تُعدّ مسألة الهوية في الجزائر من الإشكاليات القديمة المتجددة، حيث يشتعل فتيلها بين الفينة والأخرى، كلما سعت بعض الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي لإلهاء الرأي العام عن قضاياه المصيرية. ولقد تشكلت معالم هذه الأزمة مع بدايات الحقبة الاستعمارية، ثم طفت إلى السطح غداة الاستقلال، بعد سجل نضالي ضد المستعمر وصف بأنه “النضال الحقيقي في تاريخ العرب”.
في 22 من فبراير المنصرم، عزم الشعب الجزائري أن يحيا من جديد ويضع حدًا لشبح الخوف الذي طارده منذ العشرية الدامية، ليتحرر هذه المرة من قيود الترهيب الذي انتهجه نظام بوتفليقة، وينزل إلى الشوارع والساحات في حراك سلمي، مطالبًا مبدئيًا، رئيسه المريض، بالعدول عن الترشح لعهدة خامسة، ومن ثم، القطيعة الراديكالية مع كل رموز النظام.
هو حراك أراده الشعب الجزائري أن يكون الفيصل بين جراح الماضي وآفاق مستقبل، غير أن لعنة التاريخ – المفتعلة بفعلة فاعل – لا تزال تطارده، حتى في تفاصيل نضاله من أجل مستقبله، بل قد تصبح عقبة مستقبلية، يصعب تخطيها ما لم يتخلص الجزائري من قيود الماضي، كي يصنع مستقبله المنشود.
إن أزمة الهوية في الجزائر ليست وليدة تصريحات غير مسؤولة، بل قضية ظهرت بوادرها منذ العهد الأول مع المستعمر الفرنسي
ما يدعو للتساؤل: هل المجتمع الجزائري، بشرائحه المتنوعة، قادر على التعاطي مع مثل هذه المسائل الشائكة التي ستواجهه في مستقبله المرجو ومناقشتها بكل جرأة بعيدًا عن التشنجات والانقسامات؟
إن أزمة الهوية في الجزائر، ليست وليدة تصريحات غير مسؤولة، بل قضية ظهرت بوادرها منذ العهد الأول مع المستعمر الفرنسي، حيث لعب على الوتر العرقي، ليفكك لحمة الشعب الجزائري ويطبق مخططاته الاستعمارية تحت لواء المثل المعروف “فرق تسد”، وهذا استنادًا إلى ما خلص إليه مؤتمر التبشير الذي انعقد سنة 1867 على لسان الكاردينال شارل لافيجري، قائلاً: “رسالتنا تتمثل في أن ندمج البربر في حضارتنا التي كانت حضارة آبائهم”.
هنا يجب الإشارة إلى أن هذا المؤتمر الذي انعقد في منطقة القبائل، كان يهدف إلى إدماج فئة من الشعب الجزائري على حساب فئة أخرى، وذلك لتفكيك بنية المجتمع، غير أن هذا المشروع باء بالفشل وتحولت منطقة القبائل إلى صوت نضالي يطالب بالاستقلال، كما ذهب إلى ذلك الباحث في التاريخ علي قنون في كتابه (“نجم شمال إفريقيا” في سنة 1926 كانوا من أبناء منطقة القبائل).
وما يعزز هذا الطرح، ما أشار إليه المناضل آيت أحمد في مذكراته “مذكرات مكافح ” أن عدد مناضلي حزب الشعب التحرري في منطقة القبائل كان يفوق نظيره في باقي أقاليم الوطن.
ظهر تيار معارض داخل حزب الشعب، يطالب بالاعتراف بالعمق الأمازيغي للشعب الجزائر، نتج عنه اغتيال بعض الوجوه النضالية المنتمية إلى منطقة القبائل مثل مبارك آيت منقلات سنة 1956
لكن من عباءة نفس الحزب، ظهرت للعلن أزمة الهوية التي التصقت بالجزائر على مر تاريخها المعاصر، ففي مؤتمر الحزب الذي انعقد سنة 1949 ظهرت المعضلة التي تعرف بـ”الأزمة البربرية”، بعد مذكرة قدمها زعيم الحركة الوطنية مصالي الحاج لمنظمة الأمم المتحدة، مختزلاً فيها مكونات الهوية الجزائرية في العروبة والإسلام، دون الالتفات إلى البعد الأمازيغي، هو ما شكّل منعرجًا خطيرًا في تاريخ النضال الجزائري، حسب وجهة نظر المحامي علي يحي عبد النور في كتابه “الأزمة البربرية”.
حيث ظهر تيار معارض داخل حزب الشعب يطالب بالاعتراف بالعمق الأمازيغي للشعب الجزائر، نتج عنه اغتيال بعض الوجوه النضالية المنتمية إلى منطقة القبائل مثل مبارك آيت منقلات سنة 1956، ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد، بل ازدادت تعقيدًا بعيد الاستقلال، عندما تبنى نظام بن بلة ثم تلاه بومدين، مشروع القومية العربية التي سعت إلى استئصال المكون الأمازيغي بطريقة راديكالية من الهوية الوطنية، الشيء الذي تسبب في أحداث الربيع الأمازيغي سنة 1980، بعدما منع المفكر مولود معمري من إلقاء محاضرة عن الشعر الأمازيغي.
