحاد الأوروبي بإعادة النظر في العلاقات التجارية مع الكيان الإسرائيلي بسبب الانتهاكات التي لا تتوقف في غزة، كما طالبت كل من إسبانيا وبلجيكا وسلوفينيا وغيرها من البلدان الأوروبية بالمطلب ذاته، فيما قلصت الكثير من البلدان من علاقاتها الاقتصادية مع “إسرائيل”.
وتنطلق تلك الدول في موقفها هذا من قاعدة الضغط على الكيان المحتل من خلال ورقة المقاطعة الاقتصادية، كإحدى الأسلحة السلمية المستخدمة لإجبار حكومة بنيامين نتنياهو على إعادة النظر في الحرب والانتهاكات الممارسة بحق الفلسطينيين، كما أنها رسالة مباشرة لدعم حق الشعب الفلسطيني في الحياة بعدما جرفته آلة التدمير الإسرائيلية.
تجدر الإشارة إلى أن الموقف الأوروبي يستند في مضمونه على البعد الإنساني في المقام الأول، رغم الخسائر والتداعيات المحتملة جراء هذا القرار، وهو ما يوسع البون الشاسع حين يُقارن بالموقف العربي على سبيل المثال، لا سيما خماسي التطبيع (الإمارات – مصر – المغرب – الأردن – البحرين) الذي بلغ حجم تبادله التجاري مع “إسرائيل” 4 مليارات دولار، خلال الأشهر العشر الأولى من الحرب (أكتوبر/تشرين الأول 2023-أغسطس/آب 2024) مقارنة بـ3.6 مليار دولار خلال الفترة ذاتها من عامي 2022-2023، بزيادة قدرها 400 مليون دولار.
وفي الحالة المصرية فالأمر أكثر قبحًا، إذ يتجاوز الوضع حاجز اللوم والعتاب إلى حواف التواطؤ، فالدولة التي تمتلك العديد من أوراق الضغط لم تفكر في استخدام أي منها، فلديها اتفاقية سلام مع المحتل، وحدود مشتركة، وعلاقات اقتصادية متنامية، وصفقات غاز ومواد نفطية وطاقة، وتعاون استخباراتي وأمني، ولديها قناة السويس المحورية، ومع ذلك لم تستخدم تلك الأوراق التي يمكن لواحدة فقط منها أن تُحدث الفارق إذا ما استخدمت بشكل مدروس.
المخزي هنا أن مصر ومعها الرباعي الآخر (الإمارات – الأردن – البحرين – المغرب) عوضت “إسرائيل” عن الحصار الذي فرضه الحوثيون عليها في البحر الأحمر، حين منعوا السفن الذاهبة إلى موانئ الاحتلال من العبور عبر مضيق باب المندب ثم إلى قناة السويس، ما أصاب موانئ إيلات وأسدود وحيفا بالشلل التام ودفعهم لتسريح العمالة بهم.
وبخلاف الجسر البري الذي دشنته الإمارات، مرورًا بالسعودية والأردن، لدعم الإسرائيليين بالمنتجات والبضائع اللازمة، في الوقت الذي يعاني فيه مليونا فلسطيني من الحصار المطبق، فتحت مصر موانئها على البحر المتوسط لاستقبال السفن المتجهة من وإلى “إسرائيل”، وفق ما كشفته المصادر المفتوحة للمواقع البحرية الراصدة لحركة السفن بين الموانئ.
ورصدت تلك المصادر ومن بينها موقع Vesselfinder (المتخصص في تتبع حركة السفن) في العاشر من سبتمبر/أيلول الماضي، تنقل 15 سفينة بين الموانئ المصرية أبو قير والعريش وبورسعيد ودمياط والسويس، والموانئ الواقعة تحت سلطة الاحتلال أسدود وحيفا، وقد حملت تلك السفن أعلام دول بنما وليبيريا وإسبانيا وسنغافورة والدنمارك ودولة سانت فينسنت والغرينادين.
ومن بين السفن المرصودة السفينة “Pan GG” التي تبحر تحت العلم المصري، وتنقلت بين الموانئ المصرية وموانئ الأراضي المحتلة، في رحلات متكررة، قبل عملية “طوفان الأقصى” وبعدها، حيث تقوم بنقل البضائع بين البلدين، ويقع مقر إدارة تلك السفينة في منطقة مصر الجديدة بالقاهرة، حسب موقع “marine man” المتخصص في بيانات السفن.
وتتنوع البضائع التي تحملها تلك السفن بين مواد بترولية وسلع ومنتجات غذائية وخدمية، كذلك مستلزمات طبية وإغاثية عاجلة، فضلًا عن حمل بعضها للأسلحة والمواد الداخلة في الصناعات العسكرية، التي يستخدمها جيش الاحتلال في قصف وقتل وإبادة الفلسطينيين، العملية التي يشوبها التواطؤ والتورط في جرائم الحرب التي يرتكبها الكيان الصهيوني في القطاع.
قد يتحجج البعض بأن الدولة ملتزمة بالاتفاقيات الدولية الخاصة بحرية النقل البحري ولا يمكنها عرقلة تلك السفن، لكن هناك أساليب وأدوات عدة كان يمكن لمصر – إذا ما كانت هناك إرادة سياسية – الاستناد إليها لتقليص هذا الأمر وتعقيده، مع إرسال رسالة امتعاض واستنكار ورفض لما يقوم به المحتل في الأراضي الفلسطينية، لا سيما فيما يتعلق بالسفن التي تحمل مواد عسكرية وأسلحة، لكن أن تتم العملية بتلك الأريحية المطلقة وكأن شيئًا لم يكن، فهذا أمر مثير للريبة والشك.