تلتها أحداث “الربيع الأسود” سنة 2001، التي خلفت خسائر مادية وبشرية جسيمة، تمخضت عنها بعد فترة من المد والجزر، مكاسبًا معتبرة، أهمها الاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة رسمية للبلاد إلى جانب اللغة العربية، لكن في المقابل، أحدثت تلك الأزمة شرْخًا وسط المجتمع، حيث ظهرت حركة المتطرفة بقيادة فرحات مهني، وطالبت مبدئيًا بالحكم الذاتي لمنطقة القبائل، ومن ثم انفصال هذه المنطقة عن باقي الأقطار الجزائرية.
إدراج قضية الهوية في إطار المقارنة بدل التقارب، يزيد من حساسية الإشكالية
إن هذه المعطيات، تظهر جليًا، أن ما كان للأزمة الهوياتية أن تقوم لها قائمة لولا الأخطاء التاريخية الجسيمة التي ارتكبت تحت غطاء الإيديولوجية البعثية بمدها القومي، مثلما جاء طرح الباحث الطيب آيت حمودة في مقاله المعنون “الأزمة البربرية 1949 ومفهوم الجزائر الجزائرية”.
غير أن هذه التراكمات التاريخية التي جعلت شريحة كبيرة من المجتمع الجزائري تعيش في دوامة تاريخية يصعب الخروج منها، لا تفسر بأي حال توظيفها في السجل الجديد من صراع الهوية الذي تمحور حول الراية الأمازيغية التي ترفع مع العلم الوطني، في مظاهرات تطالب ببناء جزائر الغد.
ذلك أن وظيفة المقارنة بين العلم الوطني والراية الأمازيغية، تحمل في طياتها عقدًا ثقافية وتاريخية عميقة لا تزال تعاني منها بعض الطبقة المثقفة، مثلما وصفها الناقد عمر أزراج في مقاله الصادر عن جريدة العرب تحت عنوان “هل أمازيغ الجزائر انفصاليون حقًا؟”.
فإدراج قضية الهوية في إطار المقارنة بدل التقارب، يزيد من حساسية الإشكالية، وهذا ما ظهر، حينما ذهب البعض ينفس عن مكبوتاته التاريخية تجاه الدولة السلجوقية، حيث أرجع تاريخ العلم الجزائري إلى الحقبة العثمانية في الجزائر، والبعض الآخر أخذ يصفي حساباته مع أب الوطنية مصالي الحاج وزوجته الفرنسية إيميلي بوسكانت التي ناضلت من أجل جزائر حرة تسع الجميع، أما الشق الثالث، فلجأ إلى التخوين، بإرجاع أصول الراية الأمازيغية إلى ضباط منظمة الجيش السري الفرنسي التي كانت تهدف إلى منع استقلال الجزائر بشتى الطرق.
يرى المفكر اللبناني أمين معلوف أن الهوية ليست ثابتة بل تتغير مع مرور الوقت (الهويات القاتلة)، على أسس هذه القاعدة الجوهرية يجب أن تناقش قضية الهوية – التي هي رهينة مستقبل الجزائر – بكل موضوعية
يقول الباحث المغربي أحمد عصيد: “شعوب شمال إفريقيا والشرق الأوسط عندما تصطدم بعقبة، تعود إلى الماضي لتبحث فيه عن حلول” وهو ما يحدث اليوم مع بعض الذهنيات المصابة بداء الرجعية، فبدل أن تلتف حول رؤية مستقبلية تجعل الجزائر بلدًا يرقى إلى تطلعات شعب متعطش للحرية والابداع، تفضل التباكي على الأطلال ومحاكمة الأموات.
يرى المفكر اللبناني أمين معلوف أن الهوية ليست ثابتة بل تتغير مع مرور الوقت (الهويات القاتلة)، على أسس هذه القاعدة الجوهرية، يجب أن تناقش قضية الهوية – التي هي رهينة مستقبل الجزائر – بكل موضوعية، بعيدًا عن الأيديولوجيات المقيتة، وذلك داخل إطار مؤسسات فاعلة، دون إقصاء ولا تمييز.
فوطنية آيت أحمد التي وضعت خلافاته الهوياتية والسياسية مع أحمد بن بلى إلى جنب، عند أزمة الحدود مع المغرب، وتماسك المجتمع الجزائري عند العشرية السوداء التي لم ترحم لا أمازيغيًا ولا عربيًا، ووحدته في حراكه الشعبي، هي من ستنجح في تخطي “امتحان الهوية” وتلقي بها إلى الأبد في زنازين التاريخ.