تقزيم دور مصر الإقليمي
ما تقوم به “مصر السيسي” من دعم للكيان المحتل مقابل الضلوع في تشديد الحصار على شعب غزة، يقزم بشكل واضح دور البلد العربي الأكبر إقليميًا، ويزيحها بعيدًا عن قيادة الأمة العربية، حسبما أشارت القيادية في الحزب الناصري المصري، كريمة الروبي، التي قالت في تصريحات لها إن النظام الرسمي الحالي ما عاد يمثل الشعب.
وأضافت أن الموقف الرسمي المصري الذي يتماهى مع أجندة الاحتلال شكلًا ومضمونًا، كشف عن المسافة الكبيرة التي تتسع يوما تلو الآخر بين الأنظمة والشعوب، فمن خلال عشرات المواقف التي اتخذتها الدولة منذ “طوفان الأقصى” تبين أن النظام في وادٍ والمصريين في وادٍ آخر، ففي الوقت الذي اختارت الدولة الاستمرار في مسار التعاون مع المحتل وفق مقارباتها الخاصة، كان خيار الشعب واضحًا، المقاطعة لكل ما يمت لـ”إسرائيل” بصلة، مهما كانت التداعيات.
وفقدت مصر خلال العشرية الأخيرة تحديدًا الكثير من ثقلها الإقليمي، إذ التزمت بسلسلة من المقاربات المكبلة لها، أبعدتها عن الكثير من الملفات والقضايا الإقليمية المحورية، في السودان وليبيا واليمن والصومال واليمن وسوريا، ثم كانت الفاجعة الكبرى حين تخلت عن دورها في القضية الفلسطينية، مكتفية بدور الوسيط المنسق بين طرفي الأزمة، دون التدخل الحاسم الحازم كما كان في السابق.
المقاطعة الشعبية.. صفعة على وجه الخذلان الرسمي
على الجانب الآخر عبر المصريون عن موقفهم بشكل عملي انتصارًا لمبادئهم ودعمًا للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، دون أي مقاربات أو حسابات مكبلة، وذلك من باب أضعف الإيمان، وهو ما تكشفه الأرقام الخاصة بالمقاطعة، إذ جاءت مصر في المرتبة الثانية – بعد الأردن – بين الدول العربية في مقاطعة الشركات الداعمة للاحتلال.
وأسفرت حملات المقاطعة الشعبية المصرية عن تراجع أرباح الشركات العالمية التي أعلنت دعمها للكيان المحتل منذ بداية الحرب، أبرزها سلسلة متاجر “ستاربكس” للقهوة، حيث تراجعت مبيعاتها 7% خلال الفترة بين يوليو/تموز وسبتمبر/أيلول 2024، مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، وشركة “أمريكانا” للمطاعم، والحاصلة على امتياز سلاسل عالمية، أبرزها “بيتزا هت” و”كنتاكي”، وهي مدرجة كذلك في البورصة السعودية، فقد انخفض صافي أرباحها خلال الأشهر التسع الأولى من العام الجاري إلى 117.4 مليون دولار مقارنة بـ226.7 مليون دولار خلال الفترة ذاتها من العام الماضي بنسبة تراجع وصلت 48.2%، كذلك شركات “ماكدونالدز” و”كوكاكولا” و”بيبسيكو”.
BREAKING: After Carrefour’s closure in Jordan due to sustained BDS pressure, Majid Al Futtaim Group, the partner of the French Group Carrefour in most of the Arab region, announces “Carrefour will cease operations in Oman” as of January 7, 2025. pic.twitter.com/5gPH8agALm
— BDS movement (@BDSmovement) January 7, 2025
وتحولت المقاطعة الشعبية إلى منصة كبيرة يعبر فيها الشارع العربي عن رفضه لمقاربات الأنظمة، متحررًا من الحسابات المنبطحة كافة، وهو ما تترجمه بيانات الشركات الداعمة للاحتلال عن تداعيات هذا السلاح الشعبي على مبيعاتها وأرباحها، لعل آخرها سلسلة متاجر “كارفور” التي أعلنت عن إغلاق جميع فروعها في سلطنة عمان في السابع من الشهر الجاري، بعد شهرين فقط من إغلاق فروعها في الأردن، نتيجة لتأثير الحملات الشعبية والمقاطعة على مواقع التواصل الاجتماعي ومدى تأثيرها على مسار الشركات الكبرى.
مُخطئ نظام السيسي حين يتوهم أن تقديم طوق النجاة للاحتلال عبر تعزيز التبادل التجاري معه، أيًا كانت المقاربات، سيساعد في ترسيخ أركانه وحمايته من أي تبعات محتملة، فالاستثمار على أشلاء الفلسطينيين، والمشاركة في إطباق الحصار عليهم، والاصطفاف إلى جانب الكيان الإسرائيلي على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، عار سيظل يلاحق هذا النظام مهما تمترس خلف جدران عواصم جديدة أو قديمة، آجلًا أم عاجلًا.